قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
----------------------------------

مطلوب منى أن أختار من القصص المرسلة للفحص أربع قصص تستحق النشر فى «العربي» لا تزيد كل قصة على 500 كلمة، ماذا لو كانت القصص التي تستحق النشر لا تصل إلى أربع؟ ماذا لو كانت إحدى هذه القصص تزيد كلماتها على 500 كلمة؟ كل هذا لابد أن يدخل في تقييم التجربة!

ولأبدأ بقصة «كيف تحملت السجن؟» لعبد القادر حميده من الجزائر ولعلها أكمل القصص الأربع، مع أنها قصة واحدة إلا أنها تمضي على محورين، المحور الأول هو البحث عن معنى العبارة التي تؤرق الراوي وهي للشاعر أونتي تقول العبارة: «ولكن عندما يرغمونك على الانعزال فالأمر يختلف تمام الاختلاف» الراوي يتذكر العبارة ولكنه لا يتذكر في أي كتاب وردت ولا في أي سياق؟ «البحث عن المعنى الغامض» أساس المحور الأول، المحور الثاني هو المعلومات التي تتسرب إلينا من خلال رحلة البحث وكأنها غير مقصودة ولكن في هذه المعلومات غير المقصودة يكمن المعنى الغائب في العبارة الغامضة، فمن خلال هذه المعلومات نعرف أن الراوي دخل السجن بسبب تحقيق صحفي ضد السلطة، وتحمل بشجاعة معاناة السجن، لكنه بعد خروجه آثر اعتزال الناس ليحيا في سلام مكتفيا بمقالات هادئة يكتبها في جريدة «الناس». وهو يكتب المقال الأخير للجريدة يعثر بالصدفة فى إحدى المجلات على الحوار الذى نشرت فيه عبارة «أونتى» الناقصة ويعرف أنها جاءت إجابة عن سؤال كيف تحملت السجن؟! حين يصل قارئ القصة إلى هذا الجزء من المعلومات في المحور الثاني فإنه يكتشف للقصة كلها بمحوريها معنى جديدا مثيرًا، فاعتزال الكاتب الناسَ بعد خروجه من السجن، مع أنه باختياره هو، أدخله فى سجن أكبر، أما حين كان سجينا بسلطة الدولة فقد كان يقاوم هذا السجن ويتحمله، وكانت هذه المقاومة هى حريته.

القصة الثانية بعنوان «حوار سردى» بقلم سعد أحباط من المغرب، في هذا العنوان يكمن مغزى القصة كلها، فالحوار يكون بين صوتين أو أكثر والسرد يكون صوتا واحدا فكيف يتوحد المتعدد ويتعدد الواحد؟ تسعى هذه القصة بطموحها الكبير إلى أن تمسك بالخيوط الناعمة لهذه الإشكالية الكبيرة فى صفحة واحدة؟! فأن يكون الإنسان ذاتا متفردة ليس معناه أن يختصر هذه الذات فى لون واحد بل معناه أن يعرف كيف يجعل تعدد ألوانها باقة واحدة، فهذه هي الطريقة الوحيدة لتصبح هذه الباقة أكثر غنى حين تتفاعل مع غابة المجتمع الكبير المتعدد الأطياف والألوان دون أن تفقد ذاتها كباقة فريدة! لعل هذا هو المعنى الذي أراد الكاتب أن يصوره في صفحة واحدة، كان الله في عونه وفي عون القارئ!

وفي القصة الثالثة «الهاوية» بقلم خالد النهيدي من اليمن، تجسد هذه القصة حالة الرعب الذي يتملك أي مواطن يعيش في دولة بوليسية.إنه يشعر بأنه يعيش على حافة «هاوية» لا يدري متى ولا كيف يسقط فيها؟! هذا الرعب يتسلل إلى أحلامه كما يتجلى في يقظته! فيصبح نهاره وليله وجهين لعملة واحدة! ما يراه بطل هذه القصة - وهو الراوي - في أحلامه يحدثنا بلغة الأحلام عما يجري له في يقظته، ولعله نتيجة له. وحين يصحو فزعا من كوابيس أحلامه فإن ما يراه وما يحدث له بعد يقظته في هذه القصة يبدو كأنه يأتي في وقته المناسب ومكانه الصحيح، فهل كان بمقدور قارئ القصة أن يدرك المعنى الكامن في كلام الصديق «علي» ما لم يكن قد شارك البطل ما رآه في أحلامه! القصة بهذا البناء تنجح فنيا, مع بعض الهنات اللغوية.

القصة الرابعة بعنوان «سكينة» بقلم عبد الجواد خفاجى من مصر، «سكينة» فلاحة مصرية عجوز فقدت ولديها، أحدهما في ما يسمونه «النكسة»، والثانى في ما يسمونه «الحرب العراقية الإيرانية»، ولكن القصة تبدأ بعد وفاة زوجها العجوز، وبعد أن يبدو كأن كل شيء قد انتهى لتوضح القدرة المذهلة لهؤلاء البسطاء وحتى فى هذه المرحلة من العمر على مواصلة الحياة باستغناء وزهد ورضا تتحول من خلالها لتصبح أسطورة من أساطير القرية ترويها هذه القصة فى بساطة وجمال.

---------------------------------------

كيف تحملت السجن؟
عبدالقادر حميدة (الجزائر)

قال خوان كارلوس أونتي: «..ولكن عندما يرغمونك على الانعزال.. فالأمر يختلف تمام الاختلاف».

هذه العبارة لأونتي.. نعم لاأزال أتذكر ذلك جيدا.. إنه الشاعر..

لكن من أين أخذتها.. قد تكون من إحدى رواياته.. لأتأكد من ذلك الآن بنفسي..

ها هي رواية «الحياة القصيرة «..أوراقها مالت إلى الاصفرار، لقد اقتنيتها منذ أزيد من خمس سنوات، طبعا لا تصح هنا عبارة اقتنيتها، بل الأفضل أن أستعمل (انتشلتها من الضياع)، وجدتها مرمية بلا انتباه مع بقايا خردة كان يبيعها ذلك الخمسيني المصفر الأسنان الذي اعتاد أن يبيع كل شيء وأي شيء في سوق «الجمعة»، كان هذا الخمسيني كلما يراني يبتهج لأني أضفي قيمة ما على تلك الكتب التي أنقب عليها بين الخردة، وبعد أن أنفض عنها الغبار، أحدثه قليلا عن قصة كل واحد منها..

قلبت صفحات «الحياة القصيرة» لكنني لم أعثر على العبارة..

حاولت التذكر مرة أخرى.. أين قرأت هذه العبارة ياترى؟.. لم أفلح، فقررت متابعة البحث.. وذلك بتصفح الرواية الثانية التي بحوزتي لأونتي.

لقد أرسلها لي صديق سعودي، تعارفت وإياه في أحد المنتديات على الشبكة العنكبوتية، وتوطدت الصداقة بيننا لاشتراكنا في جنون قراءة الروايات، كان صديقي قارئا نهما، وكنا نتحادث طويلا حول قراءاتنا، ذكر لي أنه سيرسل لي رواية ستكون مفاجأة بالنسبة لي، ولم يفصح عن اسمها ولا اسم كاتبها، مؤكدا أنني لن أستطيع مقاومة سحرها، وأنني سأقرأها أكثر من مرة.. فافترقنا على ذلك..

أرسلت له روايتين لأمين معلوف، وما إن مر أسبوعان حتى كنت أقرأها للمرة الثالثة في الليلة الثالثة من وصولها إلى.. وبالفعل صدق صديقي السعودي.. لقد أسرتني رواية أونتي «سلام الآلهة»..

لكنني الآن وبعد أن تصفحتها كاملة لم أعثر على العبارة..

لقد بات الأمر محيرا فعلا، علي أن أتذكر كل تفاصيل تنقلاتي من مدينة إلى مدينة، ومن بيت إلى بيت حتى أتمكن من الوصول إلى شفاء من هذا السؤال.. وما أصعب المهمة وأشقاها لمن ينسى بسرعة مثلي.. ولو كنت من الذين يحسنون تذكر التفاصيل.. لكتبت رواية كبيرة ربما.. ولكنني بالكاد أكتب مقالي الأسبوعي في مجلة «الناس».

قد يتهمني البعض بالكسل، وبعدم القدرة على الكتابة، ويرون في وجودي الطويل ضمن طاقم المجلة محفزا للكتابة أكثر، ودافعا لصنع اسم كبير، له هيبته ومكانته.

لا أرغب في ذلك، بل أرغب في العزلة، والاعتزال بمحض إرادتي.

هذه هي رغبتي التي أحسها تلبسني منذ خروجي من السجن، كنت قد دخلته بعد أن كتبت ربورتاجا صحفيًا كبيرًا كاد يطيح بكثير من الشخصيات المهمة جدا، كتبته حينما كنت شابا حديث العهد بالكتابة، حيويا ونشيطا، لكنني إثر دخولي السجن فقدت كل رغبة في الكتابة وفي الظهور، ولولا إشفاق مجلة «الناس» علي، ومدها لي بتلك المساحة الأسبوعية من باب التضامن معي، لكنت ربما اسكافيا في السوق المغطاة أو نادلا عند عمي «أبو الأنوار».

استلقيت.. لكنني لم أنقطع عن التفكير.. أين قرأت العبارة يا ترى؟

ناديت أمي، طالبا كأس شاي أحبه من يدها، وخاصة في مثل حالاتي هذه، كانت ترشه بماء الزهر وببعض الأدعية أيضا، وكان يساعدني كثيرا على استرجاع هدوئي وحالتي الطبيعية.

قلت في نفسي.. هأنا أدخل سجنا افتراضيا ثانيا.. بسبب عبارة.

فجأة رن هاتفي المحمول.. إنه رئيس التحرير.. يطلب مني أن أرسل له المقالة قبل العاشرة صباحا، لأنهم قدموا موعد طبع المجلة.

علي إذن أن أقوم للكتابة..

جاءت أمي بالشاي.. ولم تجد مكانا على المكتب تضع الكأس عليه.. فقد كان ممتلئا كتبا ومجلات وأوراقا وجرائد.. قمت مسرعا إليها لأفسح مكانا للكأس وللكتابة.. لكن المجلات سقطت على الأرض.. همت أمي برفعها.. فقلت:

- لا عليك.. سأعيد ترتيبها..

وعندما نزلت لأحملها.. كانت إحداها مفتوحة على حوار كبير به صورة أونتي.. وكانت العبارة تملأ الصفحة أو هكذا خيل إلي.. قربتها مني.. وقرأتها غير مصدق.. بصوت خافت أولا.. ثم بصوت عال:

لكن عندما يرغمونك على الاعتزال، فالأمر يختلف تمام الاختلاف..

قبلت رأس أمي.. من يديها يأتي دائما شفائي..

كان الحوار قد أجراه دي بنيدو مع أونتي.. وكانت العبارة جوابا على سؤال:

كيف تحملت السجن؟!.

حوار سردي
سعيد أحباط (المغرب)

هأنت وقد استعدت وحدتك (وهل غادرتك؟) ولم تبق لك غير الكتابة ولم تحب سواها، وليس لك غيرها في هذا الزمن الذي سميت (أنت السارد والشخصية في آن )، هذا المراوغ ذئب البراري الذي قدر لك لكي تواجهه (وهل باستطاعتك أن تواجهه) لقد كنت وحدك كما كتب عليك أن تكون منذ خلقت الى أن تموت، براءتك الأولى التي يريدون تشويهها (لعلهم شوهوها)، فيك بعض من دون كيشوت (أتحارب طواحين هواء؟ أتتحدى نفسك؟) لا تملك الإجابة عن ذلك، ومن أين لك أن تجيب؟ ومن بمقدوره أن يجيب؟؟ فيك بعض من أبي ذر، وقد تآكلت خلاياه بحلم لم يتحقق، قاده الى المنفى! هل يؤديان بك إلى ذلك أيضا؟ قال السارد: أويت إلى كهف أحاورها وكل ما حولي نار وفتنة حتى من أقرب المقربين إلي، يبتعدون عن مشاعري بسنوات ضوئية، ولم أجد منهم غير الويل والثبور! هذه إساءتهم الجارحة أثارها في النفس باقية، ولم أجد أمامي من يمكنني أن ألجأ إليه أحكي ألمي الصادي الذي يصول ويركض..نار حارقة.. ومنذ الأبدية حتى الآن لم أجد من يفتح لي صدره الحاني كيف أبكي بكائي الراعف..مما يفعله السفهاء، الآن أدرك عزلتي وعزلة ذي المحبسين، أدرك منفاه أدرك حالته، أراه كما أراني وحيدا وليس أمامي غير الكتابة، ولا شيء سوى الكتابة، أتساءل الآن هل كان يمكنني أن أكون شخصا آخر «أقصد السارد»، أكان يمكن لو خيروني أن أكون غيري؟ هذه الأسئلة وغيرها شائكة وحادة، لعلها أيضا شرسة سأترك الإجابة عنها للزمن، أن أحيا إنسانيتي، هذه المشاعر التي تسكنني، وتملكني والتي ليس سواها، كيما أكون أنا ولا أحد سواي، هذا الزمن أثبت أن الأمل ضئيل، وأن النفق ليس له نهاية، يبدأ بظلمة تغشاها من فوقها غبار داكن ليس ذلك تطيرا وإنما حزن متعال، ممتد بداخلي هو ما لا يريح ولا يبوح، أدخل عالمي، كوني الحميم الذي ليس باستطاعة أحد أن يكشف أسراره، إنه لي وحدي ولن يستبيحه أحد، أهاجس منفردا معزولا بصراخي، وهذا حس نبض القلب الشاهد، قلبي الذي لا أملك سواه وحده كان معي في أحلك الظروف بوصلتي ودليلي، أمي تقول لي «قلب المؤمن دليله» هأنت وحدك ملوحا، لا أحد بانتظارك «من يمكن أن ينتظرك؟» مند متى كان لك أحد؟ أنت الآن في المدينة / الغبار، أعطيتها من عمرك الفاني، حبوت فوق ترابها، أصبت نساءها، أسماؤهن الفارعة تناسيتها أم تناستك؟«من هؤلاء؟» صوتك هنا أقوى مما تصور يوم لم يكن لهم صوت تهاوت الأقنعة، وتآكلت، واكتشفت أنك تحرث الماء وأن عمرك الفاني قبض الريح، وهؤلاء أقرب المقربين إليك الذين احتويتهم في نبض القلب، وأسكنتهم صدرك يغدرون بك، وليس بمقدورك أن تواجههم أنت عاجز...وأن الزمن ليس لك «أيمكن أن يكون ضدي؟» قدرك أن تظل أنت بكل عقدك وليس بإمكانك أن تغيرها هذا هو مجرى النهر، وعليك أن تتبعه، فلست خيرا من غيرك وممن سبقوك ومن سيجيئون من بعدك! لن يخرج السارد من جلده، ولن يقول إلا ما يجب أن يقول، وليس للكاتب «الحقيقي أو المفترض» الحق في أن يوقف انتشال هواجسه، استذكاراته، تجاربه، تاريخه ولعل الكاتب لا يدريها، يقول الذي يريد أن يقول، وسيترك للقراء والنقاد يسهرون جهارا ويختصمون يلمون النفايات من هنا ومن هناك يجمعون شتاتها باحثين عن موقع الراوي من الحكاية وعن النيزك..

الهاوية
خالد النهيدي (اليمن)

كان يوما مزعجا، خرجت فيه من المنزل مبكرا، قبل موعد الدوام بساعة تقريبا، قدت سيارتي متجها نحو العمل، استغرب البواب بشده وجميع عمال النظافة من حضوري مبكرا إلى العمل! مع أنهم يعرفون إني لست نشيطا ولا ذا حيوية عالية في تأدية واجبي، لكني كنت منزعجا نوعا ما. جلست على مكتبي وإذا بجهاز التلفون يرن. رفعت السماعة متعجبا من الاتصال في هذا الوقت المبكر؟ والكل يعرف مواعيد العمل في الشركة.

بادرني المتصل:كيف حالك

يا سيد أحمد؟

- أهلا..من معي..

قاطعني المتصل: أنت مبكر اليوم على غير عادتك مع أني أعرف أنك لست نشيطا في تأدية عملك ولكن بسلوكك العام جيد في العمل وخارج العمل وجميع شئون حياتك تقريبا.

- عفوا يا سيدي الفاضل من أنت؟

- معك مباحث أمن الدولة.

تلعثمت بكلمات تحمل معاني شتى.. أهلا.. تفضل. ماذا تريد؟ هل من خدمة يا سيدي الفاضل؟

- أشكرك ولكني أدعوك لشرب الشاي معي في مكتبي الكائن في المنطقة الجنوبية. بالتأكيد تعرفه.

- نعم اعرفه جيدا ولكني يا سيدي الفاضل أعشق الشمس أُحب الحرية ولدي أطفال أريد أن أعولهم.

- وما مناسبة هذا الكلام يا سيد أحمد؟ هل نحن نعتقل الناس بطريقة عشوائية وبلا مبرر لا سمح الله يا سيدي الفاضل؟ أنا أدعوك لشرب الشاي فقط. وأؤكد لك أنك خلال وقت الدوام ستكون على مكتبك.

حسنا .. خير .. اللهم اجعله خيرا. نزلت عتبات السلالم بقوى منهارة وأفكار مشتتة. قدماي لا تستطيعان حملي من التفكير في الموقف. وبسبب الاتصال فأنا أزن كلامي السياسي جيدا وليس لدي أي انتماء لأي جهة ولله الحمد.أحافظ على الصلوات الخمس في المسجد بقدر المستطاع، ولم أتعرض لأي إنسان بسوء ومنذ فتره انهمكت في حياتي العملية والأسرية، ولم أعد أتواصل مع بعض الأصدقاء والمقربين من كثرة المشاغل ودوامة الحياة.

قررت أخذ سيارة لتوصيلي فأعصابي لا تتحمل القيادة. بادرني صاحب التاكسي:

- كيف حالك يا سيد أحمد؟ تأخرت ربع ساعة.

ـ عفوا يا سيدي هل تعرفني؟ أنا الموكل بتوصيلك. وأؤكد لك خلال وقت الدوام ستكون على مكتبك. تمتمت بصمت إن شاء الله.

دخلت الإدارة وكل معاني الارتباك ترافقني بخوف جم من المصير المجهول. بادرني المتصل:

ـ باختصار يا سيد أحمد وبلا مقدمات بالأمس بجوار منزلك الكائن في حي القاسمية قبضنا على رجل يدعى (علي أحمد موسى) يشتبه في أنه ينتمي إلى خلية إرهابية والرجل يقول إنه صديق حميم لك وقد كان بالقرب من حيكم وانتهز الفرصة لزيارتك.هل تعرفه يا سيد أحمد؟

ارتعشت الحروف بين أسناني وكأني في القطب الجنوبي المتجمد (لا). كنت أدق الحروف بأسناني وكأني أطحنها من شدة الخوف. قال لي المحقق:

- يبدو أنك ستتعبنا يا سيد أحمد.

ورفع يده ليطفئ الأنوار.وصرخت من أعماق روحي لااااااا. وانهالت الأيادي تدغدغ جسدي المتعب والصرخات تملأ المكان أبي..أبي.. استيقظت فزعا يا ااااه ياله من كابوس مزعج، نهضت متأخرا كالعادة وأنا أفكر في توبيخات المدير والحسم المترتب عن تأخيري، وعلى قارعة الطريق.التقيت صديقي الحميم علي يرحب بي بابتسامته الحانية كأنها نجوم تتلألأ في الدُجى المظلم بادرني قائلا أقدر موقفك جيدا يا أحمد حتى وإن كنت مكانك فسأتخلى عنك مجبورا. تجمد الدم في عروقي ماذا تقصد يا علي! أعني أنك لم تتصل بي منذ زمن فأنا أقدر مسئولياتك، ومشاغل الحياة، ومتطلبات الأسرة، تنهدتُ مطمئنا وقاطعته قائلا:

- أكيد يا صديقي الحميم فالمواطن العربي يحمل نفس الهم ونفس المصير والخوف من الانزلاق في الهاوية.

سكينة
عبدالجواد خفاجي (مصر)

كان لها أن تستمر في حزنها لولا أنها في لحظة ما سألت نفسها: ماذا عساه يجدي هذا الحزن؟!

كل صباح تتطلع إلى دكةٍ خشبية متهالكة بجوار الباب، عليها ما عليها من غطاء قديم ووسادة خالية إلا من عمامة بيضاء، ترتاح بجوارها عصا خرزانية معقوفة،، وثمة جلباب أبيض داكن يتدلى من مسمار في الحائط.

ـ «لا شيء يبقى، لكأننا منذورون للموت!».

كلمات كانت تتردد في سريرتها كل صباح، وهي تتأمل المنظر الصامت، وقد دهمتها كثير من تفاصيل حياتها مع المرحوم.

كان ها هنا، بأنفاسه، وحركته الحثيثة، وسعاله الذي لا يهدأ.. أليفها الذي رحل.. المرحوم حسانين.. خمسون خريفا عاشتها معه، لم تنجب منه سوى ولديها اللذين لم تشهد موتيهما.. استشهد أكبرهما في سيناء.. قالوا لها النكسة، وقالوا لها إنه دفن في قبر الجندي المجهول.

باعت ما لديها من طيور داجنة؛ بغية تدبير نفقات السفر إلى القاهرة.. لم يكن قد سبق لها أن ركبت قطارا، ومع ذلك جازفت.. اصطحبت زوجها الذي لم يكن هو الآخر يعرف غير أنهما مسافران إلى حيث التراب الذي يحوي جسد ابنهما.. نزلا في المحطة، وسألا خلقا كثيرين عن قبر الجندي المجهول، بعضهم أشار ساخرا إلى تمثال منصوب أمام محطة القطارات، عاينا وجوها كثيرة ساخرة، وشفاها صامتة ممطوطة، إلى أن أشار أحدهم إلى حافلة (باص) كانت على وشك الحركة.

أما ابنها الثاني فقد سافر منذ زمن بعيد إلى العراق، مع بعض أبناء البلدة، غير أنهم عادوا من دونه، قيل لها إنه مات هناك في الحرب التي دارت رحاها بين العراق وإيران، وقيل لها إنه ربما كان أسيرا في إيران..

ربما لذلك كان فراق زوجها أكثر ألما وأشد حزنا، وقد تركها وحيدة في بيت قديم رطب.

لم تكن تسمع منه غير كلماته الودودة، وهو يلهج بأمنيته التي لم تكن تفارق شفتيه: سنذهب سويا إلى الحج يا سكينة.. يحثها على الصبر، يذكرها أن الشهيد يشفع لمائة من أهله، وأنهما سينعمان بشفاعة ابنين لهما في الآخرة..

مات قبل أن يرى أمنيته تتحقق.. هو يعلم أن الحال لم تكن تؤهلهما لبلوغ أمنية الحج، حياة جد متواضعة، وما كان لهما أن يفرطا في قراريطهما التي يتعايشان منها ليؤديا فريضة الحج، وهما يعلمان كم تكلف، وهما يعلمان أنها لمن استطاع إلى الحج سبيلا.. أي سبيل كان عليهما أن يسلكاه؟!.. كانا يأملان من الزمن شيئا على سبيل الفَرَج الذي يتيح لهما أداء الفريضة.

هذا الصباح دخل أخوها إلى بيتها، استقبلته بابتسامة ذابلة، ونظرات شاردة.. ربت على كتفها:

- ستنتقلين للعيش معي يا سكينة.

فغرت سكينة فاها ولم تجب، وإن كان أخوها قد فهم ما يمكن أن تقول:

- يا سكينة أعرف أنها دار عزيزة عليك، فيها ذكريات كثيرة، ولكن بقاءك ها هنا مغلف بالأحزان،.. دعيني أخبرك أن أهل البلد جميعا أنابوني جميعا لأفاتحك في موضوع مهم.

أنت تعرفين أن المسجد مساحته صغيرة، وبيتك ملاصق تماما له.. ستبيعين البيت لأهالي البلد ليضموه إلى المسجد.. يكفيك شرفا يا سكينة أن بيتك سيصبح مسجدا وموئلا لعُبَّاد الله.. فلتفرحي يا سكينة.. اقبضي ثمن البيت.. أموالا كثيرة جمعها الأهالي لك.. تنازلي لهم عن البيت.. تعالي معي إلى بيتي.. يمكنك الآن أن تذهبي للحج يا سكينة.. لقد آن لك يا سكينة أن تفرحي ولو فرحة واحدة، وأنت تلبسين البياض، وأنتِ تركبين الباخرة إلى أرض الحجاز.

ولسبب ما شعرت سكينة بأنها فَرِحَة وأن دموعا بدأت تنسرب من مقلتيها باتجاه الفرح ولسبب ما وضعت كلتا يديها فوق يديّ أخيها الممدودتين.

يتحدث الناس عن سكينة التي رفضت أن تأخذ من الأهالي ثمنا لبيتها الذي وسَّعوا به المسجد، وقد باعت قراريطها الأربعة، وركبت الباخرة باتجاه الحجاز، غير أن ما يذكره الجميع أنها ماتت هناك.

 

 

أبو المعاطي أبو النجا