في عشق الكتب والمكتبات جابر عصفور

في عشق الكتب والمكتبات

أغلب الظن أن هذا العنوان يلخص حياة المثقفين والكتّاب الذين يمكن أن يقيسوا حياتهم بالمكتبات التي دخلوها, أو تعودوا القراءة فيها, وأسهمت في تكوينهم الفكري والإبداعي.

الواقع أن الحديث عن المكتبة العامة أو عن الكتاب يفضي كلاهما إلى المكتبة الخاصة, التي نبدأ في اقتنائها منذ أن نعرف متعة القراءة ولذّة صحبة الكتاب, أو منذ أن تقودنا المكتبات التي دخلناها إلى محبة الكتاب, وإيثار امتلاكه واقتنائه, حرصًا على تجدد الصحبة ودوام الرفقة, خصوصًا بعد أن تنشأ علاقة أشبه بعلاقة الحب بين القارئ والمقروء, وهي علاقة تنطوي على معان عديدة, لا تخلو من رغبة المحب الدائمة في الانفراد بمحبوبه وملازمته بما لا يبعده عنه أو يحرمه منه, وهي رغبة لا يختلف فيها المفرد بصيغة الجمع, أو الجمع بصيغة المفرد, فامتلاك الكتاب الواحد يختزل رغبة امتلاك العديد من الكتب في مكتبة خاصة بالمحب للكتاب الذي يغدو كتبًا, كما ان امتلاك الكتب, مهما كثرت, لا يخلو من معنى الحضور الرمزي للكتاب الفرد الذي يغدو أنيسًا ورفيقًا وأليفًا ومحبوبًا لا غنى عنه.

وأحسبني عرفت المكتبة العامة قبل أن أعرف معنى اقتناء الكتاب أو تكوين المكتبة الخاصة, ولاأزال أذكر بداية المعرفة الأولى التي حدثت في مدينة المحلة الكبرى في خمسينيات القرن الماضي. وكان ذلك حين ذهبت للمرة الأولى إلى ما قيل لي إنه (مكتبة البلدية) التي كانت تقع في مبنى البلدية الذي كان أقرب إلى رئاسة مجلس المدينة بكل ملحقاته ولوازمه, وكان المبنى فخيمًا, تحيط به أعمدة تمتد عبرها ممرات خارجية, تعطي الإحساس باتساع المبنى وتميّزه. وكان المبنى يقع في ذلك الوقت على شارع موازٍ لفرع نهر النيل, يعبر وسط مدينة المحلة الكبرى, ويفصل بين شمالها وجنوبها, وحول الفرع (الذي كان أشبه بترعة, لكن نظيفة) يمتد شارع أشبه بكورنيش النيل, تتناثر على ضفته الجنوبية التي تحد وسط المدينة مقاه أنيقة, يجلس عليها علية القوم من كبار التجّار والموظفين, ويزداد الإقبال عليها مع اقتراب الشمس من الغروب, وابتداء حركة النسيم الذي ترطبه مياه النهر (الترعة?!) الذي يتوسط المدينة. وكانت تسليتنا, ونحن صغار, هي السير بلا هدف حول شاطئ النهر, أو العبور منه إلى السينمات التي كانت تقع على الضفة المقابلة من النهر, قريبة من محطة السكة الحديد والسنترال, وعلى امتداد المباني التي تفضي إلى مبنى البلدية بفخامته ومعماره الذي كان يأسر العين في ذلك الزمان.

ولا أعرف, أو أذكر, كيف وصلت إلى موقع المكتبة التي كانت تحتل أحد الجانبين المستطيلين من المبنى ولها مدخل منفصل, يمنحها خصوصية واستقلالاً عن بقية المبنى الذي كان يزدحم في أوقات العمل الرسمية بطلاب الحاجات والمصالح. قد أكون دخلت إلى باب المكتبة من قبيل الفضول وحب الاستطلاع, وقد يكون أحد الأصدقاء الأكبر سنًا أو الأقرباء هو الذي قادني إلى مدخل المكتبة, وأغراني بدخولها. لا أذكر من ذلك شيئًا. كل ما أذكره أن القاعة المستطيلة الكبيرة (التي هالني طولها وحجم ما فيها من دواليب كتب عندما رأيتها للمرة الأولى) جذبتني إليها كما يجتذب حجر المغناطيس المواد القابلة للتمغنط. وكنت قابلاً للانجذاب بسبب محبة القراءة التي أخذت تنغرس في داخلي نتيجة بعض النصوص الأدبية المتميزة التي درسناها في (حصص) اللغة العربية, وتحفيز مدرس اللغة العربية الذي نقل إلى تلامذته الذين أحبوه عدوى محبة الأدب وبذرة الإحساس بأهمية الكتاب بوجه عام, ولذلك جذبتني قاعة المكتبة (التي كانت تستعيض عن ضوء النهار الساطع بأضواء المصابيح الفلورسنت) بصفوفها التي بدت بلا نهاية من دواليب الكتب التي كانت كعوبها المجلدة تظهر من وراء زجاج (الدرف) المغلقة. وأذكر أنني ظللت أتجول بين هذه الدواليب, وأتوقف أمام بعضها, لأستوعب مشهدها, وأطالع بعض العناوين المكتوبة على كعوب الكتب بأحرف ذهبية. وانتهت بي الرحلة الأولى التي تشبه رحلة أليس في بلاد العجائب إلى نوع من الألفة التي دفعتي إلى تقليد غيري من الذين يمرون على دواليب الكتب بحثًا عما يريدون, وذلك في حذر وبطء, كي لا نزعج الجالسين المستغرقين في القراءة بوقع أحذيتنا على ألواح الأرضية الخشبية القديمة التي كانت تصر تحت ضغط الأقدام العجلى أو الهوجاء.

البداية.. الإلياذة

وحددت لنفسي موقعا على إحدى طاولات القراءة, قريبًا من بعض القرّاء الكبار, ربما على سبيل الاستئناس والمحاكاة, وقبل أن أجلس في الموضع الذي اخترته توقفت عند أحد الدواليب, وكان يمتلئ بكعوب ضخمة تدل على ضخامة الكتب التي تحمل عناوينها. وانجذبت عيناي إلى أضخم كعب وأكبر كتاب بين المجموعة التي كانت تحتل الصف المواجه لوجهي.

وكان عنوانه (إلياذة هوميروس). وحملت المجلد الضخم, الذي كدت أنوء بحمله, لكن الذي أغرتني به ضخامته, فضممته إلى صدري بين ذراعيّ إلى أن عدت إلى الكرسي الذي اخترته على طاولة القراءة. وفتحت المجلد وأنا أتلصص النظر إلى الكبار القريبين مني, أو المواجهين لي, آملا في نظرة إعجاب بإقبال صبي مثلي على كتاب ضخم بهذا الحجم. وبدأت أفتح الكتاب الذي قرأت على غلافه الداخلي (إلياذة هوميروس معرّبة نظمًا وعليها شرح تاريخي أدبي, وهي مصدّرة بمقدمة في هوميروس وشعره وآداب اليونان والعرب, ومذيّلة بمعجم عام وفهارس بقلم سليمان البستاني). وبعد ترجمة هذا العنوان الطويل باللغة الفرنسية, تأتي الإشارة إلى أنها طبعت في مطبعة الهلال بمصر سنة 1904, وأخذت أنتقل بين صفحات هذا الكتاب الضخم الذي طبع قبل ولادتي بأربعين عامًا, وسرعان ما أدركت أن الكتاب ينقسم إلى قسمين: قسم نثري يشمل التعريف بالشاعر اليوناني القديم مع صورة متخيلة له, وبعد ذلك مقارنات بين الآراء التي قيلت في قيمة الإلياذة, ومقارنات بين الشعر العربي واليوناني.

وأعترف أنني لم أفهم الكثير مما قرأت, ولم يعلق بذهني شيء سوى أن هوميروس هو المؤلف الأول للملاحم الكبرى في العالم, وأن الآراء تختلف حول وجوده ونسبة الإلياذة إليه. أما بقية التفاصيل فقد ضاعت من ذهني, ولم يبق منها شيء لسنوات طويلة, إلى أن كبرت, ودخلت الجامعة, ودفعتني دروس الأدب المقارن إلى قراءة مقدمة الإلياذة التي تعد كتابًا متكاملاً في ذاتها, وتمثيلاً مهمًا لمرحلة البداية لدراسات الأدب المقارنة في تاريخنا الحديث, خصوصًا بما كتبه فيها البستاني عن أشكال الاتفاق أو الاختلاف بين الشعر العربي والشعر اليوناني القديم, متعرضًا للغة والأوزان والاستعارات, غير مغفل استعراض أساليب الترجمة عند العرب, وأصل الأسلوب الذي اتبعه, وذلك في أناة وتبصّر وعمق معرفة بالتراثين العربي واليوناني, الأمر الذي لم يجعل من المقدمة الطويلة كتابًا مستقلاً فحسب, بل جعل منها وثيقة تاريخية ونقدية مهمة, دالة على قوة البداية في تاريخ دراسات الأدب المقارن, على الرغم من عدم شهرة اصطلاح (الأدب المقارن) في ذلك الوقت, أو المعرفة الواسعة به في مجالات الدرس الأدبي.

المهم أنني انتقلت من القسم النثري إلى قسم الشعر وهو الترجمة الشعرية التي نهض بها سليمان البستاني الذي أراد أن ينقل رائعة الإلياذة اليونانية إلى اللغة العربية, لكن في قوالب الشعر العربي العمودي وتفاعيله المنتظمة, مدفوعًا فيما يبدو برغبة إثبات أن قوالب الشعر العربي مثل لغته لا تضيق على شيء, وتستطيع أن تستوعب كل معاني الإبداع وأغراضه. وبدأت قراءة النشيد الأول من أناشيد الإلياذة التي عرّبها نظمًا سليمان البستاني الذي قضى في عمله حوالي عشرين عامًا, درس فيها اليونانية, وكل ما كتب حول الإلياذة باللغات الأوربية التي كان ضليعًا في ثلاث منها على الأقل. وغمرني الإعجاب بالرجل الذي علمني للمرة الأولى أن التفرغ للعلم كالتعمق فيه يحتاج إلى وقت وصبر, وأن العالم الحقيقي يمكن أن يفني عشرين عامًا من عمره في دراسة عمل أو ترجمته. ولم أجد نظيرًا لهذا النوع من التصوف إلا بعد أن كبرت وازدادت معارفي, فعلمت أن المرحوم حسن عثمان بذل حوالي عشرين عامًا في ترجمة (الكوميديا الإلهية) عن اللغة الإيطالية القديمة, وأن عمله هذا يعد من قبيل الاستثناءات النادرة, شأنه في ذلك شأن المرحوم طه محمود الذي قضى السنوات الطوال في ترجمة رائعة جيمس جويس (يولسيز) إلى اللغة العربية للمرة الأولى. وكانت معرفتي ذلك في سياق إعجابي بالنماذج النادرة الدالة على الدأب العلمي الذي يشبه التصوف عند كبار المترجمين الذين هم من صفوة العلماء أو الفلاسفة أو دارسي الأدب. ولذلك, استوقفني الجهد الاستثنائي الذي بذله جان إيبوليت الفرنسي, دارس الفلسفة الذي قضى حوالي عشرين عامًا كذلك في ترجمة (ظاهريات الروح). وهو كتاب هيجل الشهير الذي عُدّت ترجمته حدثًا في تاريخ الثقافة الفرنسية الحديثة. ويوازي ذلك العمل الذي بُذل في ترجمة مجلدات رواية مارسيل بروست (البحث عن الزمن الضائع) من اللغة الفرنسية إلى اللغة السويدية. وقد شهدت في عاصمة السويد الاحتفال باكتمال الترجمة التي أصبحت حدثًا قوميًا وفخرًا وطنيًا لا مثيل له في دنيا الثقافة. وكنت في ذلك الوقت - مطلع الثمانينيات - أعمل أستاذًا زائرًا في جامعة استوكهولم, وذكّرني الاحتفال باكتمال ترجمة (البحث عن الزمن الضائع) باكتمال ترجمةالإلياذة على يدي البستاني التي اعتبرتها الأوساط الثقافية حدثًا فريدًا, في زمانها, فتشكلت لجنة من كبار الشخصيات للاحتفاء بها, وأشادت بها كل المجلات والجرائد المصرية والعربية سنة صدورها: 1904, وجمعت كلمات الاحتفال ووقائعه مع مقالات التقريظ في الصحافة ضمن كتاب أعده نجيب متري بعنوان (هدية الإلياذة), وهو كتاب عثرت عليه بالمصادفة في إحدى مكتبات سور الأزبكية القديم في جولة من جولاتي المعتادة في البحث عن الكتب, فاقتنيته بقروش معدودة, ولاأزال محتفظا به, حريصًا عليه.

روائع الأدب الإغريقي

ويبدو أن ضخامة حجم كتاب البستاني قد نفّرتني من التعلق بالكتب الضخمة (وليذهب الإدّعاء واستعراض الصبا إلى الجحيم) وبدأت أبحث عن الكتب ذات الحجم الصغير التي بدت لي - بحكم حجمها - أنها سهلة, ولا تنطوي عملية قراءتها على العذاب الذي مررت به مع قراءة إلياذة البستاني التي لم يبق منها في ذهني سوى الرغبة في معرفة المزيد من الأساطير اليونانية التي لاتزال موضوعًا أثيرًا للسينما الغربية التي جعلتني أقترب من شخصيات الإلياذة وأفهم سلوكها ودوافعها أكثر بكثير من ترجمة البستاني على الرغم من كل ما أدين لها به من إثارة فضول التعرف على هذا العالم الغريب العجيب والجميل من أساطير اليونان التي أصبحت مغرمًا بالتعرف عليها بعد أن كبرت, ومررت بمراحل لاحقة من النضج والتطور. ولكن من ينسى تجربة الكتاب الأول الذي يبدو كالحب الأول, ذلك الذي وصفه أبو تمام بقوله:

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول


وظنّي أن محبة الكتاب الأول هي التي دفعتني إلى الاهتمام بموضوعه, والمضيّ في استكمال المعرفة بآثار الحضارة اليونانية وآدابها. وهو الأمر الذي زادتني قراءة طه حسين معرفة به, خصوصًا عندما أصبحت أكثر نضجًا, وأكثر قدرة على فهم ما ترجمه طه حسين عن الفرنسية من روائع الأدب التمثيلي عند اليونان, متيحًا لقرّاء العربية معرفة أوديب وأقرانه وقريناته في أعمال إيسخيلوس ويوربيدس وغيرهما من كتاب التراجيديا اليونانية, وذلك في السلسلة التي أفضت إلى معرفة أرستوفانيس في مسرحياته الهزلية الساخرة, وبندار وسافو في شعرهما الغنائي, ولا يمكن لمنصف يعرف تاريخنا الثقافي إلا أن يذكر بالفضل طه حسين في التعريف بالأدب اليوناني وترجمته, والتحمس لتراث اليونان, بوصفه أصل النهضة الأوربية ومبدأها الإبداعي, ولذلك لم تتوقف جهود طه حسين على الترجمة والتقديم, وإنما جاوزتهما إلى إنشاء أول قسم للدراسات اليونانية واللاتينية في الجامعة المصرية, والإلحاح المستمر على ضرورة جعل الثقافة اليونانية القديمة أصلاً من أصول التعليم الحديث في مصر, وذلك على نحو ما أكّد في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) الذي أصدره سنة 1938, بعد أن حصلت مصر على استقلالها بموجب معاهدة 1936, حالمًا بوضع استراتيجية لتعليم جديد وثقافة حديثة في مصر المستقلة التي تصورها منتسبة إلى ثقافة البحر الأبيض المتوسط, وامتدادًا لنماذجه الحضارية.

ولم يكن من الغريب أن تقودني صدمة الكتاب الأول - على سبيل المضادة - إلى الكتاب الثاني الذي أغراني به صغر حجمه, فأقبلت عليه في زيارتي اللاحقة لمكتبة البلدية, وكان ترجمة عربية لرواية الكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي (ثلوج كليمنجارو) في طبعة بيروتية. وقرأت الرواية التي أغوتني بعنوانها الغريب وعوالمها الإفريقية الأغرب. وبدأت من يومها في البحث عن روايات هيمنجواي وقصصه التي لم أترك منها شيئًا وصل إلى يدي دون أن أطالعه في لهفة الألفة والإعجاب, وذلك كله عن طريق الترجمات التي عرفت بفضلها (لمن تدق الأجراس) و(وداعًا للسلاح) و(العجوز والبحر) وغيرها من أعمال هيمنجواي التي عرفت طريقها إلى اللغة العربية, وتركت آثارًا إيجابية, ظلت تتسع بدوائر قراء الأديب الأمريكي, والإعجاب برواياته, والاهتمام بحياته الحافلة التي انتهت بالانتحار. وظللت أتابع كتب هيمنجواي, بعد ذلك, وعرفت أنه حصل على جائزة نوبل في الأدب سنة 1954, الأمر الذي اقترن بإعجابي بأسلوبه في الكتابة الذي ظل النقاد يشبهونه بجبل الجليد العائم, يظهر أقل مما يبطن, ويبين بالقليل البسيط من اللفظ عن الكثير العميق من المعاني, وذلك دون حاجة إلى زخارف البلاغة أو محسنات البيان. وهو الأسلوب الذي كان له أكبر الأثر في كتابات جيل الستينيات الذين شاركوني - أو شاركتهم - الإعجاب بهيمنجواي والتأثر بأسلوبه, فقادني هذا الإعجاب اإلى أن أفهم تجليات أسلوب هذا الكاتب في أساليب أبناء جيلي من المبدعين الذين لم ينافس هيمنجواي في التأثير عليهم كاتب غربي آخر, اللهم إلا إذا استثنينا الكاتب الروسي الكبير أنطون تشيكوف الذي بدأ تأثيره يظهر مع جيل الخمسينيات, وبخاصة في كتابات يوسف إدريس الذي أطلق عليه لقب (تشيكوف مصر).

وأعترف أن (ثلوج كليمنجارو) قد فتحت أفق محبة الرواية التي لاأزال أدمن عليها, على الرغم من المكانة الخاصة التي يحتلها الشعر في اهتماماتي, لكن ليس بسبب نظم البستاني أو أمثاله وإنما بسبب جيل الرواد من شعراء الشعر الحر الذين عرفتهم بعد ذلك في مرحلة الطلب الجامعي, فأصبحت متعلقًا بهم, مغرمًا بفن الشعر الذي جعلوني أكتشف مباهجه, وهي المباهج التي انضافت إلى مباهج المعرفة بالشعر العربي القديم الذي أتاحت لي دراستي في قسم اللغة العربية أن أقرأ دواوينه الأساسية عبر قرون ازدهاره.

نقلة إلى الشعر

وإذا كانت مكتبة البلدية هي بداية تعلقي بالكتاب والكتب, في مدينة المحلة الكبرى, فقد كان لهذه المكتبة نظائر في المدن الكبرى في الوجه البحري وعواصم المحافظات, فيما عرفت بعد ذلك من أشباهي الذين لم يتوقفوا عن محبة الكتاب وقياس حياتهم بالمكتبات التي عرفوها, فاغتنت تجاربهم التي لم تعرف ذلك الجدب الذي عرفه العاشق ألفريد بروفرك في قصيدة الشاعر الإنجليزي الحديث: ت.إس. إليوت الشهيرة, وهي القصيدة التي يقيس بها العاشق حياته بملاعق القهوة, كناية عن صغر حجم ما يحدث في هذه الحياة وضآلته. أما أولئك الذين عرفوا الطريق إلى المكتبات التي قادتهم إلى محبة الكتب, أو العكس, فقد اغتنى وجدانهم واتسعت آفاق وعيهم, بما جعلهم يضمون إلى تجاربهم المحدودة تجارب لا محدودة, اكتسبوها من محبة الكتب والمكتبات التي يمكن قياس أعمارهم بها.

وأظنني واحدًا من هؤلاء, فأنا أقرن مرحلة الصبا بمكتبة البلدية أولاً, ثم مكتبة المدرسة الثانوية التي انضممت فيها إلى جمعية أصدقاء المكتبة. وكان من حسن حظنا وجود أمين مكتبة شاب, قريب من أعمارنا, ويحب القراءة مثلنا, ويغرينا بكتابة أبحاث عما نقرأ, وفي هذه المكتبة وتحت تأثيرها كتبت أول بحث في حياتي. وكان عن أحمد شوقي وشعره, وذلك بمساعدة صديق لي, نسخ لنفسه نسخة من البحث, وقدمه إلى أساتذته الذين أحسنوا الظن به دون أن يعرفوا حقيقة الأمر. وأغلب الظن أن البحث (الذي كتبته على صفحات دفتر خطابات) كان تلخيصًا لكتاب (شوقي شاعر العصر الحديث) لأستاذنا شوقي ضيف - عليه رحمة الله - بالدرجة الأولى, مع بعض الكتب القليلة التي وجدتها في المكتبة عن أحمد شوقي.

وكان هذا البحث سببًا في تعرفي على مجموعة من طلاب المدرسة الثانوية الذين أشاركهم محبة الكتب, وأدمن مثلهم الذهاب إلى المكتبة, فقررنا أن نطلق على مجموعتنا اسم (جماعة الأصدقاء), وجعلنا الرئاسة لطالب يسبقنا بعامين في الدراسة, ويسبقنا في مجالات القراءة والمعرفة, ولاأزال أدين له بتعريفي بمجلة (المجلة) التي أصبحت من قرائها كل شهر, على الرغم من وطأة سعرها - عشرة قروش - على مصروفي المتواضع في تلك الأيام.

لكن أهم حدث مررت به في مكتبة المدرسة, في أول عهدي بها, هو قراءة كتاب (الأيام) بجزأيه, حيث وقعت في عشق الكتاب وافتتنت بكتابة طه حسين الذي اتخذته مثلاً أعلى لي, وذهبت إلى كلية الآداب, جامعة القاهرة, والتحقت بقسم طه حسين, قسم اللغة العربية الذي لاأزال أشرف بالانتساب إليه والانتماء إلى تقاليده الجليلة التي أسهمت في تأصيلها شخصية طه حسين الذي تعلمت من كتبه أن الجامعة لا يكتمل معناها إلا بانفتاحها على الحياة الثقافية حولها, والإسهام فيها بما يسهم في تطوير هذه الحياة, والانتقال بها من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية والإبداع.

في حضرة العميد

والطريف في الأمر أنني عندما التحقت بقسم اللغة العربية كان طه حسين قد توقف عن التدريس لطلاب الصفوف الأولى واكتفى بلقاء أسبوعي مع طلاب الدراسات العالية. وقلت لنفسي: أصبر إلى أن أتفوق في الدراسات العادية, وأصل إلى الدراسات العالية, لكن عندما تم ذلك, كان طه حسين قد توقف عن المجيء إلى الكلية والتدريس نهائيا, وذلك بحكم كبر سنه ومرضه, فلم أستطع لقاءه بعد ذلك إلا بفضل أستاذتي سهير القلماوي (التي كان يعتبرها ابنته), فهي التي صحبتني إليه, وقدمتني إليه في منزله (رامتان) في أول طريق الهرم, ولقيناه في المكتبة التي لاتزال باقية إلى اليوم, يتصدرها المكتب الذي كان يملي من ورائه على سكرتيره - فريد شحاتة - في المنزل الذي اشترته وزارة الثقافة, وأحالته إلى متحف يحمل اسم طه حسين, ولا أنسى خوفي والرهبة التي ألجمت لساني وأنا جالس في حضرة العميد الذي كان مجرد حضوري أمامه شرفًا لا يعادله شرف, ومنطويًا على محبة غامرة بالتقدير والعرفان, شأني في ذلك شأن الكثير الكثير من تلامذته, ومنهم أعضاء الجمعية الأدبية المصرية, وأغلبهم من خريجي قسم اللغة العربية الذي انتسبت إليه بعدهم, وتعرفت بفضله على الأعضاء الذين ضموا صلاح عبدالصبور وفاروق خورشيد وعز الدين إسماعيل وعبدالرحمن فهمي وحسين نصار وعوني عبدالرءوف, ومحمود الحنفي ذهني, رحم الله من مات منهم, وأعطى الأحياء الصحة وطول العمر.

ولا أنسى - بالطبع منظر صفوف الكتب التي كانت تملأ جدران غرفة المكتب, الذي كان يجلس فيه العميد, واضعًا ساقًا على ساق, عاقدًا كفيه على الساق الأعلى كما تعود أن يفعل, منصتًا في حكمة, متكلمًا في تؤدة تصافح السمع عذوبتها بصوته الذي لا ينسى والذي لم أسمع مثله في حلاوة النطق وسلامة المخارج وجمال الأداء, ومن المؤكد أن صورة المكتب المحاط بجدران من أرفف الكتب ظلت راسخة في ذهني, ولعلها كانت بداية حلم في اللاشعور بأن يكون عندي في يوم ما مكتب مشابه ومكتبة مماثلة. وكانت النتيجة زيادة عشقي للكتب والمكتبة الخاصة التي بدأت في تكوينها, والمكتبات العامة, خصوصًا في الجامعة, حيث وجدت ما لم أكن أمتلكه, وما ظللت أحلم باقتنائه, إلى أن تحقق حلمي مع تعاقب السنوات ومرورها, واكتمل وعيي بالدين العميق الذي لا أزال أشعر به لمكتبة البلدية, ثم مكتبة المدرسة الثانوية التي قدمتني إلى طه حسين وأتاحت لي أن أقرأ كتبه قبل أن أدخل قسم اللغة العربية, وقبل أن أنال شرف الجلوس إليه.

وكما أصبحت مدمنًا على مكتبة المدرسة الثانوية التي أغنتني عن الذهاب إلى مكتبة البلدية, خصوصًا أنها كانت تتيح لي استعارة الكتب, وإكمال قراءتها في المنزل, وهو الأمر الذي وجدته - بعد ذلك - في مكتبة (قصر الثقافة) الذي كان يشبه أمثاله من قصور الثقافة التي أنشأها الزمن الناصري, وأشاعها في مصر, وجعل منها نافذة يطل منها الشباب على آفاق أرحب من المعرفة, التي لا نهاية لها أو حدّ. ولا أجد غرابة, الآن, في تذكّر الصداقات التي تأسست بيني وأمناء المكتبات, التي عرفتها في مدينتي المحلة الكبرى, مكتبة البلدية التي صادقت حارسها العجوز الذي لم يكن يكف عن الدعاء لي بالفلاح, ومكتبة المدرسة الثانوية, التي لاأزال على علاقة مودة لا تنقطع بأمينها محمود المداح, الذي لا أنسى فضله, ومكتبة قصر الثقافة في مقريها القديم والجديد وأمين مكتبتها الأولى الذي لاأزال أذكر نصائحه لي بقراءة هذا الكتاب, أو ذاك, ولاأزال أذكر اللقاء الذي أقامته المكتبة للكاتب حسن محمود, وكان أحد كتّاب القصة البارزين قبل جيل يوسف إدريس, وقد زارنا في قصر الثقافة, وناقشناه فيما قرأنا له, وإن كان لم يترك فينا أثرًا كبيرًا, فلم يكن الرجل الذي كان يشغل منصبًا كبيرًا في وزارة التعليم أو وزارة الثقافة, لا أذكر, أديبًا له المكانة التي احتلها في نفوسنا أمثال نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير, وعبدالحميد جودة السحار وغيرهم.

إذا ما عراكُمْ حادثٌ, فتحدّثوا! فإنّ حديثَ القوم يُنسي المصائبا
وحِيدوا عن الأشياءِ خِيفةَ غَيّها فلم تُجعل اللّذّاتُ إلاّ نصائبا
وما زالت الأيّامُ, وهي غوافلٌ تسدّدُ سهْماً, للمنيّةِ, صائبا


(أبو العلاء المعري)

 

جابر عصفور