جمال العربية: مع الشاعر السعودي: حمزة شحاتة وقصيدته: لِمَ أهواكَ؟
في ديوان الشعر السعودي الحديث، يحتل الشاعر حمزة شحاتة مكانة متقدمة، حققها شعره المختلف والمتميز، ومشاركاته الأدبية الواسعة - شعرًا ونثرًا - في هموم مجتمعه وشجونه، وفي معارك أدبية صاخبة، خاضها بحكم طبيعته الثائرة المتمردة، الرافضة لكثير من المواضعات والتقاليد. من هنا أصبح شعر حمزة شحاتة أثيرًا لدى الصفوة من رموز الحياة الأدبية والشعرية من ناحية، والأكثر انتشارًا بين الجمهور الأدبي الذي استهواه صدق الشاعر وفوران وجدانه المبكر، ونفاذ تأملاته وجلواته بين كوكبة شعراء الطليعة من الشباب من ناحية أخرى. قبل أن يقرر شحاتة الهجرة بعيدًا عن بيئة الحجاز، لترتبط حياته بالبيئة المصرية، مجتمعًا وواقعًا أدبيًا وشعريًا، حتى اليوم الأخير في حياته. ويعود لهذه المرحلة الثانية في حياة حمزة شحاتة - طيلة إقامته في مصر - بزوغ حالة شعرية جديدة، سيطرت على معظم قصائده، تأثرًا بمجاورته الإنسانية والفنية لأعلام جماعة أبولو من الشعراء: علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل وغيرهم. كما أتاحت له هذه البيئة المغايرة لبيئة الحجاز في أمور كثيرة، الاقتراب من حركة الشعر الجديد في نماذجها الأولى التي أبدعها في مصر عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور، وسط الأصداء القوية التي كانت لرواد هذه الحركة في العراق: السياب ونازك والبياتي وغيرهم. وسكن وجدان الشاعر بعد أن ابتعد عن خضمّ الصراعات التي شغلته من قبل في الحجاز، وأتيح له المزيد من شعر التأمّل، والنفاذ إلى أعماق الظواهر والأشياء والبشر، وأن يجرِّب قصيدة الشعر الحرّ الملتزمة بتفاعيل الشعر العربي، وأن يحلّق في عدد من القصائد إلى ذرى سامقة لم يبلغها شعره من قبل. وإن كان بعض مؤرخي الشعر السعودي الحديث يرون أن شعره الذي أبدعه في مكة وجدّة هو الذي حقق له الشهرة وذيوع الصيت، في حين أن القصائد التي تلفت النظر بقوة إلى شعره وهو في مصر، هي في رأيهم قصائد قليلة، من بينها «غادة بولاق» و«نفيسة» و«قالت شجرة لأختها» و«العجل أبيس». وهو رأي يخضع للمناقشة بطبيعة الحال. ولعل أطرف ما قيل فيه من جامعي شعره ومحققي ديوانه: «إن شعره شبيه بما نحت من الشراع الحجري المنصوب على جانب من شواطئ «كورنيش» الحمراء بمدينة جدة، فيه السهولة والسلاسة والحلاوة، حتى لكأنه شعر البحتريّ أو الشريف الرضيّ، حين يقول مثلاً في «جدة»: النهى بين شاطئيْكِ غريقُ ويضيفون «أنه بَيْنما نجده في قصيدة ما منسابًا، مترقرقًا، واضحًا، إذا هو في أخرى معقد، غامض، ميّال إلى اللفظ الغريب والمعنى الغامض». وهو رأي بحاجة إلى المزيد من الرويّة والمراجعة! في قصيدة «لم أهواكَ؟» للشاعر السعودي حمزة شحاتة، نجد صفاته الشعرية التي عُرف بها في سائر شعره: لغة رصينة سلسة، متدفقة، منْسابة، وإيقاع يساوق حركة النفس في وجدان الشاعر، سريع النفاذ إلى وجدان المتلقي - قارئًا أو مستمعًا - ورهافة إحساس يعبق بالنضج والخبرة وحصيلة التجربة الإنسانية، لدى إنسانٍ عاش وذاق وعرف، وشاعرٍ تقلَّب في ثنايا إبداعاته وقصائده بين حال وأخرى، مُعبّرًا وكاشفًا، وملقيًا بنفسه في أتونها، ليزيد من اشتعالها وتوهّجها. يقول حمزة شحاتة: يا حبيبي، يا ملتقى الشعر والفتْـ *** لم أهواكَ؟ أيها المفعمُ النَّفـْ *** والمعاني بوحيها، ومدى الوحـ *** وتراها فيما ترى من جميلٍ *** أم لحسنٍ، والحسنُ في البرعمِ المكْـ *** ألهذا أهواكَ؟ يا مُثقلَ القلْـ *** أتُراني أهواكَ حقًا، فما فيـ *** لسْتَ تدري! نعمْ، ولا أنا أدري *** لستُ أهواكَ - لاهويتُكَ - للحسْـ *** أنتَ في فكرتي عَناءٌ وقيْدٌ *** أيّ حاليْكَ أشتكي؟ أنت في القُرْ *** لتمنَّيْتُ أن أكونَ عبيرًا *** لأرى ما الذي يُتيِّمني فيـ *** فتكشّفْ عما انطويْتَ عليه *** أنصيبي من الهوى هذه الوقـْ *** وكذا يطلبُ الخيالُ الأماني *** لقد صاغ الشاعر حمزة شحاتة قصيدته «لم أهواكَ» في قالب الرباعيات، وهو قالب شاع استخدامه في شعر الرومانسيينِ الكبار، وبخاصة في شعر علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل على الترتيب، لما يتيحه من تنوع في القوافي، وتعدد في الوقفات النفسية والفنية التي تتخلل القصيدة، وإطالة في نَفَسها الشعري إلى مدًى لا تقوم به القصيدة العمودية ذات القافية الواحدة. ولعل قصيدة «الله والشاعر» للشاعر علي محمود طه في ديوانه «الملاح التائه» أن تكون نموذجًا دالاً على استخدام هذا القالب الشعري - قالب الرباعيات - في بناء قصيدة ذات نفسٍ طويل - هي أطول قصائده على الإطلاق - ووثبات نفسية مختلفة، وبنية إيقاعية تجعل لكل رباعية من هذه الرباعيات مذاقها الخاص، وموقعها المتميز في حركة القصيدة، وبخاصة عندما يسود القصيدة طابع التأمل، أو النزعة الفكرية، أو السياق العاطفي القابض على لحمة القصيدة وسداها. كما جاءت صيغة التساؤل في عنوان القصيدة وفي رباعياتها، متيحة لحركة فاعلة مستمرة، من السؤال والجواب، أتاحت للشاعر التحليق في فضاءات شتى، وجعلته في الوقت نفسه مقيَّدًا بفكرة الثائر العفيف والثورة العفيفة، يشقى بها من دون محبوبه، ويلاقي بسببها أهوال معاناته، وكثيرًا من صنوف حرمانه، وتشككه في حقيقة هذا المحبوب ما بين الحقيقة والخيال، ما بين الوهم والواقع، متطلعًا إلى فهمٍ أعْمَق لسرِّه وكُنْهه ومُجتلى حقيقته، أملًا في أن يتكشف ذات يوم عما انطوى عليه. عندئذٍ يتخلص الشاعر مما يعانيه من بلاء، وعما ضاق به ذرعه من مجاهدة، وعن الوهم الذي يُخيّل له دُنُوَّ محبوبه. وقربه الشديد، وهو في حقيقة الأمر ناءٍ بعيد، والسبيل إليه نابٍ ومُبْهم. إن الشاعر يكشف لنا في رباعياته البديعة هذه عن موقعه القائم على عزة نفسه في تعامله مع محبوبه، والصمت عن المواجع التي حفلت به قصتهما معًا، متسائلًا: هل الحرص على إيثار هذه العزة هو السبب فيما عاناه من ألم صامت، وشجون وحيرة وشقاء؟ ومن أجل ماذا يمكن أن يضحي الشاعر في حبه لمحبوبه؟ هل في سبيل الحسن والجمال، وهما في كل الكائنات من حوله؟ بل هما في البدر والزهرة أندى وأوقع وأروع، أم من أجل معنًى عميق مستسرٍّ كامنٍ في مفاتن المحبوب، ومتى كانت هذه المعاني مقصورة على الإنسان وحده، دون غيره من الكائنات؟ ألحسنٍ فالحسنُ في البدر والزَّهْـ ولعلّ هذا التساؤل الشائكّ، وهذا الجدل العنيف، وهذه اللغة الشعرية الدرامية، أن تكون جميعها من وراء الإحساس بتفرّد هذه القصيدة البديعة من قصائد حمزة شحاتة، نموذجًا لرومانسية الإحساس وواقعية التأمل والتساؤل في آنٍ!.
والهوى فيك حالمٌ ما يفيقُ
ورؤى الحب في رحابك شتى
يستفزّ الأسيرَ منها الطليقُ
ومغانيكِ في النفوس الصّديّا
تِ، إلى زيّها المنيع رحيقُ
إيه يا فتنة الحياة لصبٍّ
عهدهُ في هواك عهدٌ وثيقُ
كم يكرُّ الزمان متئدَ الخَطْ
ـوِ، وغصْنُ الصِّبا عليك وريقُ
ويذوب الجمال في لهب الحبِّ
إذا آبَ، وهو فيكِ غريقُ
جدّتي أنتِ عالَمُ الشعر والفتْـ
ـنةِ، يروي مشاعري، ويروقُ
ـنةِ، يا غالبي على أمرِ نفسي
لم كانت - ولا أسومُكَ لوْمًا -
قسْمتي في هواكَ قسْمةَ وكْسِ
ألأني آثرْتُ في حُبّك القا
هرِ عزّي، ذهبْتَ تطلبُ نفسي؟
أم لأني ضحيةُ الألمِ الصَّا
متِ أطوي على المواجع حِسِّي؟
س، شجونا، وحيْرةً وشقاءَ
ألحُسْنٍ؟ فالحسن في البدر والزَّهْـ
ـرةِ أندى وقْعًا وأَضْفَى رُواءَ
أَمْ لمعنًى شفَّت مفاتنُكَ العَذْ
بةُ عنه، فكاد أن يتراءى؟
فالمعاني في الكون ليست على الإنـ
سانِ وقْفًا إلا هوًى وادّعاءَ!
ـيِ عميقٌ، فيما يضمُّ الوجودُ
فتراها في قطعة الأرض والصَّخْـ
ـرةِ، شعرًا لم يُبْلهِ الترديدُ
وتراها في نأْمةِ الطير للطَّيـْ
ـرِ نشيدًا، لم يجْرِ فيه القصيدُ
وتراها في لفْتة الظبي للظَّبْـ
يةِ سحرًا يُبْدِى، وحينا يُعيدُ
وقبيح، وهيِّنٍ، وعظيمِ
صورًا حيّةً، يناجيك منها
ألفُ وجهٍ من كالحٍ ووسيم
كلُّ وجهٍ دنيا بتاريخه النَّا
بضِ، تصْبَى بحادثٍ وقديمِ
وفضاءٍ لا يعرفُ الحدَّ والقيْـ
ـدَ، ولا وغْرةَ الضَّنى والسُّهومِ
ـمومِ، لطفٌ يسري، وروحٌ يرفُّ
وهو في مولد الربيعِ حياةٌ
تتصبَّى، وفتنةٌ تستَخفُّ
وهو في لفتة الخريفِ وداعٌ
ودموعٌ ثرّارةٌ، ما تجفُّ
وهو في عُزلة الشتاء انقباضٌ
وصُموتٌ، يُعدي المشاعرَ، وحْفُ
وهو في وقْدةِ الظهيرةِ شكوى
مرهَقٍ ضاق بالظهيرةِ ذَرْعا
وهو في همسة الجداولِ لحنٌ
طاب في مسمع الطبيعة وقْعا
وهو في ملتقى الزهور حديثٌ
لم تُضيّعْ له النسائمُ رَجْعا
وهو في الأرض والسماءِ جمالٌ
يتفشَّى هوًى، وينسابُ لمْعا
ـبِ بهمٍّ من الشقاءِ طويلِ!
أم لذلٍّ أَذقْتني منه ما أَظْ
ـمأَ روحي على رِواء مَخيلي
أم لهذا الفتون يروى به غيْـ
ـريَ غُلاّ، وما يبلُّ غليلي؟
أم لجهلٍ عرفْتُ سيماءهُ فيـ
ـكَ، وشأنٍ من الذكاءِ ضئيلِ؟
ـكَ لمثلي معنًى يُمازجُ حِسِّي؟
أم تُراني أهواكَ زورًا؟ فلِمْ يُصْـ
ـبحُ قلبي على هواكَ ويُمسي؟
أم تراني أُحبُّ فيك - وما أشـ
ـعرُ- نفسي، وأنت عندي كنفسي؟
لأَنا منك في سبيل من الحيْـ
ـرةِ، تُضْني عقلي، وتُثْقلُ حَدْسي!
لمَ تهفو إلى لقائكَ رُوحي؟
ولماذا أكونُ فيك، كما ترْ
سفُ في السجنِ فكرةُ المكبوحِ؟
ولماذا أكون إن غبْتَ في دُنْـ
ـيا سئومٍ، جمِّ الكُروبِ، طليح؟
فإذا لُحْتَ أشَرقتْ، وتلَقّتْـ
ـني بوجهٍ طَلْقِ المُحيّا صبيحِ
ـنِ، فهل فيك غير حُسنٍ علِيلِ؟
لا، ولا للشباب،والعُمُرِ الغضِّ
فعمرُ الشباب غيرُ طويلِ
لا، ولا للشعور أو لمحة الحُسْـ
ـنِ، هما فيك مثل رسمٍ مُحيلِ
ومجالُ الحياة أَحفلُ بالحُـسـْْ
ـنِ، ولكنَّهُ شقاءُ العقولِ
وبقلبي أسًى يَلِظُّ شعوري
يبسم الناسُ للحياة وأُغضي
دون غايات لهوهم كالأسيرِ
حال حسنُ الحياةِ والنورُ في عَيْـ
ـني، فنفسي تهيمُ في ديْجورِ
وأراني أستروحُ النَّسْمَةَ الحيْـ
ـرَى، وجدواكَ لي كجدوى الهجيرِ
بِ، وفي البعد مطمعٌ ممطولُ؟
وكم ارتحْتَ لي بجملةِ ما فيـ
ـكَ، فلم يَرْوَ لي عليه غليلُ
أوراءَ السِّماتِ من حُسْنكَ الذَّا
بل وردٌ بما أُريدُ حفيلُ؟
لستُ أدري، أذاك من صُنْعِ وهمي
فيكَ، أم أنه جمالٌ أصيلُ؟
ضلَّ مسراهُ، في جوانبِ صدرِكْ
أو دمًا شفَّ في عُروقكَ عن سرِّ
معانيكَ، في مفاتن سِحْرِكْ
أو خيالاً يجولُ في قلبكَ السَّا
ذجِ، قرّتْ فيه حقيقةُ أمرِكْ
أو كلاما يدور في فيكَ سَكْرا
نَ، أطافت به حلاوةُ ثغرِكْ!
ـكَ، وألقاكَ خلف هذا الحجابِ
فأنا ظامئٌ إلى كُنْهِ ما فيــ
ـكَ، وألقاكَ خلف هذا الحجابِ
لسْتُ بالمستريح فيكَ إلى الغا
يةِ لو نِلْتُ من مُنايَ طِلابي
ذاك ظنّي، لكنها ضلَّةُ الحبِّ
تُريني ضحْلَ الهوى كالعُبابِ!
لأرى في هواكَ نهْجَ الصوابِ
فأنا منك في بلاءٍ أُعانيهِ
ولونٍ من المعيشةِ كابى
وجهادٍ ضاقت به النفسُ ذَرْعًا
وصعابٍ موصولةٍ بِصعابِ
أنتَ دانٍ، لكنَّ ما فيكَ ناءٍ
وسبيلُ الحياة دونَكَ نابي
ـدةُ، يشْقَى بها فؤادي اللهيفُ؟
أفأنْتَ الجاني عليَّ، وإلا
هو فكري الظامي، وحِسِّي العطوفُ؟
وهما فيك ثائرانِ عَفيفا
نِ، كما ثار في القيود الرَّسيفُ
طلبا فيه ما أضلاّهُ من حُلْـ
ـمٍ، وما فيك ظاهرٌ مكشوفُ!
وهو عن واقع الحياةِ عزوفُ
والهوى - كالحياة - قد يبلغُ الجا
زمُ منها، ما لا ينالُ العفيفُ
رُبّ نفسٍ نالت مناها على العيْـ
ـشِ، وأُخرى نصيبها التسويفُ
وهي دنيا الشذوذ يرتفع الجا
هلُ فيها، ويُستذلَّ الحصيفُ!
ـرةِ أندى وقْعًا وأضفى رُواءَ
أم لمعنًى شفّت مفاتنُكَ العَذْ
بةُ عنه، فكاد أن يتراءى
فالمعاني في الكون ليست على الإنـ
ـسانِ وقْفًا، إلا هوًى وادِّعاء!