بريد عاجل: مرثية لجيل يأفل وقيم تسقط نذير جعفر

بريد عاجل: مرثية لجيل يأفل وقيم تسقط

بعد روايته (عين الذئب) و(ورّاق الحب) يستمر خليل صويلح عبر روايته الجديدة (بريد عاجل) في اقتحام عوالم مغايرة على مستوى الفكرة والحدث وآليات السرد, مطيحاً بكثير من المقولات والقوالب الجاهزة والتصوّرات المسبقة عن الجنس الروائي وحدوده.

في (بريد عاجل) نواة مغامرة فنّية في الانتقال من الرواية بوصفها سرداً لما حدث إلى الرواية بوصفها بحثاً فيما حدث وتأويلاً له عبر تقنيات تستثمر إمكانات الرواية التقليدية وتتحرّر منها في آن معاً.

ينطلق السرد على لسان الراوي/المؤلف الافتراضي بضمير المتكّلم من الزمن الراهن ليعود عبر الذاكرة والتداعيات إلى مرحلة الثمانينيات الدمشقية مستحضراً مناخات تلك المرحلة وعدداً من الشخصيات المحيطة به والمؤثرة في حياته. وعبر تناوب لحظتي الراهن والماضي تتشكّل بنية الرواية وشبكة علاقاتها التي تحاول رصد وفهم التبدل المتسارع بين زمنين وجيلين, على خلفية تبدل وسائل الاتصال بين البشر في عصر العولمة و ما أفرزه هذا التبدّل من تغيّرات في الرؤى والمشاعر والعلاقات الإنسانية والعاطفية.

يتميز نمط القص في (بريد عاجل) بهيمنة موقع الراوي / البطل, حيث أصوات الشخصيات على تنوّعها واختلافها تبدو محكومة بهذا الموقع, فنراها ونتعرف إلى عوالمها من خلاله, وهي بقدر ما تحاول الإفصاح عن نفسها عبر القول والفعل, فإنها تظل مقيّدة بالسياق الذي يوظفها فيه بما يخدم رؤيته الخاصة لمجمل العلاقات المحيطة به والأحداث التي يمرّ بها. ومن هنا كان من الممكن لتلك الشخصيات أن تنمو وتتطور وفق مسارها الخاص, وأن تكشف عن غناها الروحي والمعرفي بشكل آخر لو لم تُقيّد حركتها بحركة الراوي وحده, وصوته المهيمن على البرنامج السردي برمّته من أوله إلى آخره.

إن هيمنة صوت الراوي بوصفه البطل المحوري وما تضمّنته الرواية من أحداث وشخصيات وأمكنة معروفة, توحي للوهلة الأولى بأن هذا العمل ليس سوى سيرة ذاتية للمؤلف الحقيقي (خليل صويلح), لكن من يتأمل النص بعيداً عن أية مؤثرات مسبقة في توجيه القراءة يدرك تماما الخيط الرفيع بين الرواية والسيرة. إذ إن تطابق بعض الأسماء والأمكنة والأحداث مع المرحلة التي عاشها المؤلف لا يعني واقعيتها الصرفة, فهناك مساحة واسعة من التخييل الفني في إضفاء ملامح جديدة على الشخصيات والأحداث والأمكنة, وفي توظيف التراث وأسلبة الرسائل والمذكرات, ما أعطى لهذه الرواية معناها ونأى بها عن المنحى التسجيلي لما حدث, إلى إعادة إنتاجه وفق انزياحات متعددة على مستوى اللغة والفكرة والحدث والتصوير, في محاولة لفهمه ومساءلته واستشراف آفاقه, وإشراك القاريء في الحوار معه وحوله.

يبدأ المؤلف لعبته الفنية في إطلاق مخيلة المتلقي وشد انتباهه عبر عناصر التشويق المتعدّدة التي تتوزّع على حدثين ومسارين يتناوبان الحضور في البنية السردية, أحدهما يبدأ من المرحلة الراهنة, مرحلة سقوط نظام صدام حسين وتداعياتها, وفيها نتعرف إلى علاقة الراوي الجنسية بزميلته في العمل (ريم) والآمال التي يعقدها على من أسماها (شاكيرا) التي التقاها في إحدى المصادفات العابرة, ثم نتلمس ظلال الخيبة والوحشة والانكسارالتي يعيشها بعدما غادره الجميع وظل وحيدا يجتر أحزانه. أما المسار الثاني فيسترجع فيه الراوي مرحلة الثمانينيات المشبعة بالروح الرومانسية والأحداث العاصفة التي عاشها مع سارة صالح وحنين سلوم والشاعرين رياض حسين و(مايكوفسكي) والناقد نادر حسن, والصحافي العراقي عواد الكاظمي. وما بين المرحلتين تتعدّد الأمكنة وتنداح ذكريات الراوي بدءاً من أيام الشباب الأولى في الحسكة (شمال شرق سورية) حيث كان حلمه الوحيد ينحصر في كتابة الرسائل وتلقي الردود عليها على عنوانه في مقهى (الآشوري), ثم انتقاله إلى دمشق للدراسة في قسم التاريخ, وتعرفه إلى سارة صالح في سرداب (مايكوفسكي) إثر كتابته لمقال نقدي حول قصيدتها المنشورة في صحيفة الجامعة, ثم سفره إلى دبي وتعاقده مع شركة إعلانية فيها, وعودته مجدّداً إلى دمشق للعمل في أرشيف إحدى الصحف المحلية بعدما كان محرّراً فيها! وصولا إلى علاقته الراهنة بزميلته ريم وتلهفه للقاء شاكيرا.

هل هي سيرة ذاتية?

وعبر هذين المسارين اللذين ينتظمان الرواية تقتحم شخصية نادر حسن البرنامج السردي من منظور الراوي وموقعه المهيمن, فنتعرف إلى علاقته بسناء ملحم وإقدامه على الانتحار بعدما وصل معها إلى طريق مسدود, ثم نلمس التبدّل الذي طرأ على حياته بعد سفره إلى الكويت, وتحوّله من ناقد ماركسي إلى باحث عن جماليات الشعر النبطي في كتابه (لآليء الحداثة الشعرية في الخليج)! كما نتعرف إلى الشاعر رياض حسين وعلاقته بكل من بثينة العراقية ورزان الفنانة التشكيلية, وما تنطوي عليه حياته القصيرة من أبعاد تراجيدية. وعلى المسار نفسه تدخل شخصية عواد الكاظمي الصحافي العراقي الهارب من سجن أبو غريب وبطش صدام آنذاك وما يعيشه من عذابات في المنفى توّجها بقرار هجرته المفاجيء إلى قبرص, كما تدخل شخصية الشاعر الكوزموبولوتي (مايكوفسكي) الذي تحوّل بيته المسمى بالسرداب إلى ملتقى المثقفين الحداثيين من كل حدب وصوب.

إن شبكة الأصدقاء النخبوية المحيطة بالراوي/البطل مجال خصب لتوسيع دائرة السرد ورصد التباينات والصراعات على المستويين الفكري والنفسي, لكن المؤلف تعامل مع هذه الشبكة في حدود ضيقة وبما يخدم التركيز على الشخصية الرئيسة في الرواية. ومن هنا يتسرّب الانطباع الأوليّ لدى القاريء بأن هذه الرواية مجرد سيرة ذاتية لمؤلفها ولا سيما أن معظم الشخصيات باستثناء رياض حسين ما زالت حية وأن كثيرا من ملامحها الحقيقية قد قاربتها الرواية بشكل أو بآخر, وأن من يعرف تلك الشخصيات لا بدّ وأن يجدها بلحمها ودمها في الرواية والحياة معا, مع شيء من التحوير الذي تمارسه مخيلة المؤلف ويتطلّبه سياق الأحداث.

لقد شكّل الفضاء الزماني / المكاني بعدا حيويا لحركة الراوي والشخصيات التي تدور في فلكه, فالبنية الدائرية للزمن في (بريد عاجل) مكّنت الراوي من الانتقال بين مرحلتين بسهولة عبر تقنية الاسترجاع, حيث يبدأ من اللحظة الراهنة المؤرخة بسقوط نظام صدام حسين عام (2003) ثم يعود إلى مرحلة الثمانينيات, ومنها إلى الوقت الراهن حتى اكتمال الدائرة.وهو في التقاطه لمرحلة الثمانينيات والتحولات التي رافقتها يضع يده على جرح ساخن ما زال أصحابه يعيشون بيننا ويمثّلون أنماطا متباينة للشرائح المثقفة, ويعدّ الاقتراب من هذه المرحلة جرأة فنية وفكرية في حد ذاته بعدما أصبح التاريخ غطاء لكثير من الأعمال الروائية في هذه المرحلة.

فضاء مشحون

وإذا كان الزمان لا يجري إلاّ في المكان, فإن الأمكنة التي تشكل فضاء (بريد عاجل) مشحونة بظلال كثيفة من العواطف والانفعالات وبعضها تحول إلى جزء من ذاكرة دمشق, حيث الشخصيات تنتقل من سرداب مايكوفسكي في الصالحية إلى غرفة رياض حسين في الأزبكية ثم إلى غرفة الراوي في الشعلان. ومن الغرف المغلقة إلى الفضاءات المشتركة في مقاهي القنديل والنجمة والهافانا وسواها ترسم الشخصيات وقع خطاها وتترك رسمها على الشرفات لتقول : لقد مر هؤلاء من هنا.

وقبل الزمان والمكان فإن أول ما تقع عليه عين المتلقي هو عنوان الرواية (بريد عاجل) الذي يحقق علاقة تناص واضحة مع عنوان كتاب الشاعر العراقي قاسم سبتي (بريد عاجل للموتى) وإذا كان العنوان أول العتبات التي تشكّل استباقاً سردياً وتفصح عن محتوى النص أو توحي وتشير إليه, فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن هناك رسالة عاجلة ينقلها النص إلى قارئه, ووصف البريد بأنه عاجل يضعه في دائرة الخطورة, الأمر الذي يستفز مخيّلة القاريء, ويحفزه على معرفة فحوى النّص ومآله. لكن ما إن يمضي القاريء في تتبع المسار السردي حتى يواجه عتبتين أخريين تتضمنان اقتباسين يوظفهما الراوي في التمهيد لهواجسه وأفكاره, أولهما من حكاية شرقية قديمة وثانيهما من (طوق الحمامة) لابن حزم, والاقتباسان يوضحان تطور أساليب الرسائل بين زمنين. ومع توغل المتلقي في القراءة سيكتشف أن نقطة الانطلاق في الرواية تبدأ من وصول رسالتين إلى الراوي, إحداهما من سارة صالح في باريس والثانية من نادر حسن في الكويت, وأن هاتين الرسالتين تفجران مخزون الذكريات التي تعود إلى مرحلة الثمانينيات. وتستمر لعبة الراوي بين برهة سردية وأخرى بالعودة إلى الرسائل في الماضي وتطور سبل نقلها من حمام الزاجل إلى البريد ثم إلى الإنترنت فالهاتف النقال أخيراً. وفي رصد الراوي لهذا التطور يذكر أشهر رسائل الغرام بين المشاهير, ومن خلالها يطرح سؤاله الذي يمكن أن نعدّه المقولة الرئيسة التي تحاول الرواية طرحها والإجابة عنها بشكل أو بآخر وهو : هل تبدّل أشكال التواصل عبر الأزمنة من (عادية) إلى (عاجلة) مؤشر على تبدل العلاقات الإنسانية والعاطفية ? وبمعنى آخر: هل زمن الإنترنت والرسائل الإلكترونية سيتبعه نمط من العلاقات التي تشكل قطيعة كلية مع الماضي?!.

الثمن محدد

إن سياق الرواية يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب, فشاكيرا التي تعرّف إليها الراوي أثناء دفع فاتورة (الموبايل) والتقط رقمها, ثم بادلها الرسائل عبر جهازه, لم تعد تمثل نمط الفتيات اللاتي عاش هو وجيله تجاربهم معهن في الثمانينيات, فهي من اللقاء الأول تحدد المبلغ الذي يجب أن تتقاضاه لقاء قضاء ليلة واحدة معه أو بضع ساعات. ومن هنا تبدأ الصدمة التي تجعل من الراوي (دون كيخوت) في زمن لم يعد زمنه, وهو ما عبّر عنه في النهاية المفتوحة على كل الاحتمالات من خلال هبوطه في المصعد إلى المتاهة التي لم يعد يتلمس فيها طوق النجاة, كما أن غلاف الرواية الذي تحتله صورة الكمبيوتر يعزّز هذا الاستنتاج ويشي بأن المتاهة ليست سوى الشبكة العنكبوتية التي يتحول من خلالها البشر إلى كائنات افتراضية لا تتواصل عبر المشاعر والأحاسيس بل عبر الغرف الزرقاء في فضاءات الإنترنت. و في سياق هذه الأطروحة أو الفكرة التي تنتظم الرواية من أولها إلى آخرها ينهض عالم الراوي المشبع بالحنين إلى الماضي المستعاد بذكرياته الحميمة مع سارة صالح ونادر حسن عبر رسائلهما إليه ورياض حسين عبر قصائده و(مايكوفسكي) بصمته وسره الكتيم, وحنين سلوم بخواطرها الشاعرية, هذه الاستعادة تمثل الفردوس المفقود الذي خرج منه فلا يجد أمامه بعد ذلك سوى علاقته الجنسية مع ريم ووجه شاكيرا الذي يصفعه بصفاقته وعريه, وكلتا الحالتين تنتميان إلى زمن غير زمنه وجيل غير جيله وقيم غير قيمه, فأين سيجد نفسه الآن? هل انتهى عصره وعصر جيله ولم يبق أمامه سوى إعداد مرثية تليق برحيله قبل الأوان?

إن (بريد عاجل) تطرح مثل هذا السؤال وغيره, ومن هنا تكمن أهميتها في إثارة وتحفيز ذهن المتلقي على المشاركة في الحوار حول ما جرى ويجري من تبدلات متسارعة في حياتنا التي لم تعد تستقر على حال.

لَعمْركَ! ما غادرتُ مطلِعَ هَضبةٍ من الفكرِ, إلاّ وارتقيتُ هَضابها
أقلُّ الذي تجني الغواني تبرّجٌ يُري العينَ منها حَلْيها وخِضابها
فإن أنتَ عاشرتَ الكَعابَ فَصادِها وحاوِل رضاها, واحذرنّ غَضابها
فكم بكَرَتْ تسقي الأمرَّ حَليلَها من الغارِ, إذ تسقي الخليلَ رُضابها
وإنّ حبالَ العَيشِ, ما علِقَت بها يدُ الحيّ, إلا وهي تخشى انقضابها


(أبو العلاء المعري)

 

نذير جعفر 




القاص الفلسطيني خليل صويلح





غلاف الرواية