عصر الكباب... نعمات البحيري

عصر الكباب...

حين ذهبت إلى مدينة السادس من أكتوبر, فارة من مدينتي التي كانت جديدة في يوم ما, وتم (ترييفها), فصارت مثل ريف مشوه, نقلت معي أثاثي وقططي وكتبي ونباتاتي وأحلامي ومخطوطات كتبي, كنت أرغب في دخول بهجة جديدة أستشعرها دائمًا حين أنتقل إلى مكان جديد, ليس للأسباب أهمية على الإطلاق سلبية كانت أم إيجابية. أحمل أثقالي وأذهب متعمدة الفرح والمرح لبناء عالم جديد, بتاريخ جديد في جغرافيا جديدة, ربما واتتني القدرة على البعد ولو قليلاً عن الضوضاء والزحام والتلوث البيئي والإنساني بما يعني فساد البشر, وسقوط أحلامهم, ودخولهم شرانق الكآبة أو الأنفاق المعتمة والعالم من حولنا يهيئ المناخ لهزائم كثيرة.

كنت عبر البيوت التي سكنتها من قبل أفتقد ضوء وحرارة الشمس, بيت أبي وبيت أمي حتى بيت زوجي ثم بيت أخي, وآخر المطاف كان بيتي. كل البيوت رطبة ومعتمة وللصقيع الذي يضرب في أنحائها قوام صلب صارم, وحين فطنت لفداحة المسألة قررت البحث عن بيت آخر.

ومثل شهرزاد التي تتمرّد على حكاياتها وتتنازل عن (شهريارات) العصر الذين صاروا سماسرة ورجال أعمال- أي أعمال حتى لو سحرًا وشعوذة - وكتابًا ومثقفين مطابقين للمواصفات العالمية - تاركة كل ذلك لـ(شهرزادات) المرحلة اللائي صرن سيدات صالونات وسكرتيرات ومندوبات بيع في شركات وهمية وجرسونات في مطاعم فاخرة وراقصات ومطربات كليبات, والثعلب فات فات وفي ذيله ألف لفة وليس سبع لفات فقط.

جئت المدينة ورأيت بعيني الشمس تغمر شقتي وغرفتي وسريري والعصافير تتقافز على حبل الغسيل, فأضع لها شيئًا من إفطاري وتلتقطه في غيبة مني. ذات صباح استيقظت فوجدت السرير مغطى بالشمس والعصافير, لم تزعجها حركتي, قلت هؤلاء أهلي وجيراني الجدد.

في جدار الصالة فراغ بين عمودين, فكرت في عمل مكتبة بينهما لتحمل كتبي وتذكاراتي وشهادات التقدير التي يسميها أخي (رجل أعمال بصيغ المرحلة) أوهامي التي أحملها أينما ذهبت. أمرر ملاحظة أخي فهو (أخي) المدون اسمه في بطاقة أبي العائلية إلى جوار اسمي.

في المركز التجاري القريب على نحو ما من بيتي رأيت الـ(ديزينر) رجل أعمال بشروط المرحلة يقف أمام ورشة نجارة بائسة, يذكرك وجهه البشوش وابتسامته أن الدنيا لاتزال بخير, أن الشر حتمًا سيكون في مكان آخر. جاء معي ليأخذ مقاسات مكتبة خشبية بمواصفات بسيطة تضم أوهامي الخاصة كما يقول أخي -. وما إن ألقى (الديزينر) - أصر على مناداته بهذا اللقب - نظرة لكل هذا حتى راح في عصبية ممزوجة بالفرح يتصل عبر الموبايل ليستدعي شخصًا جاء مسرعًا يحمل مخطوطًا كتب بحرفية عالية على الكمبيوتر. والمخطوط معتنى بغلافه الأخضر الذي يذكرك بكسوة مقامات أهل البيت وأولياء الله الصالحين.

عرفت أنه يكتب الرواية ويتمنى لو يسمع رأيًا صريحًا فيما يكتبه, كما يطمح لو أن أحدًا يرشده إلى طريق النشر والشهرة. هكذا قال (الديزينر) وهكذا يفضل أن يناديه الناس. ترك روايته وغادر بيتي بعد أن أخذ المقاسات والمواصفات, لم تدهشني أحلامه وطموحاته, فهكذا الدنيا تسير وبعد كل متر مربع تكتشف أن هناك مبدعًا ضل طريقه إلى مكان آخر.

في العاشرة صباحًا, اتصل بي يزف نبأ ساراً, أن المكتبة جاهزة للتركيب, صعقت فقد أخذ المقاسات بالأمس فقط, رأيتها أمام ورشته وأعطيته ملاحظاتي على اللون والفراغات التي ستحمل الكتب, وفي الخامسة جاء بعماله وقاموا بتركيبها, نقدته نصف المبلغ المتبقي, فأخذه مؤكدًا على ضرورة الاهتمام بظقراءة روايته.

وبالفعل أنفقت وقتًا كان ثقيلاً للغاية في قراءة ما يسميه برواية, وللأسف لم أجد ما يبشر بأي موهبة, وصارحته بضرورة أن يكتب كثيرًا, ويقرأ أكثر ليسقط الخبرات السيئة, ويعلو بالخبرات الجيدة.

أوحيت له أيضًا أن الكتابة تحتاج إلى جهد كبير, وأن الرحلة استهلكت من العمر ربع قرن من الزمان, وحفنة أحلام يقول أخي عنها أوهام.

ما حدث بعد ذلك, رتب على عاتقي مسئولية هائلة هيمنت على عقلي ونفسي بعد اختفاء الرجل اختفاءً مروعًا, ظاهرها أنني أبحث عنه لأسدد له المتبقي من ثمن المكتبة. لكن في عمق قاع الروح ترسبت أسباب أخرى أحدها أنني السبب الأوحد في اختفائه. والغريب أن الورشة كانت تعمل أثناء غيابه وكنت أعاود سؤال العمال كلما مررت قريبًا منها ولا من إجابة شافية.

بعد عام وأكثر, ظهر (الديزينر) في المركز التجاري, وكان يفتتح مطعمًا كبيرًا للمشويات, كباب وكفتة ودجاج, رأيته بنفسي وهو يقف أمام الشواية الكبيرة يتلقى باقات الورد والموسيقى تنطلق في صخب من جهاز استريو كبير, وقد أفرط في تصميم المكان بديكورات فخيمة وجدران مبطنة بالخشب المجزع ونشارة خشب ملونة مرشوشة على الأرض ووجبات جاهزة مجانية توزع على الناس ربما للوصول لأعلى نقطة في الاستعراض المنصوب. وحين اقتربت لأهنئه سلم عليّ ببرود, وحين منحته المبلغ المتبقي من ثمن المكتبة نادى أصغر صبيته, وأمره بأن يأخذ مني النقود مفتعلاً أنه يتابع حركة المهنئين والزبائن.

لم يمر وقت كثير حتى صار الحاج طلبة أشهر كبابجي في المدينة, وصار يطعم المصانع والشركات والجامعات والمعاهد والمستشفيات والأبنية الإدارية, التي انتشرت في المدينة. كنت أرى لافتات بالألوان والأضواء النيون في كل شوارع المدينة وميادينها مرسوم عليها وجه (الديزينر), وهو يرتدي طاقية الشيف يبتسم وكأنه يخرج لي لسانه, بعدها حول ورشة النجارة إلى مطعم فاخر للفول والطعمية مراعاة لمحدودي الدخل, كان يتجاهلني تمامًا كلما رآني, وكان عليّ أن أبادله التجاهل بما يوازيه من تجاهل, لكن ظل شيئًا ما في نفسي يشي أن ثمة ذنبًا اقترفته.

تفرَحنّ بفألٍ, إنْ سمعتَ به ولا تَطَيّرْ, إذا ما ناعِبٌ نعبا
فالخطبُ أفظعُ من سرّاءَ تأمُلها والأمرُ أيسرُ من أن تُضْمِرَ الرُّعُبا
إذا تفكّرتَ فكراً, لا يمازِجُهُ فسادُ عقلٍ صحيحٍ, هان ما صعبُا
فاللُّبُّ إن صَحّ أعطى النفس فَترتها حتى تموت, وسمّى جِدّها لَعبِا


(أبو العلاء المعري)

 

نعمات البحيري