سيزان وبيسارو «مستنقع الأخوات» و«جسر بونتواز»

نزار يحيى في أرض الطيور

واقفا على أعتاب الهجرة إلى أرض نائية، مغادرًا ومفارقًَا حدود العراق آلاف الأميال، أقام نزار يحيى في عمّان معرضًا فنيًا لافتًا، فكرة وتنفيذًا، تحت عنوان «أرض الطيور»، وهو معرض أراد له الفنان، قبل أن يشد الرحال ويغادر عمّان التي أمضى فيها ما يقرب من ست سنوات متواصلة، أن يؤرخ هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ وطنه وشعبه المبعثر في شتّى أرجاء المعمورة.

ينتمي نزار يحيى ( ولد عام 1963) إلى جيل الثمانينيات؛ جيل نشأ في خضم الحروب، وواجه العيش في كنف حصار جائر لم يشهد له مثيلاً. تجلت قدرته في الرسم منذ صباه، حين كان يمارسه هواية إلى جانب ولعه الشديد بكرة القدم. ساقته قدماه ذات يوم في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين إلى دار ثقافة الأطفال، وكانت تستقطب خيرة الرسامين الشباب لوضع رسوم لدوريتيها الرائجتين آنذاك (مجلتي) و (المزمار). من خلال العمل مع الموهوبين من طلاب معهد الفنون الجميلة العاملين في الدار، تفتّح وعي نزار يحيى على مفاهيم جديدة في الحياة والفن. تفتحت مداركه على ثقافة أخرى كان في منأى عنها وهو طالب في القسم الأدبي من الدراسة الإعدادية، وبدأ يتطلع، مثلهم، إلى حياة فنية احترافية. بهذا الهوس الجديد بدأ نزار يتسلل إلى أروقة معهد الفنون الجميلة (بغداد)، يحضر معهم دروسهم العملية في قسم (الجرافيك)، ويستمع إلى مناقشاتهم الفنية مع أساتذتهم. وفي هذا المختبر الكبير، الذي تخرّج فيه كبار الرسامين العراقيين، تدرّب نزار على فن الحفر، وعايش الأجواء الإبداعية الحرة التي كان طلاب المعهد يمارسونها فكرا وإنتاجا. هكذا قرر الانتماء إلى أكاديمية الفنون الجميلة.

لم تخل بدايات حياته الفنية من أحداث ومعوّقات كانت السبب في تعثر خطواته الأولى. فجيل الثمانينيات هو جيل الحرب، بل الحروب فقد فيها أخا له، ثم والده من بعد ذلك بمدة قصيرة، وأصبح إزاء مسئوليات وأعباء عائلية جعلته يفقد الثقة بالحياة التي اختارها لنفسه. فأدار ظهره للفن وممارساته، وانصرف إلى العمل في مصنع للحدادة، ليصبح ملمّا بتقنيات هذه الحرفة الشاقة على مدى ثماني سنوات، وهو ما سيكون له شأن كبير في بناء شخصيته الفنية في ما بعد.

ظلت موهبة نزار كامنة لسنوات كان خلالها يرفض كل نداء يدعوه إلى عدم التفريط بها، حتى وجدها تفرض عليه العودة ثانية. كان أول ظهور له في معرض جماعي أقيم في بغداد عام 1995، شارك فيه بأعمال حفر (جرافيك) مع فنانين من جيله. يقول نزار، معلّقا على مشاركته هذه: «أسعدني أنني لدى عودتي إلى الفن لم أبدأ من الصفر، وأني وجدت نفسي مع خيرة فناني جيلي. كانت كل الأعمال المشاركة على مستوى جيد جدا. وكنت أختلف عنهم باستخدام الخامات، والخروج على الشكل التقليدي للإطار الخارجي للوحة؛ قدّمت شكلا مركبا تتداخل فيه فراغات».

رسّام مهم

استرعت أعمال نزار انتباه زوار المعرض، والفنانين منهم خاصة. كان شاكر حسن آل سعيد من أكثر الفنانين إعجابا بأعماله، وهو ما جعله يشعر بالزهو، كما يقول: «كنت أريد فقط رؤية شاكر، كان عقلي متشبعا بالحديث عنه وعن إبداعه. لم أتخيل أنني سألقاه في يوم ما، فضلاً عن التحدث إليه. كنت أعرف أنه شخص بسيط ولطيف. سألني شاكر عن عملي، فقلت له إنني مقل في العمل. فقال لي إن عملك في المعرض جميل، كما قال أشياء لم يدركها عقلي آنذاك. ثم قال: سأقول لك إنني اليوم التقيت رساما مهما، وستتذكر غدا قولي هذا. كان من دواعي فخري أن يعجب شاكر بعملي». وبعد أشهر من مشاركته في هذا المعرض تلقى نزار دعوة من شاكر حسن آل سعيد للمشاركة مع فنانين عراقيين آخرين في معرض بعنوان «البيئة والمحيط في الفن العراقي»، في متحف الأردن الوطني للفنون في عمّان 1997م.

في عمان، لعبت المصادفة دورا كبيرا في فتح آفاق الحياة أمام نزار يحيى. فمن خلال المشاركة في معرض البيئة، وما لمسه من ردود أفعال إيجابية تجاه عمله، اتخذ قراره بالبقاء في عمّان، التي تحوّلت محطة لقاء العراقيين على كل مستوى، فتهيأت لنزار فرصة التعرّف إلى كبار الفنانين العراقيين والتقرّب منهم، كما اجتمع ثانية بزملائه الذين انقطعت سبل الوصل بينهم لسنوات. لكنه، وأمام صعوبة الحياة والإيفاء بالتزاماته تجاه زوجته وولديه، اضطر إلى العمل في قطر، في محترف الشيخ حسن آل ثاني لطباعة أعمال الحفر، ليعود بعد عامين خالي الوفاض، كما يقول: «تركت قطر وعدت إلى عمّان مع العائلة فاشلين. بدأت العمل من جديد بقوة دفع كبيرة، كما لو كنت مختنقا. كانت ظروفنا، لدى عودتنا من قطر، سيئة للغاية؛ رجعنا إلى الصفر». ما بين الأعوام 1999 و2007، تميز نزار بنشاطه الفني المكثّف، وأقام معارض شخصية في قطر وعمان والبحرين وبيروت ودبي، كما أسهم في معارض مشتركة داخل البلدان العربية وخارجها. كان نزار، مثل معظم أبناء جيله، متأثرا بمن سبقوه من الفنانين العراقيين، خاصة شاكر حسن آل سعيد الذي لم ينج أحد من هذا الجيل من تأثيره القوي. لكن مؤثرات نزار لم تقتصر على الفنانين العراقيين فقط، فمن خلال اطلاعه أيضا على الكتب الفنية وتجارب كبار المحدثين في الفن الأوربي، استوقفت نزار أعمال النحّات الإسباني المعروف شيليدا Eduardo Chillida، خاصة تلك التي يستخدم فيها الحديد والصلب. فلعله، في تلك الوقفة وذلك التأمل أدرك أن قوة الأعمال هذه ناتجة عن قوة التأمل، في الموضوع والتحكم بالتنفيذ. ولعله أمسك بالخيط الذي يمكن أن يفتح أمامه مجالات لا متناهية من التعبير، مستدعيا مهاراته السابقة في فن الحديد وتطويعه، وما كسبه من خبرات نظرية في هذا المجال، إذ يقول: «تساءلت كيف يمكنني أن أقدم أعمالا تشابه أعمال الحديد، من دون استخدام هذه المادة الصلبة؟ فعدت أستثمر خبرتي في تلك الصناعة، وإيجاد مستويات مختلفة على سطح اللوحة. وهكذا أصبح لدي بحث فني يتطلب مني توثيقه بتخطيطات أولية تظهر أحجام الأشكال ونسب بعضها إلى البعض الآخر».

معرض شخصي

ظهرت نتائج هذا الجهد في معرضه الشخصي الذي أقامه في قاعة الأورفلي في عمان (2004). لم يكن المعرض الشخصي الأول لنزار، ولكنه كان الأكثر نضجا وقوة بلا شك. فقد كشفت أعماله هذه عن محاولة جادة لاجتراح مسار خاص به. كما تميز هذا المعرض (رسم على ورق، وخشب وقماش بأحبار ومواد مختلفة) بموضوعه المحوري الواحد، وأطر لوحاته غير التقليدية، وحالته التأملية. بدت البيئة المحلية في الأعمال، السطوح تحديدا وما تتركه عوامل المناخ من تأثير فيها، موضوعا يستحوذ على اهتمام نزار، ويغريه بالإمعان في معاملة الأسطح، ورقا كانت أم قماشا أم خشبا، معاملة تقرّبها من ملمس الطبيعة وشكلها. ففي أعمال هذا المعرض رصد للأثر، وما يخلّفه من ملامح موحية على الطرقات والجدران وغيرها من عناصر البيئة المكشوفة لمؤثراته. فكان معرضا لافتا حقا.

في عام 2005 غادر نزار إلى باريس للإقامة والعمل في المدينة العالمية للفنون، حيث أمضى هناك ثلاثة أشهر برفقة صديقه وزميل دراسته كريم رسن. كانت تلك هي المرة الأولى التي تطأ قدم نزار أرضا أوربية، والمرة الأولى التي يقف فيها أمام أعمال أصلية لأساطين الفن الأوربي الذين تشرّبت عيناه من أعمالهم المنشورة في الكتب. كان الانبهار أكبر مما يوصف. أدرك أشياء صغيرة

ما كان بإمكانه إدراكها من خلال الصور. لقد لامس عن قرب رعشة اليد هنا، وارتباك اللون هناك، ضربة تختلف عن ضربة، تباينات دقيقة لا تدرك إلا بالتمعن المباشر بالعمل. أدرك أسرار الفنان التي غالبا ما تخفيها الصورة المطبوعة في الكتاب، بل أدرك أن سر الإبداع يكمن في بشرية هؤلاء الفنانين، وفي عفوية الزلّة والضعف تكمن إنسانية الإنسان. وفي باريس أيضا تنبه نزار إلى الطبيعة كما لم يتنبه إليها من قبل. وشبّه تأثير المطر في الطرقات والشجر والنهر بعمل فنان غير مرئي يرسم على مساحة لا حدود لها، كما يقول: «كان المطر يصنع ألوانا، والألوان تتغير، والناس يمشون بطريقة جميلة. وبدأت أرسم مستوحيا تلك التأثيرات - المطر-». هذا الانتقاء لموضوعات من الطبيعة، ووضعها تحت المجهر، هو ما أوصل الفنان إلى معرضه الأخير في عمّان «أرض الطيور».

«أرض الطيور» خلاصة جهود مكثّفة في هضم المؤثرات، وخطوة راسخة في مسيرة نزار الفنية. منذ اللحظة الأولى التي يطأ فيها الزائر أرض المعرض، يقع تحت سحر أحجام الأعمال الكبيرة (مواد مختلفة على خشب) في وحدة موضوع متكامل ومتقن الصنعة، يظهر فيها الطائر موضوعا محوريا، كبيرا كان أم متناهي الصغر، مجسما أم مسطحا، فاقع اللون أم رماديا، مرسوما أم ملصقا (كولاج)، فإن الطائر هنا كائن يحمل من الخصائص الإنسانية ما يوحي بكونه أكثر من مجرد عنصر جمالي. فهو يخاطب المشاهد بأكثر من لغة تتجلى بفصاحة حينا وتغمض في أغلب الأحيان.

آثار على الرمال

كانت البذرة الأولى لفكرة المعرض قد ولدت لدى نزار عندما شاهد فوق رمال شاطئ الخليج في قطر طبعات أرجل طيور مهاجرة محفورة على الرمال، وممتدة امتداد البصر بأعداد لا متناهية؛ أثرٌ يمحوه المد ولا شك. ظلت هذه الالتفاتة الأولى كامنة لديه لتتفجر في ما بعد في عمّان عندما وجد الفنان نفسه واقفا في طابور العراقيين على باب المفوّضية السامية لشئون اللاجئين. كان كل منهم يحمل أوراقه الخاصة سعيا إلى الحصول على ملاذ آمن له ولعائلته، وكل منهم يحمل رقما بديلا عن اسمه. أرقام تتجمع فوق الأرض، طيور تستعد للرحيل، فهل ستحمل آثار أقدامها معها، أم ستتركها للمحو؟ لعل الصورتين تماهتا، ولعل الموقفين تداخلا في مخيلة الفنان ليتجلى في «أرض الطيور» بتوازن مدروس ما بين الفكرة والتنفيذ، تتخللهما شحنة عاطفية.

تكاد اللوحة الكبيرة التي أطلق عليها نزار اسم رمز الطير bird code، تختزل الفكرة برمتها، وربما تفتح بابا أوسع لمعرض آخر في المستقبل. ثمة مربعات شبيهة برقعة الشطرنج، ويحمل كل مربع رقما. يقول نزار: «هذا هو صميم الموضوع الذي تعبر عنه اللوحة. فنحن طيور تتهيأ للهجرة، أسماؤنا مجرد أرقام.

لقد طلبت من الأستاذ رافع الناصري أن يكتب لي الأرقام، لأن خطه جميل، ولأنني أردت أن يكتب الأرقام شخص غيري لتكتمل فكرة الموضوع. فهذه الأرقام كُتبت لنا وحُدّدت لنا».

يغادرنا نزار يحيى إلى أمريكا الشمالية، وفي نفسه يتصارع الأمل بحياة جديدة مع الخوف من الضياع. لكن وضع نزار، من خلال ما أنتج أخيرا من مشاركات لافتة، وقوة في الأداء، وما أبداه من صلابة في الإرادة وعزم على النهوض بتجربته إلى آفاق واسعة، حريّ بأن يبدد كل قلق. شأنه في ذلك شأن رفاقه، وزملاء صباه من الموهوبين الذين صنعوا لأنفسهم أمكنة مرموقة في المنافي، وأوجدوا بجدارة جسرا موصولا بين العراق، عالمهم الأول، والمنفى عالمهم الثاني.

 

 

مي مظفّر 




أرض الطيور هي الفكرة المحورية وراء العديد من اللوحات.. ويحمل الطائر العديد من الخصائص والرموز





طيور تستعد للرحيل, فهل تأخذ آثار أقدامها معها؟!





تموجات الرمال وآثار أقدام الطيور في تداخلات فنية