نزار يحيى في أرض الطيور

سيزان وبيسارو «مستنقع الأخوات» و«جسر بونتواز»

ما الذي يعنيه القول إن الفنان «الفلاني» متأثر بإنتاج الفنان «الفلاني»؟ وإلى أي حد يجوز لفنان أن يأخذ من فنان آخر بحيث يبقى بمنأى عن الاتهام بأنه يقلِّد أو ينسخ؟ وكيف يمكن للصداقة ما بين فنانين أن تلعب دورها في نقل خبرات الواحد إلى الآخر، والحفاظ على استقلالية شخصية كل منهما في الوقت ذاته؟

في البحث عن أجوبة واضحة عن مثل هذه الأسئلة، نجد ضالتنا في مقارنة لوحتين لاثنين من أساتذة النصف الثاني من القرن التاسع عشر: «مستنقع الأخوات» للرسام بول سيزان، و«جسر بونتواز الصغير» لصديقه كامي بيسارو.

ارتبط هذان الرسَّامان بصداقة متينة جعلتهما خلال سبعينيات القرن التاسع عشر يعملان معا ويتعلم كل منهما من الآخر، وهناك صور فوتوغرافية تظهرهما معاً يرسمان في بونتواز. في البدء، أراد سيزان أن يتعلم طريقة بيسارو في مشاهدة الطبيعة. ولكن تجاربهما المشتركة أثمرت تطورات فنية أهم من ذلك.

اللوحتان اللتان نعرضهما هنا رسمتا في العام نفسه: 1875م. ويبدو الشبه كبيراً جداً بينهما، خاصة لجهة الألوان التي تبدو هي نفسها في اللوحتين من دون زيادة أو نقصان، وأيضاً في الاعتماد الكبير على السكين المفلطحة الخاصة بمزج الألوان، بدلاً من فرشاة الرسم الدقيقة.

رسم سيزان لوحته أولاً معتمداً بشكل شبه كامل على السكين، في ما خلا ضربات قليلة بالريشة. ومن المرجح أنه اعتمد هذه التقنية تأثراً بالرسام الفرنسي كوربيه الذي كان من الروَّاد في ابتكارها، وكان سيزان وبيسارو من المعجبين جداً بكوربيه. ولكن بعد هذه اللوحة، سيتخلى سيزان نهائياً عن هذه التقنية ليعود إلى الرسم بالفرشاة.

أما الغاية من رسم هذه اللوحة، فتشكِّل مفاجأة في إطار أعمال سيزان. إذ إن هذا الرسام، وعلى الرغم من أنه كان ينجز لوحاته كاملة في الهواء الطلق، فإنه كان آخر المهتمين بدراسة التلاعب الضوئي واللوني في الطبيعة الذي شغل زملاءه الانطباعيين. كما كان يجد صعوبة في تقبل الأسلوب العفوي الذي ميَّز لوحات رينوار ومونيه وصديقه بيسارو. ولكنه يبدو أنه أراد أن يجرِّب هذا المجال لمرة.

في دراسته هنا للعبة الضوء المتسلل إلى الغابة، وضع سيزان تركيباً أساسياً يقوم على جذعي شجرتين ينتصبان عمودياً، ومساحة مائية أفقية محددة بخط، توازيها مساحة من الضوء. ولكسر هذا التركيب الهندسي البارد، اعتمد رسم اخضرار الأشجار بوساطة ضربات مائلة موازية لقطر المستطيل. ولأن فلسفة هذا الفنان في التطلع إلى الطبيعة تكمن في رؤية العناصر التي يتألف منها المشهد الطبيعي كل على حدة، (وهذا ما أدى به إلى وضع أسس التكعيب لاحقاً)، فإنه عمل على تحديد كل عنصر في هذه اللوحة، وصولاً إلى الأغصان الخضراء ذات الحواف المحددة بالسكين.

أما عند بيسارو، فإن الأمور تختلف جذرياً.

كان بيسارو شديد الإعجاب بلوحات سيزان، ومن ضمنها «مستنقع الأخوات». ولكن سيزان في هذه اللوحة استخدم تقنية كان بيسارو قد طورها قبل ذلك، وتهدف إلى إظهار عمق اللوحة والأشياء البعيدة، من خلال وضع مساحات لونية بعضها فوق بعض. أي أن التأثير ذهب من بيسارو إلى سيزان وعاد إليه منه. في لوحة بيسارو نرى اعتماداً جزئياً على سكين الرسم إلى جانب حضور قوي للفرشاة. وجذوع الأشجار تبدو حقيقية وعضوية أكثر من الأنبوب الأسود الذي رسمه سيزان.

أما الأغصان فإنها تذوب ببعضها، والانتقال من الأخضر الداكن إلى الأصفر المضاء يتم تدريجياً، من دون أي انقطاع فج كما هي الحال في لوحة سيزان.

وعلى الرغم من أن تكدس الطبقات المختلفة من اللون الأخضر في لوحة بيسارو يعطي انطباعاً بالحجم والعمق، فإن الرسام لم يتردد في إضافة لمسة ضوء أصفر إلى يسار اللوحة لإضفاء مزيد من العمق على الغابة. فتراث بيسارو الذي كان قد نال شهرة كبيرة في رسم البعد الثالث، والطرق القروية الطويلة التي تتقدم البيوت والمزارع، كان لايزال يفرض نفسه على الفنان الذي لم يرَ أن إعجابه بسيزان يحتم عليه التخلي عمَّا يحبه هو أصلاً.

كل هذه الاختلافات ما بين اللوحتين تعود إلى أن نظرة بيسارو إلى الطبيعة تقول إن المشهد الطبيعي هو وحدة متكاملة وليس مجموعة عناصر. والمهم بالنسبة إليه هو رسم هذه الوحدة المتجانسة وفق الضوء الذي تستمد منه قيمتها. ولذا احتل قوس الجسر الأسود منتصف اللوحة وأحيط بأكبر تجمع للون الأصفر في هذه اللوحة، إضافة إلى أزرق السماء المنعكس على صفحة الماء.

باختصار، إننا أمام لوحتين متشابهتين جداً، ولكن هذا التشابه هو أبعد ما يكون عن تقليد الضعيف للقوي. إنها مثال واضح لما يكون عليه التأثر المبدع.

كما أن هذا التشابه الكبير يبقى أضعف من أن يطمس شخصية الرسام. فالنظرة السطحية وحدها يمكنها أن تحمل على الاعتقاد لوهلة أن هاتين اللوحتين هما لرسام واحد. ولكن القراءة المتأنية للمعالجة الجمالية لا تظهر فقط الاختلاف الكبير في المعالجة التقنية، بل أيضاً اختلافاً كبيراً في طريقة التطلع إلى الطبيعة ومفهومها عند كل من هذين الرسامين العملاقين. وهذا المفهوم هو الذي رفع بيسارو إلى مصاف كبار الانطباعيين، أما عند سيزان ففتح الباب أمام ظهور الفن التكعيبي.

 

 

عبود عطية 




كامي بيسارو (1830 - 1903م)، «الجسر الصغير في بونتواز»، 1875م، (65 × 81 سم)، ستاديشي كونستهول، مانهايم





بول سيزان، (1839 - 1906م)، «مستنقع الأخوات»، 1875م، (60 × 75 سم)، مؤسسة كورتولد، لندن