مضاد مجاني للاكتئاب

مضاد مجاني للاكتئاب

منذ حوالي 2500 سنة وصف أبو قراط الرياضة
علاجاً لمرضى الاكتئاب, وهو ما تؤكده
الدراسات الطبية الحديثة, وتزيد عليه.

التقديرات العالمية المتفائلة تقول إن واحداً من كل خمسة أشخاص من البشر لابد أن يعاني من فترة (اكتئاب) في حياته,وهذا يعني الشعور باليأس وافتقاد الأمل المصحوب بفقد الشعور بالمتعة ضمن مجموعة أخرى من الأعراض. ومن بين كل ثلاثة مصابين بالاكتئاب توجد امرأتان, أي أن ثلثي المكتئبين من الإناث. كما أن المعدل السنوي يُظهر أن المكتئبين من المراهقين والشبان الصغار يبلغ ضعف البالغين من عمر25-44 سنة, وأربع مرات من المكتئبين من عمر 65 عاماً فما فوق. ويسجل الاكتئاب المرضي انتشاراً أوسع من إصابات الشرايين التاجية ونوبات القلب, وهو ثاني سبب للموت-بعد حوادث السيارات-بين الطلاب الأمريكيين. ولقد قدرت تكاليف الاكتئاب في أمريكا في إحدى سنوات التسعينيات بأربعين بليون دولار, أي ثلث ما تكلفه فاتورة الأمراض النفسية والعقلية الأمريكية البالغة في حينه 148 بليون دولار.

الاكتئاب الكبير

ولأننا نبحث عن الأيسر لقطع الطريق على الأخطر, فإننا نتوقف قليلاً أمام الاكتئاب الأكبر الذي يمثل القطاع الأعظم من حالات الاكتئاب المشخصه إكلينيكياً لدى الأطباء النفسيين. وتبعاً لرابطة الطب النفسي الأمريكية فإن الإنسان يكون في حالة اكتئاب كبير إذ توافرات لديـه-على الأقل - خمسة أعراض من الثمانية المذكورة لاحقاً, وفي غضون الأسبوعين أنفسهما, وبما يشكل اختلافاً ملحوظاً عما كان فيه المريض من قبل, مع ملاحظة أن الأعراض الخمسة لابد أن تحتوي على واحد من العرضين الأولين. والأعراض الثمانية هي:

 

  1. مزاج مكتئب معظم اليوم, ويتواصل على مدى الأيام التالية.
  2. فقد الاهتمام بالابتهاج والأنشطة التي كانت تشغف الإنسان من قبل, معظم اليوم,وعلى مدى الأيام التالية.
  3. زيادة ملحوظة في الوزن, أو نقص ملحوظ (بينما الشخص لا يتبع (ريجيماً) معيناً), وتقدر النسبة الملحوظة بحوالي 5% من وزن الجسم شهرياً. مع زيادة أو نقص الشهية يومياً.
  4. أرق, أو نوم مفرط, يومياً.
  5. خمود حركي-نفسي, أو العكس, يومياً, وبشكل يلاحظه الآخرون.
  6. إرهاق أو نقص الطاقة بشكل يومي متواصل.
  7. شعور بعدم الجدارة أو الضعة أو الإحساس المبالغ فيه بالذنب, يوميا.
  8. تفكير مستمر في الموت, وأفكار متواترة عن الانتحار مع-أو من دون- خطة للتنفيذ, أو القيام بمحاولات الانتحار.

 

بالطبع توجد أعراض أخرى لم تأت على ذكرها لائحة الأطباء النفسيين الأمريكيين, كذرف الدموع واضطراب إيقاع النوم والاستيقاظ. لكننا أوردنا اللائحة كإشارة للتيسير على المصاب باكتئاب كبير لابد أن تكون أعراضه سبباً في حدوث عسر أو تراجع اجتماعي أو وظيفي في الدوائر المحيطة بالمصاب ابتداء من ذاته, فأسرته, فجيرانه وزملائه, وهكذا. وهذا الاكتئاب الكبير لا يتضمن بالطبع الاكتئاب المتسبب عن سوء استخدام العقاقير, أو اضطراب الغدة الدرقية. وهنا لابد من التأكيد على أن الأمراض يشخصها الأطباء بالفحص المباشر للمرضى, وما الكتابة إلا مجرد إضاءة مرشدة حتى لو كان الكاتب طبيباً متخصصا في المجال الذي يكتب فيه. وعلينا أن نذكر أن الأعراض الاكتئابية تظهر أيضا خلال الشهرين الأولين بعد فقد عزيز بالوفاة, لكنها لا تعتبر اكتئاباً كبيراً إلاّ إذا كانت مصحوبة بتراجع وظيفي ملحوظ, وتفكير في الانتحار, وأعراض ذهانية, أو خمود نفسي-حركي.

والاكتئاب يمكن أن ينتج عن أمراض عضوية, في المخ على وجه الخصوص, والسكر, وتناذر الأعصاب المتناثرة, والتهاب الكبد, والتهاب المفاصل الرثيائي. وفي الجانب النفسي ينتج عن الكوارث الشخصية والعامة, والانفصال, وتراه مدرسة التحليل النفسي كتفاعل للفقد. كما أنه يمكن أن يكون ناتجاً عن استمرار الضغوط ومعاناة التوتر المستمر مما يشكل تنبيها مفرطاً للشق الودي في الجهاز العصبي اللاإرادي ومنظومة غدد ما تحت المهاد-النخام-الكظر.

الحركة .. الحركة

وبغض النظر عن السبب والتعليل, فإن الاكتئاب يكون مصحوباً باختلال النواقل العصبية, وهي الكيماويات الطبيعية التي تؤثر في نشاط خلايا المخ المنظمة لحالة المزاج, والبهجة, والأفكار المنطقية. وما العلاج بمضادات الاكتئاب إلا محاولة لاستعادة التوازن في مستوى هذه النواقل العصبية. لكننا هنا لسنا بصدد الحديث عـن العلاج, بل يشغلنا أمر الوقاية بالطرق الطبيعية, وفي هذا الجانب تتوافر إثباتات مهمة على أن النشاط البدني يمكن أن يحمي من اختلال وظيفة خلايا المخ المسئولة عن حدوث الاكتئاب, بل ويستعيد توازن هذه الوظيفة إن اختلت. لكن النشاط البدني المقصود هنا هو النشاط البدني المنتظم, والاكتئاب المعني هو الاكتئاب بأسباب وظيـفية, غير عضوية, لأن الأسباب العضوية تتطلب علاجاً خاصاً, وإن كان النشاط البدني يمكنه أن يؤازر هذا العلاج.

معظم الدراسات التي ثمنت دور الرياضة كعلاج للاكتئاب أجريت على عينات من الشباب صغار ومتوسطي الأعمار, وأظهرت النتائج أن تراجع الأعراض الاكتئابية كان لدى الرجال كما لدى النساء. وثمة مؤشرات على أن دور الرياضة في تقليل الإصابة بالاكتئاب يمكن أن يتراجع قليلاً مع التقدم في السن, مع ملاحظة أن كبار السن تكون إصابات الاكتئاب بينهم أقل منها لدى صغار ومتوسطي العمر.

وثمه نتيجة مدهشة في دور الرياضة على الجانب الوقائي للاكتئاب, إذ بينما تفشل كثير من العقاقير في الإتيان بالنتيجة ذاتها مع اختلاف أجناس البشر وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية, فإن الرياضة تأتي بنتائج لا تعرف هذه الاختلافات. والرياضة المقصودة هي رياضة كل الناس, أي الرياضة الآمنة والمعتدلة من أجل اللياقة, لا الرياضة التنافسية.

لقد تواترت الأبحاث من أرجاء مختلفة من العالم تؤكد على أن النشاط البدني يمكن أن يلعب دوراً في الوقاية من الاكتئاب..

* في المانيا أجريت دراسة امتدت تسع سنوات على 1500 متطوع من عمر 15 سنة فما فوق ونشرها (ويرر)-عام 1992, وتبين منها أن الاضطرابات الاكتـئابية تكـثر بين من لا يمارسون الرياضة, وتقل مع ممارسي الرياضة المنتظمة.

* في كندا نشر (ستيفنس) عام 1988 نتائج دراسة شملت 22 ألف كندي من عمر 10 سنوات فأكثر, وتأكد منها أن الخاملين يعانون من أعراض المزاج السلبي أكثر ممن ينشطون في أداء الرياضة.

* في أمريكا أجرت مؤسسة الدراسات الوطنية للصحة والتغذية بحثاً شمل 70 ألف أمريكي من عمر 25 حتى 74 عاماً وتبين منها أن من يمارسون القليل جداً من الرياضة أو لا يمارسونها على الاطلاق هم أكثر المصابين بالأعراض الاكتئابية.

ولقد نشر (بافنبرجر) و(ليونج) أخيراً نتائج دراسة أجريت في جامعة (هارفارد) على 10آلاف شخص وامتدت لأكثر من إحدى عشرة سنة, تبين منها أن من ينفقون 3ساعات أو أكثر أسبوعياً في ممارسة الرياضة أثناء أوقات فراغهم يقل لديهم معدل الإصابة بالاكتئاب 17% مقارنة مع أقرانهم الأقل نشاطاً.

كم من الرياضة يكفي?

ليس استخدام الرياضة في مكافحة الاكتئاب بجديد, فالطبيب اليوناني أبوقراط الملقب بأبي الطب الحديث ومنذ قرابة 2500 عام وصف الرياضة لعلاج مرضى (الميلانخوليا) وهي تسمية للاكتئاب العميق. لقد كان (أبوقراط) بصيراً بمهنته وهو ما تؤكده معطيات الطب الحديث. وفي دراسة موسعة للمعهد الوطني الأمريكي للصحة العقلية تبين أن مرضى الاكتئاب المتوسط أحادي القطب (تمييزا له عن متلازمة الهوس والاكتئاب) أظهروا تحسنا في المزاج باستخدام المقياس الذاتي لتدرجات الوجدان بعد عدة أسابيع من ممارسة رياضة منتظمة متوسطة الشدة. كما تبين أن استمرار هذا البرنامج لعدة أشهر يسجل نتائج علاجية تماثل نتائج العلاج النفسي المكثف. وثمة دراسات أثبتت أن انخراط المرضى في برنامج رياضي منتظم على امتداد خمسة أشهر يأتي بنتائج شفاء تماثل نتائج العلاج بمضادات الاكتئاب. لكن هذا لايعني أن التمارين يمكن أن تلغي بشكل مطلق دور العقاقير والعلاج النفسي عند الضرورة العلاجية التي يحددها الأطباء.

فماذا عن الوقاية, وكمية ونوعية التمارين المطلوبة للوفاء بدور الحماية النسبية من الاكتئاب?

لقد بينت الدراسات أن الخمول يزيد من احتمالات التعرض للاكتئاب بحوالي الضعف, وهو ما يوازي احتمالات الإصابة بأمراض شرايين القلب التاجية. لكن على غير ما تقول به الأبحاث في حالات الوقاية من أمراض الشرايين التاجية, فإن القدر المطلوب من التمارين للوقاية من الاكتئاب ليس محدداً بدقة, ومن ثم فإن مستوى مرتفعاً من النشاط البدني قد يماثل القدر المعتدل من هذا النشاط في الوقاية من الاكتئاب.

في دراسة كندية موسعة ضمن البرنامج الكندي لخارطة اللياقة البدنية, تبين أن الإنسان يمكن أن يكون في حالة حماية نسبية من أخطار الاكتئاب إذا كان يحرق ما معدله كيلو سعري واحد مقابل كل كيلوجرام من وزن جسمه يومياً, وهي كمية قليلة من النشاط تعادل 20 دقيقة من رياضة المشي يومياً. ولم تسجل نتائج أفضل للحماية عند رفع مستوى حرق السعرات إلى الضعف والضعفين. ولإيضاح ذلك أعطت الدراسة مثالاً للأشخاص الذين يزن الواحد منهم 60 كيلوجراماً, فمعدل تراجع خطر الاكتئاب يظل هو نفسه سواء أحرق الواحد منهم 120 سعراً حرارياً (مايعدل المشي 1.5 ميل يومياً) أو أحرق 300 سعر حراري (مايعادل الهرولة 3 أميال يومياً)

وقد حددت دراسة جامعة (هاردفارد) الكمية المطلوبة من الرياضة للوقاية من الاكتئاب بما يعادل حرق 2500 كيلو سُعري أسبوعياً, لكن هذه النتيجة اعترض عليها المختصون في اللياقة الصحية لأن من يمكنهم تحقيق هذا الحد من بين الأمريكيين يقل عن 1 من كل 10 بالغين في أمريكا.

ومعظم الناس سجلوا تغيراً في المعدلات الذاتية لمقاومة الاكتئاب بعد الرياضة, بغض النظر عن ازدياد لياقة جهازهم القلبي التنفسي من عدمه, مما يعني أن القدر المعتدل من الرياضة يكفي لمكافحة الاكتئاب. وتختار معظم الدراسات الهرولة كنموذج للنشاط البدني المطلوب, والقليل منها اختار الدراجات أو رفع الأثقال. وتوصي الكلية الأمريكيةللطب الرياضي بالمقادير التالية من الرياضة للأشخاص المعرضين للاكتئاب بهدف الوقاية:

 

  • التمرين 3-5 مرات أسبوعياً.
  • التمرين 20-60 دقيقة في كل مرة.
  • أن يتراوح ارتفاع النبض أثناء التمرين بين 55-90% من المعدل الأقصى لضربات القلب (للأصحاء)

 

كما توصي الدراسات المبتدئين بأن يزيدوا من وقت وشدة تمارينهم تدريجياً, ليس فقط لتحاشي الأخطار الجسدية, ولكن لأن التقدم المتدرج والمطرد يرفع من الشعور بالنجاح الذاتي والقدرة على التحكم النفسي وهما عاملان شديدا الأهمية لتعزيز الثقة في الذات لدى الأشخاص المعرضين للاكتئاب والذين يتوخون حماية أنفسهم منه بالرياضة, كعامل ضمن عوامل عديدة نفسية وصحية واجتماعية, وروحية على وجه الخصوص.

طريقة ديكنز

كان (تشارلزديكـنز) الكاتب الإنجـليزي الشهير صاحب روايتي (أوليفرتويست) و(ديفيدكوبرفيـلد) الذي عاش في الفترة من 1812 إلى 1870 يمارس المشي لساعات طويلة, وبسرعة, كأسـلوب ابتـكره بنفسه للتغلب على مشاعر الحـزن الشـديد والنشـاط المفرط التي كانت تنتابه, والتي يمكن وصفها الآن بأنها كانت نوبات اكتئاب مصحوبة بالتوتر.

ولقد أظهر بحث جديد أجراه علماء ألمان أن المؤلف البريطاني كان محقاً في ممارسة هذه الرياضة للتغلب على اكتئابه, ففي جامعة برلين المفتوحة التي أجرى فيها البحث قال رئيس الباحثين الدكتور (فرناند وديميو): إن التمرينات الرياضية, كالمشي السريع, يمكن أن تكون أكثر تأثيراً في مكافحة الاكتئاب من الأدوية.

وكان الباحثون قد أجروا الدراسة على 12 شخصاً يعانون من اكتئاب حاد استمر لفترات بلغت في المتوسط تسعة أشهر, وفشلت الأدوية في تحسين 10 من هذه الحالات بطريقة ملموسة, فوضع الباحثون برنامجاً رياضياً لمجموعة المرضى هذه تتضمن المشي على جهاز المشي الرياضي لنصف ساعة يومياً, مع الانتقال من التمرينات العنيفة التي تمارس أولاً لمدة ثلاث دقائق إلى السير بنصف السرعة العادية لثلاث دقائق أخرى, ثم تكرار هذا التناوب.

جاءت نتيجة البحـث مشجـعة حتى أن أطباء جامعة برلين المفتوحة الآن, لا يجدون نصيحة يقدمـونها لمرضى الاكتئاب أفضل من رياضة المشي بسرعة-على نمط جولات تشارلز ديكنز.

وبديهي أن ما يصلح كطريقة للعلاج, يصلح أيضا كطريقة للوقاية.
فامشوا بسرعة!

الرياضة الأفضل للانبساط

تمارين التهوية (ايروبيك), وتمارين المقاومة (الدفع والجذب ضمن أي رياضة للياقة), إيهما يمكن أن يواجه الاكتئاب والتوتر الخفيف. ومعظم الدراسات استخدمت في برامجها للوقاية من الاكتئاب الجري, والسباحة, ورفع الأثقال. وكثير من الناس يمكنهم ملاحظة التحسن الفوري لمزاجهم-ابتعادا عن الاكتئاب واقترابا من الانبساط-بعد مرات من التدريب الأولي. لكن هناك من يلزمهم الاستمرار لشهور عديدة في التمرين حتى يحسوا بذلك.

 

محمد المخزنجي

 
 




ركوب الدراجة .. وسيلة أخرى للوقاية بالرياضة من الاكتئاب





المشي وحمل ثقل .. طريقتان لمقاومة الاكتئاب في وقت واحد





بهجة السباحة .. فرح ووقاية نفسية