المعرض الأول لاختراعات الشرق الأوسط بالكويت.. أمير الغندور
المعرض الأول لاختراعات الشرق الأوسط بالكويت.. أمير الغندور
ثقافة جديدة للمشاهدة وللتنمية ليست زيارة معرض للاختراعات بالشيء المألوف أو المعتاد بالنسبة إلى الشخص العادي. فذلك القدر المتاح من الفضول بداخل كل منا الذي يدفع خطواتنا لتدلف عبر أبواب معارض الكتب أو اللوحات التشكيلية أو حتى الأثاث المنزلي والسجاد، قد لا يكفي لبث الحماس لدى أغلبنا للإقدام على زيارة معرض للاختراعات. فمعرض الاختراعات يختلف عن أي معرض آخر عادي سواء كان للكتب أو للصور أو للوحات. فمعرض الاختراعات ينقلك إلى تجربة جديدة وغنية للمشاهدة. فداخل معرض الاختراعات تنتقل عيناك من اختراع طبي لتحط على اختراع ميكانيكي، وتلمح بينهما اختراعا ثالثا معماريا أو كهربائيا، وقبل أن تدرك ما يحدث تفاجأ باختراع كيميائي. وتكون النتيجة أن تتوقف قدرة الذهن العادي عن فهم واستيعاب الأشياء المعروضة حوله بالسرعة السطحية التي اعتدناها في حياتنا اليومية خلال تجاربنا المعارضية المألوفة. فسرعة الذهن في إدراك فحوى المعروضات الموجودة داخل معارض الاختراعات غالبا ما تكون أبطأ كثيرا من سرعة النظر المتفحصة وسرعة القدم المتجولة. وهذا لا يحدث في أي من المعارض الأخرى المألوفة لدينا في العالم العربي. فنحن العرب، لم نتعود بعد ثقافة معارض الاختراعات. فلمعارض الاختراعات ثقافة مشاهدة جديدة تماما علينا، تختلف بكل المقاييس عن غيرها من التجارب التي خضناها في ارتياد المعارض الفنية والثقافية التي تقام في منطقتنا العربية. إن المتابع للمعارض العربية، جلها، يستغرب من كونها تعمل على ترسيخ ثقافة مشاهدة ذات طبيعة استلابية! ربما دون وعي من القائمين عليها. فمنذ اللحظة التي يدخل فيها الزائر من باب أي من هذه المعارض وحتى لحظة خروجه منه، فإن أقصى ما قد يحدث له يتمثل في التعرض لبضع لحظات من الأحاسيس الجمالية (مثلما في المعارض الفنية) أو لبعض ساعات من الخبرات التسوقية (في معارض المنتجات) أو لدقائق من اللمعات الثقافية (مثلما في معارض الكتاب). ولكن جل هذه الأحاسيس والخبرات واللمعات يخبو وينقضي فور الخروج من المعرض، ولا يتبقى داخل النفوس سوى بعض الانتقادات لطريقة تنظيم المعرض أو لتعذر الحصول على كتاب معين أو منتج بعينه، إلى أخره من هذه المشاعر السلبية. والسر وراء ذلك يكمن في أن أغلب معارضنا العادية إما أنها تنسخ ما هو موجود في بلاد غير بلادنا وتركلنا إلى جانب المستهلكين رغما عنا ودون إرادتنا - وهو ما يحدث في أغلب معارض المنتجات - أو أنها تسعى إلى غمرنا ببعض الفيوض الجمالية - وهو ما يحدث في معارض الفن والثقافة - حيث تنتشي مشاعرنا لبضع دقائق ولكننا نستفيق في نهاية المعرض على أن الحقيقة التي نسعى وراءها وتحكم قبضتها على رقابنا ليست جمالية فحسب، بل ما الجمال منها إلا جانبها الاستلابي والأقل فاعلية. غير ذلك هو ما حدث في معرض الاختراعات بالكويت! وليس في معرض الاختراعات اختراع واحد يمكن أن نصف مظهره الخارجي بالجمال، وذلك لأن أغلب المواد التي يستخدمها المخترعون تكون عادة من صنع أيديهم ووفق إمكاناتهم المحدودة، ولذلك فهي تفتقر لصقل «الفنشنج» الذي اعتدناه كمدللين في حضارتنا الإنسانية في عصورها المتأخرة. لكن بالرغم من تدني الجمال المظهري لأغلب المخترعات، نتيجة غياب ثقافة «الفنشنج» عنها، فإن سطوة الجمال الحقيقي الذي يغزوك كزائر لمعرض الاختراعات وأنت تقف أمام أي اختراع معروض مهما بلغت درجة قبحه تفوق في قوتها السطوة الجمالية التي يشعر بها متذوق الفن المتمرس أمام لوحات رفائيل أو سيزان أو ديجاس. إن ما يحرك مشاعرك داخل معرض الاختراعات هو أكبر بكثير مما قد يحرك مشاعرك داخل مختلف المعارض الأخرى. ذلك أنك ترى المخترعات المعروضة تحل أمامك وبضربة واحدة إحدى المشكلات الحقيقية التي تواجه البشرية، من فقر وجهل ومرض، دون أي تأجيل، وبشكل يفاجئك ويدهشك ببساطته، ويعيد إليك الإيمان بقدرة الذهن البشري على التعامل مع هذه المشكلات. إن ما يحرك المشاعر في المعارض الأخرى العادية، إنما يقتصر على المداعبات والدغدغات التي تغرقنا في خضم الإحساس الزائف بأن المشكلات الحقيقية قد تم علاجها ولم تعد بحاجة إلى اهتمام منا أو من غيرنا. وأغلب المعارض العادية تعلمنا أن جل ما نستطيع أن نفعله في حياتنا هو أن نهتم بالثانويات والهامشيات، بافتراض أن الأساسيات قد اكتملت ولم تعد بحاجة إلى تفكير، ذلك أن فعل الذهاب إلى معارض عادية هو في حد ذاته جزء من ثقافة المشاهدة السلبية. على النقيض من ذلك، تتحدى معارض الاختراعات ثقافة المشاهدة السلبية التي تترسخ يوما بعد يوم لدى مرتادي المعارض العادية. فمعارض الاختراعات تعيد لنا الوعي.. ذلك الوعي الحقيقي الذي ينتمي للإنسان وحده، حين تتكشف لديه إرادة الإنجاز.. الإنجاز ليس بغرض الإبهار أو التأثير الوقتي، كما في أغلب المعارض، بل الإنجاز بغرض حل المشكلات الجوهرية في الحياة، وتحدى القوانين الكونية وتجاوزها، وليس مجرد تحدى القوانين البصرية أو السمعية بتقديم عروض لونية أو مشاهد غنائية أو المشاركة في ممارسات الثقافة الاستهلاكية. فداخل معرض الاختراعات أنت إنسان خام تصنع التاريخ أو تراه وهو يُصنع أمامك. بينما في معارض الجماليات والمنتجات، أنت مدلل معاصر، ينصرف عنك التفكير في الأساسيات، لأن غيرك يتكفل بها، وتفضل أن تركز على الاستمتاع باللحظة الحالية وهو ما يمثل استلابا حقيقيا يزيد بزيادة انخراطك في فعل المشاهدة المعارضية وانسحابك من العالم الحقيقي الواقع خارج المعرض. في معرض الاختراعات، أنت لا تصادف أبدًا النموذج المعروف في أغلب معارضنا لفنان مقتنع وحده بموهبته وعبقرية أعماله، فيدعي أنه كاندسكي العرب وأن من حقه أن يشعر بانتقاص حقه إذا ما قرأ في عينيك استنكارا للأرقام الخمسة التي يسعر بها لوحاته، فيعاقبك بأن يرفض إطلاعك على المعنى المستغلق لتلك اللوحة التي يعيد فيها اكتشاف منظوره غير المنظور. في معرض الاختراعات تتحدث الأعمال، ليس لك ولا لمخترعها، ولكن للكون وقوانينه، فتصدق أو تكذب بالتجربة العملية. في معرض الاختراعات لا يمكنك أن تلتفت إلى طريقة تنظيم معرض الاختراعات بالنقد أو التقريظ، ولا تطرأ على بالك مسألة مثل: «آه. لو طليت هذه الزاوية باللون الأحمر لكان ذلك أفضل من طلائها باللون الأزرق»، أو «لو كان قد تم توزيع بعض الوجبات والمشروبات لكان ذلك ألذ وأطيب!». فهذه المسائل الهامشية لا مجال لها البتة وسط نشاط على هذه الدرجة من الجدية والأهمية. في معرض الاختراعات، تكتشف فجأة أن لدينا كفاءات ومبتكرين لا يقلون إبداعًا عن أرشميدس وجوتنبرج وأديسون وبل جيتس، وتتمكن أخيرًا وبسهولة بالغة وبأدلة دامغة من أن تنفض عن ذهنك الفكرة الخاطئة التي غسلت أدمغتنا سنين طويلة والتي تقضي بأن الغربيين وحدهم هم العلماء وهم المخترعون وهم المفكرون، بينما نقتات نحن من فتات موائدهم العلمية والتكنولوجية. بسبب كل ما سبق، وحتى نتفلت من أسر ثقافة المشاهدة الاستلابية التي رسختها المعارض العادية في العالم العربي، كان لابد للعالم العربي من أن يستفيق ويدشن لنفسه معرضًا للاختراعات، لنمارس داخله للمرة الأولى التدرب على ثقافة المشاهدة الجديدة المستفيقة التي رسختها معارض الاختراعات في أرجاء العالم المتقدم، وتم حرماننا منها في عالمنا العربي. وهذا هو بالضبط ما حدث يوم 23 أكتوبر عام 2007، حين أقيم أول معرض للاختراعات في الشرق الأوسط على أرض الكويت، واستمر حتى يوم 26 أكتوبر، أمام مقر النادي العلمي الكويتي الواقع في منطقة هادئة تدعى الزهراء، داخل خيمة بيضاء مستطيلة هائلة الحجم، بلغت مساحتها 2000 متر مربع، يؤدي إليها ممر طويل زينت ضفتاه عمدًا بمساحات واسعة من الحشائش الخضراء الرقيقة، والتي أضفت على الأرضية قدرا من الإغواء يظل يتبع خطوات الزائرين والمرتادين فيمتص صخبها ويمنحها من الهدوء ما يمكنها من الاستمرار بسلاسة في المسير وكأنما الأمر نزهة خلوية حتى تأتي إلى باب المعرض. أما بعد باب المعرض، فتلك قصة أخرى. داخل المعرض عند مدخل خيمة المعرض، وضعت مكاتب المؤسسات والهيئات المختصة بالاختراعات، مثل الوايبو WIPO والهيئة المنظمة لمعرض جينيف الدولي للاختراعات ومكتب براءات الاختراع لدول مجلس التعاون ومكتب لوزارة التجارة والهيئة العامة للصناعة والمكتب الأمريكي لبراءات الاختراع USPTO. وفي منتصف خيمة المعرض، تم تخصيص مكان متسع للجلوس واستخدام الحواسيب الآلية للطباعة والاتصال عبر الإنترنت وما شابه من الأعمال الإلكترونية. بينما في الطرف الآخر من الخيمة تم تخصيص مكان آخر لتناول المشروبات والأطعمة الخفيفة بحيث يتسع لجلسات التعارف والنقاش والتفاوض المتوقعة بين رجال الأعمال والمخترعين. وفي الزاوية المقابلة تم تخصيص مكان لإلقاء المحاضرات في موضوعات ذات أهمية للمخترعين. اصطف المخترعون خلف مخترعاتهم في مستطيلين يسير أولهما مع أضلاع المستطيل الداخلي المكون لجسم الخيمة، أما المستطيل الثاني فجاء أصغر حجما ليقع داخل المستطيل الأول، وهكذا تحرك مرتادو المعرض داخل الممرات المتاحة بين المستطيلين بطول الخيمة، فشاهدوا الاختراعات وتحدثوا إلى المخترعين المتراصين على اليسار وعلى اليمين. وقد مثلت تلك تجربة رائعة. فأنت لا تتاح لك فرصة أن تتحدث إلى مخترع بشكل يومي بل ولا حتى سنوي، أما الآن وبعد تدشين معرض الكويت، فقد أصبح بمقدورك أن تحظى بهذه اللحظات للتواصل مع المخترعين. وقد خصصت أماكن العرض وفقا للدولة، بحيث يتجمع المخترعون من كل دولة في مكان واحد، مما يسهل التواصل في ما بينهم. وتخلل المعرض ورش عمل عدة تناولت تعريف الاختراعات وكيف تبدأ، وكيفية تقييم أفكار الاختراعات، وما الاختراع الذي ينجح، وما طريقة تسجيل براءات الاختراع، وطرق تسويق الاختراعات. وبذلك مثلت فائدة كبيرة للمخترعين بالمعرض، لدرجة أن أغلبهم فضل البقاء داخل المعرض بالرغم من حلول توقيتات الراحة خلال فترات الظهر لمتابعة المحاضرات. مقتطفات من المخترعات قال مدير النادي العلمي، المهندس إياد الخرافي، عن المعرض: «نهدف من خلال هذا المعرض إلى التقريب بين المخترعين والمستثمرين، لأن كثيرا من المستثمرين لا يثقون بالاختراعات التي تتم في منطقتنا ونحن نسعى إلى تغيير هذا. كما نهدف من وراء إقامة المعرض إلى إشراك عدد من أفضل المخترعين في العالم بهدف توفير الاجواء المناسبة للمخترعين والمستثمرين للتعارف في ما بينهم سواء أكانوا عربا أم اجانب، مما يؤدي إلى وضع الكويت على خارطة التقدم العلمي والتكنولوجي». شارك في المعرض أكثر من 160 مخترعا، وعرضوا أكثر من 500 اختراع، من 20 دولة هي السعودية والامارات والبحرين وقطر وعمان ومصر وسورية وتونس والسودان وإيران وأمريكا وألمانيا وسويسرا والاردن ولبنان والمغرب وليبيا والجزائر واليمن والعراق. وتميزت أغلب الاختراعات بالطرافة، فهناك اختراع لحذاء بعجلات تحركها بطارية تعلق على الظهر، وخوذة ذات أكياس هوائية تفتح أثناء الحوادث لحماية الرأس، وخوذة أمان للرأس شفافة بالكامل، وخوذة أمان بها مرآة تسمح لصاحبها برؤية حركة السير خلفه، وحذاء وقفازات عازلة لرجال الإطفاء تعطي إشارات عند ملامسة الكهرباء، وجهاز يعلق على السيارات أثناء سيرها لاستغلال حركة الرياح في توليد طاقة وتوفير الوقود، وطريقة لإضافة مسحوق الصدفات البحرية إلى الأسمنت لمنع تشققه، وجهاز بأرقام سرية لإغلاق مفاتيح الكهرباء بالبيوت لمنع الأطفال من استخدامها، ودائرة كهربائية لمنع توقف المصعد لدى الأدوار المطلوبة من مستخدمين خارجيين في حالة زيادة الحمولة عند حد معين، وجهاز لكتابة شفرة خاصة على أوراق الامتحانات لإخفاء هوية الطلبة عن المصححين، جهاز بسيط لمنع الشخير، وممحاة تعمل بالكهرباء لمسح وشفط الغبار عن السبورة، ودولاب لتجفيف فضلات الطعام، واختراعات لعزل جدران المباني حراريًا، وكمادة لتخفيف الآلام تعمل بالطاقة الشمسية لتوليد البرودة أو السخونة، وسترة هوائية واقية لراكبي الدراجات البخارية، نظام للإضاءة الخلفية للسيارة يتميز بقدرته على كشف قوة ضغط السائق على الفرامل, مما يوفر معلومات دقيقة للسيارات التي تسير في الخلف عن نية السائق الموجود بالسيارة الأمامية من ضغطه على الفرامل، اختراع «المفاعل الكيموكهربائي» الذي يعمل على تحويل المواد العضوية الموجودة في مياه الصرف الصحي إلى طاقة كهربائية بحيث يستفاد منها في إنتاج الكهرباء، وعجلات تستجيب للمطبات الأرضية، وذلك بعد تركيب يايات داخل العجلات نفسها، بحيث صار من الممكن استخدامها في كراسي المقعدين وأيضا في الدراجات الهوائية العادية، وجهاز انذار صوتي يوضع في حفاضات الأطفال ويطلق الإنذار عند حدوث البلل بحيث يشير للأم إلى أن الطفل بحاجة إلى تغيير حفاضته بمجرد حدوث البلل، والحقيبة الموزونة وهي حقيبة تقيس وزنها من خلال جهاز بأسفل الحقيبة يقيس وزنها، وبذلك يتمكن صاحب الحقيبة من معرفة وزنها قبل السفر والذهاب إلى المطار، والحذاء الذكي الذي يساعد الكفيف على السير دون حاجة لمرافق أو لاستخدام العصا، حيث تقوم فكرته على تنبيه المكفوفين إذا ما رصد الحذاء أي عائق أمامهم أثناء سيرهم يكون أعلى من مستوى سطح الأرض، واختراع إشارة مرورية إلكترونية تستخدم في الاشارات الضوئية لتنبيه سائقي السيارات بتوقيت تحول إشارة المرور من اللون الأخضر إلى الأصفر إلى الأحمر وذلك بإظهار عد تنازلي يبدأ من 7 إلى صفر الثانية. يتبنى المخترعون وجهات للنظر أكثر تقدمية وعلمية، فالمخترع الكويتي عبدالله العيدان اخترع جهازا لتصحيح موجات ونظرية عمل موجات FM، وعنه يقول: «بدأت فكرة الاختراع عندي منذ عام 1972 حين لاحظت أن ظاهرة الموجات الجانبية في أجهزة الـ FM تزيد وتقل حسب قوة الموجة المرسلة. وأخبرني أغلب المتخصصين أن هذه ظاهرة طبيعية لا يمكن التخلص منها. ولكني بدأت بدراسة الظاهرة واشتريت الكتب وبدأت التجارب العملية. وقمت بتصنيع وتشغيل أول جهاز لضغط موجات المجال المغناطيسي بحيث يتم التخلص من التشويش المصاحب بكفاءة عالية جدا». ذهنية المخترعين الأجواء داخل معرض الكويت للاختراعات بالغة الحماس والتفاؤل، ففي كل مكان تجد مجموعة من الشباب الكويتي التابعين للمركز العلمي يقدمون خدماتهم الإرشادية والتنظيمية للزوار والمخترعين، وهو ما أضفى على المعرض روحا شبابية لافتة يندر أن تجدها في مكان آخر. فمن المثير للدهشة والتقدير أن أغلب منتسبي النادي العلمي الكويتي هم من الشباب، بل إن كادر القيادات الأكبر سنا في النادي العلمي كانوا أكثر شبابية وديناميكية في نشاطهم وتحركاتهم السريعة ممسكين بأجهزة اللاسلكي التي ضبطوها بأنفسهم ليتواصلوا بعضهم مع بعض لتنسيق الأمور. وهذه ظاهرة تستحق لفت الأنظار إليها، فهي تعود إلى طبيعة خاصة تميز المخترعين عن غيرهم من الأشخاص العاديين. فمن الملاحظ أن جل المخترعين يبدأون الاختراع في مرحلة مبكرة من حياتهم. وهذا يعني أن ممارسة الاختراع تأتي للشخص فور أن يبدأ في تعلم قوانين الكون مع مرحلة النضج والمراهقة، عقب الطفولة. فبينما ينقسم أغلب الناس عند مرحلة المراهقة إلى فئتين، أغلبية عظمى تمثل الفئة الأولى وهي التي تستسلم لقوانين الكون وتظن أنه يتعين عليها أن تطيعها وتخضع لها، فتصير تقليدية دون تجديد، وفئة ثانية تمثلها قلة من المراهقين تتمرد على قوانين الكون وترفض الخنوع لها وتسعى إلى كسرها فتصير فوضوية الهاجس وغير متوافقة مع الواقع؛ فإن فئة المخترعين تمثل فئة ثالثة مستقلة بذاتها، وهي تختار لنفسها مسارا ثالثًا، يتلخص في الاستفادة من قوانين الكون بإعادة صياغتها والرقص معها، وعزف الألحان الجديدة عليها. وفي هذا السياق عليك أن تتخيل حجم التباين بين طفلين، الأول علمه أبواه أن يخاف من الكهرباء وثقوبها الموجودة في الحائط، فآثر أن يبتعد عنها وكأنها عفريت من الجن؛ أما الثاني فقد تعلم أن الكهرباء هي إحدى قوى الطبيعة التي يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها والتعامل معها. وهكذا يتلبس الطفل الأول ثقافة غيبية تسيطر على ذهنه طوال حياته فيأخذ قوانين الكون كمسلمات عليه أن يخضع لها، دون أن يجرؤ على التفكير في مساءلتها وفهمها. بينما ينفتح أمام الطفل الثاني عالم مختلف يقوم على التساؤل والفهم والرغبة في التغيير والتطوير وبالتالي الاختراع. يمثل الطفل الأول أغلب البشر الذين يعيشون بين ظهرانينا، بينما يمثل الطفل الثاني هذه القلة من المخترعين الذين نصادف أمثالهم لأيام قليلة في معارض الاختراع. وهذه القلة من المخترعين هي بحق التي تصنع التاريخ وتغيره. بينما يكتفي أغلبنا من غير المخترعين بالعيش فيه. فالمخترع هو شخص يقدم أو يطور فكرة أو طريقة أو آلية جديدة تحل مشكلة قائمة بما يؤدي إلى إنجاز أفضل وفاعلية أكبر. ويمتلئ العالم بالمشكلات التي نظن أن دورنا في الحياة إنما يقتصر على مجرد الاعتراف بها وقبولها على حالها وعدم التفكير في حلول لها، وكأن لدينا أشياء أخرى أكثر أهمية تشغل بالنا. لكن هذا ليس هو حال المخترع! فالمخترع ينظر للمشكلة ويبحث عن طريقة لتوفير حل لها ويشغل باله ووقته بإيجاد هذا الحل. بينما يكتفي أغلبنا بالتعايش مع المشكلة. فمن بين آلاف البشر الذين كانوا يمشون عشرات ومئات الأميال للوصول إلى الضفة الأخرى من أحد الأنهار، ينشغل شخص واحد بالبحث عن فكرة جديدة ويجدها في اختراع طوف ثم سفينة ثم جسر. ومن بين آلاف الأشخاص الذين يعتمدون على المطر لري أراضيهم الزراعية، ينشغل شخص ما بالبحث عن فكرة لتخزين المياة بغرض توفيرها أثناء شهور الجفاف. وهكذا تؤدي الاختراعات إلى تغيير التاريخ بل وإلى صناعته. ومن القصص التي تدلل على اختلاف ذهنية المخترعين عن الناس العاديين قصة اختراع جهاز أمان المصاعد. فقد كانت حوادث المصاعد (الأسانسيرات) في القرن التاسع عشر تمثل مادة خصبة لقصص الرعب بحيث نفرت الناس من استخدامها واعتبر ركوبها بمنزلة محاولة انتحار. ولكن إليشا أوتيس Elisha Otis (1811 - 1861م)، الأمريكي، لم يفكر كالآخرين، بل اخترع نظاما للأمان يتم تركيبه في المصاعد بحيث يعمل في حال انقطاع السلك الحامل للمصعد. وقد بهر من شاهدوا تجربة اختراعه حين ركب المصعد بنفسه وطلب إلى العمال قطع السلك الوحيد الذي يحمل المصعد، وبعد انقطاع السلك هبط المصعد عدة سنتيمترات فحبس الناس أنفاسهم ولكنه توقف عن الهبوط بفضل الاختراع. وبذلك بنى أوتيس ثقة الناس في المصاعد. فلولا اختراعه ما تم بناء أي مبنى يزيد ارتفاعه على خمسة أدوار، ولولا اختراعه ما تم بناء أي ناطحة سحاب في العالم. ويمكنك أن تتصور حجم الأزمة السكنية التي كانت ستواجه العالم لولا اختراع أوتيس. فالمخترع هو شخص لا يرضى بأن يتعامل مع المشكلات من المنظور الغيبي الذي يتبناه أغلب البشر. بل يتبنى المخترع نظرة جديدة تتحول فيها المشكلة إلى فرصة للتفكير والتطوير وإيجاد الحلول. وبذلك فإن نظرة المخترع للأمور هي نظرة أكثر من عقلانية، فهو يخرج على إطار النظرة التقليدية الساكنة، ولكنه في الوقت ذاته لا يقع في النظرة المتمردة المتهورة والسلبية. بل يتبنى نظرة إيجابية تبحث عن حل. وهنا يكمن تميز المخترعين وعظمتهم. فبينما يدشن هاملت شكسبير تمرده بأن يصرخ: أن أكون أو لا أكون.. تلك هي المسألة! ويستجمع قواه ليقدم على القتل، فإن لسان حال المخترع يقول: أن أكون مخترعًا أو أكون شخصا عاديا.. تلك هي المسألة! ويستجمع قواه ليبدع ويقدم الحل. هكذا يتبنى المخترع وجهة نظر وسطية بين التقليد والتمرد. وهي وجهة النظر التي غيرت مسار التاريخ البشري نحو الأفضل دوما. لوحظ في معرض الاختراعات بالكويت أن أغلب المخترعين كانوا من الشباب أو من كبار السن. ذلك أن قلة من المخترعين هم من يبدأون ممارسة الاختراع وهم منتصف العمر (في منتصف عقد الثلاثينيات وخلال عقد الأربعينيات من العمر). فمن المعروف مثلا أن كلا من توماس أديسون ونيكولا تسلا قد بدآ ممارسة الاختراع في مرحلة الصبا وقبل أن يحصلا على أول براءة اختراع لهما وهما بعد دون سن الثلاثين عاما. وقد يكون تفسير ذلك أن أكثر الناس قدرة على تحدى قوانين الكون والعلم هم فئة الخارجين من مرحلة الطفولة وفئة المقاربين إلى مرحلة الشيخوخة. بينما يحترف أفراد الفئة الثالثة التي تشمل من يقعون في منتصف العمر مهن الإدارة والتنظيم والتنسيق. وكأنما الأمر من المخترع الراغب في تحدي قوانين الكون والابتكار من خلالها، ألا يكون قد انخرط بعد في دراسة العلم بالطريقة النظامية التي تقدمها المدارس العادية، وبذلك تنفتح أمامه آفاق التفكير غير المكبل بالقوانين. أو أن يكون قد انخرط لفترة طويلة جدا في مختلف المراحل التعليمية لدرجة أنه أصبح يدرك نقصانها ويعمل على إكمالها. والتاريخ يمتلئ بالمخترعين العظام الذين طردوا من مدارسهم النظامية والذين لم يتوافقوا مع النظم التعليمية التي أنشأها غير المخترعين. تكوين المخترعين السن المناسبة لتكوين المخترعين هي مرحلة الصبا. فإن أفلت الشخص في مرحلة من الوقوع في حب الاختراع، فهو في الأغلب لن يقع في هذا الحب بعد ذلك خلال مراحل حياته التالية. لذا فمن الضروري تعريض جميع من هم في مرحلة الصبا للاختراعات وتشجيع ثقافة الاختراع والابتكار لديهم. وقد كتب الكثير حول درجة إلحاح حاجتنا إلى تنمية ثقافة الاختراع والابتكار في مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية، بدلا من ثقافة التلقين والتكرار. لكن دعونا نعترف بأن أحد معوقات إجراء هذا التحول داخل مدارسنا يكمن في الحقيقة السافرة بأن تعليم التلقين والتكرار أسهل بكثير على مدرسينا ومؤسساتنا من تعليم الاختراع والابتكار. ففي نمط التلقين والتكرار يكون كل شيء محددا وواضحا، سواء في تقدير المدخلات أو تنظيم طريقة الأداء أو قياس المخرجات. بينما ليس من السهل إدارة المدخلات والأداء والمخرجات إذا ما تبنت العملية التعليمية نمط الاختراع والابتكار. فمما لا شك فيه أن الاختراع والابتكار يتطلبان جهدا أكبر وأشق على المؤسسات من التلقين والتكرار. فضلا عن أننا في مدارسنا لم نر بعد نتائج الاختراع والابتكار، فجل خبرتنا ينحصر في التلقين والتكرار. لذا فالتحول إلى الاختراع والابتكار يعتبر بالنسبة إلى نظمنا التعليمية أشبه بقفزة في الظلام. من هنا تبرز أهمية الفرصة التي أتيحت للكويت من خلال إقامة معرض الكويت الدولي للاختراعات. فقد قامت بعض المدارس الكويتية بتنظيم رحلات للتلاميذ لزيارة المعرض والتواصل مع المخترعين، فكنت تجد تلاميذ المدارس الصغار يتحلقون حول أحد الاختراعات ويستمعون إلى شرح المخترع. ومن المؤكد أن بعض التلاميذ الذين اتيحت لهم الفرصة لزيارة معرض الاختراعات في الكويت سيكتسبون ويتشربون ثقافة الاختراع بحيث يمكن أن يظهر بينهم مخترعين في السنوات القليلة القادمة. ومن هنا تستطيع أن ترى كيف يمكن أن يتأثر المجتمع الكويتي بكامله نتيجة لإقامة معرض للاختراعات وتشجيع تلاميذ المدارس على زيارته. فإن لم نكن قادرين على تطوير برامجنا التعليمية لتصبح أكثر ابتكارية، فإن أقل ما يمكن فعله هو أن نسمح لتلاميذنا بالتعرض والاطلاع والاتصال بالمخترعين ولو لدقائق قصيرة. ومن المؤكد أنه سيكون لهذه التجربة البسيطة أبعاد عظيمة على مستقبل التلاميذ. وتستحق المدارس التي وفرت لتلاميذها هذه الفرصة النادرة الإشادة والتقدير، ولا نملك إلا أن نلفت أنظار المدارس التي فوتت على تلاميذها فرصة مماثلة إلى فداحة الخسارة التي افتقدوها، علهم يحرصون عليها في العام المقبل. دورة حياة المخترعات على عكس ما يعتقد كثيرون، لم يمت عباس بن فرناس نتيجة لمحاولته الطيران أو الانزلاق الهوائي باستخدام الأجنحة التي صنعها من ريش الطيور، بل هبط بأمان ولم يصب إلا بخدوش بسيطة، وعاش 77 عاما من سنة 810 إلى 887 ميلادية. وبعد مرور ثلاثة قرون على وفاة عباس بن فرناس، انتقل اختراع الباراشوت إلى الصين حيث تم إدخال عديد من التطويرات عليه حيث أزيحت الأجنحة الصناعية التي استخدمها بن فرناس إلى أعلى وتم ربطها بالجسم باستخدام الحبال. وبعد ثلاثة قرون أخرى، انتقل اختراع الباراشوت إلى ليوناردو دافنشي في إيطاليا عام 1500 م، والذي أضاف إليه عدة تطويرات نظرية مهمة. ومنه انتقل اختراع الباراشوت إلى فاوست فرانسك Faust Vrancic (1551-1617)، في كرواتيا، الذي قام بأول تجربة ناجحة للباراشوت عام 1617 في كرواتيا. ثم بعد ثلاثة قرون أخرى انتقل الاختراع إلى جليب كوتلنيكوف، Gleb Kotelnikov (1872-1944)، الروسي الجنسية، الذي طور الباراشوت ليصبح محمولا على الظهر، ويفتح بعد القفز. وهكذا تنتقل الاختراعات بين البيئات الثقافية المختلفة لتكتسب مزيدا من التطور مع كل مرحلة. من استعراض تاريخ الاختراعات، يمكن ملاحظة أن الاختراع الذي يتم التوصل إليه داخل منطقة محددة من العالم ويظل محصورا داخل المنطقة التي تم اكتشافه فيها لا يتعرض لكثير من التطويرات. بل قد يكون مصيره هو النسيان والزوال. أما الاختراع الذي ينتقل إلى مناطق أخرى من العالم، فإنه غالبا ما يتعرض لتطويرات جديدة يكتسبها بفعل البيئة الجديدة التي وصل إليها. وبهذه الطريقة يتجاوز الاختراع الإطار الذي وضع داخله في مسقط رأسه، بحيث يتمكن من الوفاء باحتياجات أوسع للبشر، وتكون النتيجة أن يعم العالم أجمع ويصبح أكثر فاعلية وملاءمة للعالم بمختلف مناطقه. ومن هنا يمكنك أن تستنتج أن أغلب الاختراعات التي بقيت في تاريخ البشرية، بل وكان مصيرها هو المزيد من التطوير والاستمرار وليس النسيان والإهمال، كانت هي الاختراعات التي تم التوصل إليها في مكان ما من العالم، ثم تم نقلها إلى أماكن آخرى من العالم، بحيث تعرضت للتطوير والتعديل. ولهذا السبب يجب الاهتمام بنقل الاختراعات بين مختلف أنحاء العالم بحيث لا تظل الاختراعات حبيسة مساقط رأسها وأماكن نشأتها فتذوي وتضيع ولا تتاح لها الفرصة للتطوير والاستمرار. وتلك هي بالضبط الوظيفة التي تقوم بها معارض الاختراعات الدولية. فالمعارض الدولية تعمل على نقل الاختراعات من مساقط رأسها إلى أماكن جديدة، خلال فترة قصيرة من تطويرها. وهذا يؤدي حتما إلى تسريع وتيرة تطور الاختراعات المعروضة خارج مساقط رأسها وهو ما يؤدي بالتالي إلى أن تصبح الاختراعات أكثر فاعلية وكفاءة خلال فترة قصيرة من الزمن. فلم يعد من الضروري أن ينتظر الاختراع بضعة قرون حتى ينتقل من حضارة إلى أخرى، ومن زمان إلى آخر، حتى يتم تطويره وإعادة اختراعه. فالعولمة المعاصرة تصر على أن تعلمنا درسا مهما يجب ألا نغفله وهو أن: الاختصارات التي يمكن أن نجريها بالانتقال عبر المكان قد تؤدي إلى اختصارات أهم في الانتقال عبر الزمان. فقد أدت اختصارات المكان وسرعة الوصول إلى أي مكان في العالم باستخدام التكنولوجيا المعاصرة، إلى تقليص الفترات الزمنية التي كان من اللازم سابقا انتظارها لإجراء عمليات التطوير والتغيير والتنمية. ولطالما كانت حجتنا العربية التقليدية لإجراء التطوير والتغيير والتنمية هي أننا بحاجة إلى فترة أكبر من الزمن. ولكن في عصرنا الحالي، لم تعد هذه الحجة قادرة على إقناع أحد. فلنختصر المكان دون أن ننتظر من الزمان أن يعود كما كان! إعادة كتابة تاريخ الاختراع إن المنصف لتاريخ العلم والعارف بتاريخ الحضارات، يلحظ أن التأخر العلمي الحالي الذي تعاني منه الحضارات الشرقية، لا يعبر عن عجز أو نقص لديها، بقدر ما يعبر عن نوع من الملل من العلم ومن الإنجاز. وكأننا بهذه الحضارات القديمة تدخل في مرحلة اليأس، بعد أن قدمت الكثير والكثير للبشرية، وتدخل طوعا في مرحلة من السكون الاختياري أو البيات الشتوي. فكأننا بها قد اختارت لنفسها ألا تنجز جديدا أو تقدم شيئا مفيدا. فالمسألة في حضارتنا ليست أبدا مسألة عجز، بل هي مسألة غياب لإرادة القوة. وإذا صغنا المسألة على هذا النحو، فإن الحل الحقيقي الذي تبحث عنه حضاراتنا الشرقية للنهوض مرة أخرى، لن يتمثل في مجرد تبني الطريقة الغربية في الحياة. ولكن قد يتمثل الحل المراد في البحث عن صيغة سيكولوجية جديدة للقيادة والإدارة، تهدف إلى إستعادة الثقة بالذات وتحفيز الرغبة على الإنجاز. ويمكننا أن نعتبر معرض الكويت للاختراعات خطوة على هذا المسار السليم. إن نظرة عجلى على قائمة المخترعات التي قدمها العرب والمسلمون للعالم تقنعنا بجوهريتها وأهميتها، فمن الاختراعات العربية: أول محرك بخاري، أول عمود كرنك، أول روبوت آلي، القهوة، تنقية المياه بطريقة البخر والتكثيف بحيث تصبح صالحة للشرب، تقطير الكحول واستخلاصه كمطهر، المشروبات الغازية والشربات، اللؤلؤ الصناعي، مصباح الكيروسين، النفط كطاقة، الإيثانول والأمونيا والزئبق، صناعة الزجاج من الرمال، الصابون، الشامبو، العطور وبخاصة المسك، سدود الأنهار، أغلب أنواع الساعات من بداياتها حتى ساعات البندول، طواحين الهواء، السكر، توربينات الماء، مراهم الجلد، الحقنة الطبية، كبسولات البارود والقنابل، المدافع، البنادق، الملابس المضادة للحرائق، الطوربيد، الصورايخ، أقلام الحبر بالخرطوش. لكن قليلين جدا هم من يعلمون هذه الحقائق، لأنها تغيب عن التيارات الرئيسة في الكتابات عن الاختراعات والعلوم. إن تدشين معرض الكويت للمخترعين بالشرق الأوسط يعتبر محاولة صحيحة ومطلوبة لإعادة كتابة تاريخ الاختراع والعلم في المنطقة العربية والشرق أوسطية. فأنت إن كنت متابعًا لأغلب ما يكتب ويصنف في مختلف الكتب عن تاريخ العلم والاختراعات، فستلاحظ أن أغلب تاريخ الاختراعات يكتب بالتركيز على الشخصيات، وليس على الاختراعات نفسها، مما يجعل هذا التاريخ أشبه بتاريخ للأشخاص، وليس بتاريخ للأفكار والابتكار. فالكثيرون يعلمون أن ليوناردو دافنشي كان عبقريا، ولكن القليلين فقط هم من يعلمون ماذا اخترع دافنشي. مصائد التحيز تفاجأ بوجود تقديس مبالغ فيه لدور المخترعين المنتمين للغرب، على حساب تقليل متعمد لدور المخترعين المنتمين إلى مناطق وثقافات أخرى، وكأن الهدف هو التركيز على الأشخاص والمناطق حتى ولو على حساب الأفكار. ويقوم بذلك للأسف كثير من مؤرخي الاختراعات. وبما إن من يحتكر العلم وتاريخه وتأريخه حاليا هو الغرب، فإنه يقوم بتمجيد دور الأشخاص الغربيين فيه مع بخس دور غير الغربيين. ولا تقتصر هذه الممارسات التقديسية و«التبخيسية» على الغرب وحده، فأغلب مؤرخي الاختراعات يقعون ضحايا مصيدتين شرستين تنصبهما اللحظة الحضارية الراهنة: 1- مصيدة التحيز للحضارة المستقوية على حساب الحضارات المستضعفة. 2- مصيدة التحيز لثقافة الكتابة الحديثة والمعاصرة على حساب ثقافة المشافهة القديمة والغابرة. فوفق مصيدة التحيز الأولى (للحضارة المستقوية على حساب الحضارات المستضعفة)، فإن المؤرخين إن وجدوا أن فكرة أختراع مهم قد نشأت وبرزت في حضارة غير الحضارة المستقوية - أي مثلا لدى الحضارة العربية الإسلامية - فإنهم سرعان ما يسعون بشكل حثيث إلى تتبع بذور أصولها في الحضارات السابقة حتى يثبتوا جزافيا أن جذور هذه الفكرة كانت موجودة بالفعل لدى الحضارات الأسبق تاريخيا على الحضارة العربية الإسلامية. ووفق مصيدة التحيز الثانية (لثقافة الكتابة الحديثة والمعاصرة على حساب ثقافة المشافهة القديمة والغابرة)، فإذا كانت فكرة الاختراع قد برزت لدى حضارات أقدم من الحضارة العربية الإسلامية، مثل الحضارة الفرعونية أو الصينية أو الهندية، بحيث لا يصلح بخس هذه الحضارات حقها بنقل أصل الاختراع إلى الحضارة الإغريقية، لكونها أحدث تاريخيا من هذه الحضارات القديمة، فإن الحل التحيزي لهذه الإشكالية يتمثل في طمس أصل الاختراع، وذلك من خلال عدم الاتيان على ذكر حقيقة أنه نشأ في بيئة غير غربية، مع تسليط الأضواء على التطويرات والتفريعات التي أجريت على الاختراع في الغرب، وتضخيم هذه التطويرات والتفريعات وكأنها خلق من عدم. وذلك من خلال الادعاء مثلا بأن أول من أشار إلى هذا الاختراع كان هو أرسطو أو ليوناردو دافنشي أو روجر بيكون. بينما يكون المقصود بالإشارة إلى الاختراع أنه تم تسجيله وتدوينه كتابة، وهو ما يعني إزاحة ومسح إنجازات كل الحضارات غير الكتابية والتي كان العلم والمهارات فيها ينتقلان عن طريق التواصل الشفاهي المباشر بين المعلم والمتعلم. وهذا ما نسميه التحيز للكتابة، بمعنى إعادة كتابة تاريخ الأفكار مع إهمال ومسح الإنجازات التي قدمتها الحضارات التي لم تركز على الكتابة، بل اعتمدت المشافهة بدلا من المكاتبة، وهي الحضارات القديمة جلها، من أشورية وهندية وصينية. وفي هذا ظلم شديد لهذه الحضارات. إن أغلب المؤرخين يقعون بين أسنان مصيدتي التحيز دون قصد أو وعي منهم. فهاتان المصيدتان تحكمان أسنانهما على لاوعي كثير من المؤرخين المتخصصين في كتابة تاريخ الاختراع. وتكمن خطورتهما في أنهما ترسخان للفكرة الخاطئة التي مفادها أنه لا فضل لأي حضارة غير غربية على تطوير ونشوء الاختراعات التي تعرفها البشرية حاليا. وبهذا يرسخون للاستنتاج الزائف الذي يقضي بأن كل ما نراه حولنا هو من صنع الغرب أصلا وتطويرا وتعميما. وأن المخترعات الغربية هي محطة الوصول النهائية لكل المخترعات السابقة عليها تاريخيا والتي لم تزد على أنها مجرد نقاط بائدة على الخط المستقيم الواصل من الإنسان البدائي الهمجي إلى الإنسان العصري المخترع والمتحضر. وبهذا تتم إزاحة بؤرة التاريخ ويصبح مركز ثقله الحضاري هو الغرب وحده، فيظن الجميع أن كل ما يخترع الغرب هو الاختراع الحقيقي، وأن كل ما يخترع في الشرق والجنوب ما هو إلا تقليد أو تشويه أو مسخ للاختراع أو مجرد خطأ ما كان ينبغي السماح به من البداية. وهكذا يسحب بساط المصداقية العلمية من تحت أقدام المخترعين في الشرق والجنوب حتى قبل أن يحاولوا، ويتم إجهاض ووأد اختراعاتهم في مهودها بدلا من أن يتم تمويلها. بينما في ذات الوقت يتم إسباغ مصداقية قبلية على المخترعين الغربيين، منذ لحظة ميلادهم، وقبل أن يتجشموا عناء اختراع أي شيء. فيظن أن كل طفل غربي هو بالتعريف مخترع عبقري، وأن كل مخترع شرقي أو جنوبي هو بالتعريف مجرد مدع. ومن هذا المنطلق فإن الأيام الأربعة التي عشناها في معرض الاختراعات بالكويت قد مثلت لنا بكل المقاييس أربع ضربات قاسمة وحاسمة لأسنان المصيدتين اللتين كبلتا أقدام المخترعين في الشرق الأوسط طوال القرون الماضية. فهذا المعرض بحق هو بداية لمسار إيجابي جديد طال انتظاره لإعادة الاعتبار للمخترعين العرب والشرق أوسطيين، بعد تاريخ طويل من الغبن والظلم غير المبررين. ماذا بعد؟ إن معرض الكويت لاختراعات الشرق الأوسط هو خطوة حاسمة على الطريق الصحيح، وينعقد الأمل على مبادرة الدول العربية الأخرى إلى نسخ هذه التجربة الناجحة، حتى نتمكن من تخطى التخلف المعرفي والمعلوماتي الذي نعاني منه. فالاختراع يعتبر من أهم المؤشرات على قوة الدول، ويتعين علينا الاهتمام به لننهض من الجيتو المعلوماتي والمعرفي المفروض علينا، فالعالم جله بدأ يتجاوزنا بينما نعجز عن اللحاق به. ولم نعد نتمتع بترف أن نصف انعدام المبادرة بأنها مجرد كسل أو تراخ، بل أصبح من الواجب تصنيف مثل هذه الممارسات غير المسئولة بأنها خيانة للإنسان العربي ولمستقبله. فالاكتفاء بالبقاء في أماكننا يعرضنا لأن ننقرض دعسًا تحت سيقان الأمم المتسابقة نحو التقدم من خلال التخطيط والمبادرات العلمية المحسوبة.
|