البطل الرياضي.. وهم التفوق وعولمة الصورة

 البطل الرياضي.. وهم التفوق وعولمة الصورة

في صيف هذه السنة, انتقلت كاميرا القناة الأولى المغربية إلى ضواحي مدينة الدار البيضاء, تستجوب شبابها في سياق برنامج للمسابقات, مقدم البرنامج كان يطرح أسئلة ومن يحالفه الحظ في الإجابة تهدى له جائزة, ومن بين الأسئلة المطروحة للشباب المستحم في جنبات البحر: هل تعرف الدكتور المهدي المنجرة? من هو صلاح الدين بصير? بالنسبة للأول ذي الشهرة العالمية كخبير دولي في حقل المستقبليات وتكنولوجيا الإعلام فإن الغالبية لم تتعرف عليه ولا على مجال عمله, في حين كانت الغالبية الساحقة ـ حتى لا نقول الكل ـ تتعرف وبإعجاب ظاهر على صلاح الدين بصير قلب هجوم المنتخب المغربي في كأس العالم 1998 لكرة القدم.

الأسطورة الرياضية

هذه المفارقة الغريبة, من المحتمل أنها استفزت العديد ممن كتب لهم متابعة ذلك البرنامج, ومن المؤكد أن أمثلة من هذا القبيل وقعت في بلدان أخرى, وإذا كانت أول خلاصة تؤيد طرح المنتقدين للتلفزة لكونها تسطح وتهبط بالمستوى الثقافي للجمهور إلى الحضيض الأسفل وتبسط المعارف لدرجة تجعلها بضاعة مستهلكة وقابلة للاندثار الفوري بمجرد عرضها, فإنها واقعة أبرزت كذلك مكانة الحدث الرياضي في نفسية المواطن العادي, وأكدت أن الدول كيفما كان كيانها وتوجهها الأيديولوجي لم تعد تتصارع وتتنافس لتنجب العباقرة في الفيزياء والرياضيات والعلوم بصفة عامة, لتراهن عليهم في كسب رهان التقدم, بل تجاهد وتكابد لتصنع صورة باهرة وجميلة عن نفسها, لتتوج مدى صحة أو بطلان نظامها السياسي والداخلي, وبالتالي فإنها تراهن على معيار آخر جديد في القاموس الاقتصادي والسياسي ألا وهو الإنجازات الرياضية لأبطالها.

صلاح الدين بصير مرآة للمجتمع المغربي وأمل وأحلام الشباب المغربي, نسبة كبيرة منهم عاطلون, وتختمر في أذهانهم الرغبة في الوصول الى المجد والشهرة, فالرياضة أحد المتنفسات التي تشرع أذرعها على أبناء الشعب, صلاح الدين بصير ليس سوى وليد الأحياء الشعبية بالدار البيضاء, وهشام الكروج (بطل العالم في مسافة 1500م) من بركان , وقبلهما الظاهرة سعيد عويطة من فاس والأمثلة كثيرة لكنها تؤكد معطى واحدا تحول إلى قاعدة أساسية في الرياضة وهو أن بإمكان أي أحد أن يتسلق هرم الرقي الاجتماعي بغض النظر عن عرقه ونسبه وحسبه, فالرياضة من بين المجالات التي تنتفي فيها الطقوس الطبقية, والإنجاز ليس رهنا بالانتماء العائلي ولكن بالمجهود الشخصي.

هكذا فإن لكل دولة نموذجها الأعلى الذي تسعى إلى أن تتشبث بوهم الإنجاز الذي حققه, وتشيعه وتبديه لدى الشباب كمثال يجب الاحتذاء به, وبالتالي لا تتورع في تعلية كعبه والمباهاة به في كل مناسبة, ومرات عدة تمنحه أرفع الأوسمة ولقب سفير لها بالخارج, فالعديد من الدول كانت مجهولة على الساحة العالمية, وبفضل منجزات أبطالها بدأت تقتنص شيئا من ضوء الشهرة, فما حققه البطل الرياضي يفوق بكثير ما أنجزته الآلة الدبلوماسية بجيشها العرمرم من السفراء والقناصل.

من المنطقي أن يتبادر الى الذهن التساؤل التالي : ما السبب والداعي وراء هذا التحول المفاجئ? السبب بسيط ومعقد في نفس الوقت, وهي وصفة ليست لصيقة بالدول المتخلفة بل هي عملة رائجة لدى كل الدول, ذلك أن المجتمع العالمي في سياق التحولات التكنولوجية السريعة تكسرت بداخله الحدود وأصبح الاقتصاد العالمي يعتمد في قسط كبير على (اللاماديات) التي تعني المعلومات وتداولها, وفي نفس الوقت التقليل المتدرج من نسبة الاعتماد على العناصر المادية لإنتاج الثروة كالمعادن, أي أن هناك عولمة للصورة الشائعة, والرياضة صناعة في انتعاش مستمر, وإحدى واجهاتها تسويق وتلميع صورة البطل عالميا, فمن وراء ذلك إنعاش لسلع وخدمات أخرى موازية.

حتى وإن كان هذا المنطق الجديد يحرج الفئة المتنورة, لأنها مهما أبدعت في مجال تخصصها فإن دائرة إشعاع إبداعها تبقى محصورة وحكرا على فئة جد قليلة, بالمقارنة مع الإنجاز الرياضي, بل حتى وإن سعت هذه الفئة إلى أن تتجاهله وتنقص من قيمته, فالحقيقة التي لا نحيد عنها هي أن المشهد الرياضي حاضر وفارض نفسه فمن ورائه ملايين المشجعين الذين يطالبون بمزيد من الإثارة والتشويق.

إلا ان فكرة ابن الشعب من حي متواضع تبقى هي السائدة والعالقة في الأذهان, لأنه انتصر وحقق رقما قياسيا عالميا, وفي الذاكرة الاجتماعية والمخيلة الشعبية يصور كبطل اسطوري .

صناعة البطل

هذه الحقيقة ليست وليدة اليوم فقد فطنت إليها العديد من الأنظمة وأشهرها الاتحادالسوفييتي قبل سقوط حائط برلين, ففي حمى التسابق بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي, في عز الحرب الباردة تأكد لدولة الاتحاد السوفييتي مدى شساعة الهوة بينها وبين المعسكر الغربي, وبالتالي فقد ولت وجهها صوب الرياضة وجعلتها قضية وطنية سامية فمنحت للرياضيين أعلى الأوسمة إذ رأت فيهم خير سفير يؤكد شرعية وصحة نظامها السياسي, وأحسن مبشر يدعو الآخرين لتبنيه كوصفة صالحة لكل زمان ومكان, بل وكانت لا تتورع عن تحريف الرياضة عن مبادئها السامية بخلق مصانع خاصة للتلاعب بفسيولوجية البطل لكسب رهان التفوق, ومع انهيار حائط برلين والكشف عن المسكوت عنه, والذي كان يدرج في خانة أسرار الدولة, تم اكتشاف فظاعة التلاعب بالجينات البشرية وتحويلها إلى أشباه حيوانات مبرمجة فقط على الإنجاز الرياضي, لقد كانت الرياضة الواجهة التي تذر الرماد على الأعين, بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتكسير مبدأ الثنائية القطبية بدأت دول العالم الثالث تلتفت بدورها للرياضة وتهتم بها لأنها على الاقل القلعة الوحيدة الـتي ما زالت تستمتع بداخلها بنشوة الانتصار والتفوق على الآخر بعدما فاتها الركب التقدمي وفشلت كليا في المجالات العلمية والاقتصادية والتكنولوجية, بل حتى الدول المتقدمة شعرت بأن تفوقها الاقتصادي والاجتماعي والعلمي لم يعد يكفي لشد الانتباه وتمكين القبضة على العقول, فبدا لها متيسرا أن تستثمر أموالا طائلة في البحث والتنقيب عن رياضيي المستقبل, وحاليا ترصد إمكانات هائلة قصد فك لغز التفوق الافريقي وبالأخص في بعض الأنواع الرياضية كألعاب القوى, وستفلح في أن تعيد التاريخ مرة أخرى, فبعدما جربت التجارة الثلاثية بجلب الأفارقة للعمل في حقول القطن بأمريكا كعبيد, ها هي تستلذ هذه اللعبة القديمة ولكن بسيناريو اكثر حبكة وجمالية وإغراء, وذلك بالنزول مرة أخرى إلى إفريقيا تحت ذريعة التعاون الدولي والنهوض بالحركة الرياضية بها, ولكنها في العمق تبتغي بكل بساطة سرقة المواهب الإفريقية الصغيرة لتطعيم الأندية الاوربية العريقة. لماذا? لأن أوربا لم تعد قادرة على صنع الموهبة لأنها فطرية ومنحة من اللّه تعالى, ولأن العالم كله يتحرك وفق صور ومشاهد, والبقاء للذي يق دم الأكثر إثارة وتشويقاً.

البطل الرياضي إنسان عادي

لكل حقبة تاريخية مشاهيرها,وهذا ما تنبهت إليه القنوات التلفزيونية بعد طول لا مبالاة وتهميش, فقد وجدت في الرياضة ما تحتاج إليه لتستأثرباهتمام المتفرجين, وتتحول إلى الطعم المفضل لدرجة أدت حمى التسابق للظفر باحتضان تظاهرات عالمية, إلى تضخم وارتفاع مهول في أثمنة الحقوق المؤداة, ولم يعد غريبا ولا مفاجئا بالنسبة للمتتبع ان يعرف ان الرياضة تستحوذ على أكبر نسب المناسبة, وأن ما يخصص للمشهد الرياضي يفوق أضعاف ما يعطى للحقل الثقافي و...

كل هذه التحولات الإيجابية مع ذلك تحمل في طياتها بوادرتهديد وتحريف الرياضة عن سكتها الصحيحة - إن لم تكن قد حرفتها أصلا - وإفراغها من الخصوصيات التي تميزها لتبتعد كليا عن أدوارها التربوية والاجتماعية وخاصة الأخلاقية, لتخضعها فقط للمنطق التجاري.

 

عبدالرزاق العكاوي