لوحات مجرّدة وأسئلة قلقة

لوحات مجرّدة وأسئلة قلقة

الفنان الراحل سعيد عقل

هل تبدو الكتابة عن المبدع بعد رحيله نوعاً من اللوم الذاتي? أو أن هذا الفنان الهادئ الذي رسم عبر سلوكه ولوحته صورة من أعمق صور الصمت الخلاق كان هو الذي يدفع بالمراقب لأن يقف على مسافة نقدية واعية منه?

الواقع أن سعيد.أ.عقل لم يكن مجرد فنان عاش أعوامه ال75 مستغرقاً في نزوة الرسم, بل كان مؤسساً لتيار فني, تفرّعت عنه اتجاهات تشكيلية شتى, بعضها سوف يندثر برحيله, وبعضها سوف يتبلور ويتطور تأسيساً على اجتهادات الفنان الراحل, لأن لوحة ذكية تطرح سؤالاً في معادلة التشكيل المعاصر هي اللوحة التي تؤسس لثقافة (بصرية) عربية معاصرة ما برحت ,حتى يومنا الحاضر, تقدم مبررات وجودها ضمن صيغ دفاعية شتى, وفي عالم تقرر أسسه الثقافية, ثقافة (سمعية) هي المنبع التجريدي الأوفر لكل ما يحفل به الشرق العربي من طلاسم وألغاز وأسئلة.

المدرسة الأولى

على مقربة من بيروت, وما بين الساحل وكتف الجبل, تتناثر بيوت ضيعة الدامور القريبة من العاصمة, وهي بقدر ما تمتاز ببساتينها وخضرتها, تمتاز بالنخبة الثقافية والسياسية التي طلعت منها. إنها أحد المفاصل الثقافية التي دفعت ثمناً باهظاً لوضعها المميز هذا.

في هذا المحيط, وُلد الفنان سعيد. أ. عقل. عمه الشهيد سعيد فاضل عقل من شهداء الاستقلال الوطني في السادس من مايو, وابن عمه فاضل عقل واحد من كبار الصحافيين والمفكرين في لبنان, ناهيك عن الشاعر وديع عقل وغيره من كبار الأدباء الداموريين.

إذن هذا المولود سنة 1926 لم يعش في فراغ ثقافي, بل كان محاطاً بالوعي والإبداع. حتى أن جدته (نور) كانت مدرسته الذهنية الأولى نظراً لما كانت تروي له من حكايات وأخبار بقيت عالقة في ذاكرته حتى أواخر عمره.

اكتشف رغبة الرسم لديه عندما شاهد صديقه (جوزيف المعلم) يرسم صورا لوجوه جميلة. لذلك ذهب إلى محترف الفنان (قيصر الجميل) وبدأ يمارس أوليات الرسم إلى جانب بعض الطلبة الموهوبين.

عام 1948 دخل الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة. وفي عام 1951 سافر إلى باريس للتخصص, حيث أمضى أربع سنوات. أنتج خلالها العديد من الأعمال ذات الطابع الأكاديمي, كما نشر مجموعته الشعرية الأولى التي أسماها (تيهما) - Labyrinrhe -, أما معرضه الشخصي الأول فقد أقامه في جاليري موكادر الباريسي سنة 1953.

لقد لفت ذلك المعرض أنظار النقاد الفرنسيين الكبار, أمثال ولدمار جورج وبيار كورثيون, لكن سعيد.أ.عقل لم يكن مقتنعاً بالنتائج التي حققها. لأن ما كان يسعى إلى تحقيقه ليس لوحة ذات صياغة تعبيرية غربية, بل خلق البديل الثالث, حيث تمتزج (سيمياء) الشرق المركّبة مع الروح (التحليلية) الغربية, لذلك بدأ برحلة الكشف والدراسة خلال الفترة الواقعة ما بين 1958و1964.

إن زيارة محترفات كبار الفنانين أمثال مارك سين, ولدمار جورج وجان بيكارت, منحت الفنان بعداً تحليلياً كان بحاجة ماسّة إليه. فهو قد اكتشف خلال هذا التجوال, أن اللوحة المعاصرة في الغرب إنما تتأسس على ركيزتين أساسيتين, هما تنوّع المادة, وتجاوز الموضوع. لـذلك نحـن لا نقف أمام عنوان كبير اسمه التجريد الفني المعاصر, بل نحن نواجه عناوين كثيرة ومتنوعة, بقدر اجتهادات الفنانين ومثابراتهم الإبداعية. إنها روح أوروبا الساعية إلى خلق توازن ديناميكي ما بين كل مرتكزاتها الإبداعية, فإذا كانت فترة الستينيات الفرنسية هي فترة بلورة الأنا الوجودية, وخروج الثقافة برمتها عن تقاليدها الموروثة غوصاً في الاختبارية والتجريبية, فإن اللوحة الفرنسية لم تعد مرهونة إلى أصولها الأكاديمية رغم عراقة هذه الأصول. بل صار الخروج عن نمط الإنتاج السائد هو القاعدة والروح التصويرية هي الاستثناء.

مواد مختلفة باتت تتأسس منها اللوحة الحديثة, ومواضيع تنطلق من النفسي لتصل إلى الحسي المباشر. فيما اللوحة العربية لم تزل حتى منتصف الستينيات رهينة حالتها التعبيرية الموروثة, والمنظر سيد اللوحة, ناهيك عن بقاء دائرة الممنوع أو المحرم على اتساعها.

يجيء سعيد.أ.عقل إلى لبنان حاملاً اجتهاداته, ويبدأ بممارسة دوره كأستاذ في المعهد أو كرسام مشارك في كل المعارض الجماعية داخل وخارج لبنان.

إن اللوحة التي سيقدمها هذا الفنان سوف تنطلق من ثقافته الموسوعية العالية, فهو كقارئ نهم لعلم النفس سوف يسعى إلى إدخال عنصر التحليل النفسي في البناء الأساسي للتأليف. وذلك انطلاقاً من نظرية التداعي اللوني غير المنضبط أو التلقائي, لكنه كمحلل لروح الثقافة الشرقية الأصيلة, سوف يحول مسطحه التصويري إلى مساحة مليئة بالمفردات الشرقية المستمدة من النقش العربي, ومن حركات جسد الحرف العربي اللين.

إن هذا الدمج المدهش وضعنا أمام لوحة قريبة من الاتجاه الحروفي الذي تطوّر بعد ذلك بسنوات قليلة. لكنه لا ينتمي أصلاً إلى الاتجاه (النصّي الحروفي) لأن ما في اللوحة هو إشارة الحرف وليست مدلولاتـه الصـوتيـة.

اتجاه فني جديد

هنا تبرز عبقرية هذا الفنان المؤسس الذي أطلق في لبنان أواسط الستينيات اتجاهاً تشكيلياً يتمثل بركائز ثلاث هي:

أولاً: المدى التطبيقي الذي تتسع له المواد المتنوعة حين تستعمل على مسطح واحد, وهو بذلك أول فنان لبناني يشتغل على واقع (الميكست ميديا) أي المواد الخليطة, لأن اللوحة اللبنانية آنذاك كانت تُشتغل إما بالزيت أو الاكواريل (اللون المائي), أو في أحسن الأحوال مادة الإكريلك بدرجتها (الغواشية).

ثانياً: غيّر من المفردة التجريدية السائدة عند معاصريه اللبنانيين أمثال (إيلي كنعان), (جان خليفة), (شفيق عبود) وحتى لدى (بول غيراغوسيان) التعبيري الغامض. إذ أدخل مفردة تشبه (الوشم) وهي مستمدة من جوهر حركة الحرف العربي, ومن الطبيعة الالتوائية للنقش المشرقي.

بهذه المغامرة التأليفية, يكون الفنان (سعيد.أ.عقل) أدخل فعلاً إشارة التواصل ما بين المعاصرة والتراث. أو حتى ما بين الشرق الروحاني والغرب المادي الواقعي.

ثالثاً: على المستوى التفسيري أطلق عبر الإشارات ما أسماه أخيراً بالروح (الطوطمية) للأشكال النابعة من الهواجس الإنسانية. وهنا سنجد التفسير النفساني للوحة هذا الفنان تقوم على نظرية ترويض الحلم لصالح الواقع, وهي قريبة من بعض المفاهيم السوريالية, لكنها كإسقاط تصويري تستمد روحها من التفسير (الأولري) للرؤيا شبه الواعية.

كان سعيد.أ.عقل, يحرّض تلاميذه على التمرّد الجريء على الموروث التصويري, ولكن شريطة إتقانه أولاً. فهو لا يذهب إلى التجريد هروباً مـن الصـورة, بل تفسيراً عقـلياً لمحتـوياتهـا الباطنـية.

إنه مثل (وازيلي كاندينسكي) الذي أسس التجريد, لا يسعى إلى استظهار أبعاد اللوحة أو الفن عموماً عن طريق العقل أو المنطق, بل بواسطة (اللاعقلانية) مستعيناً بذلك الشعور الهائل بالانتماء لذاته, حيث التصحيح المستمر لكل ما هو عقلاني مقنن.

لوحة سعيد عقل فجّرت ما كان راكداً ومؤجلاً في الفن اللبناني, وقدمت أجوبة صريحة عن الأسئلة القلقة التي كانت تحفل بها الحالة التشكيلية العربية. فلا غرابة أن تنطلق من بعد اجتهادات (عقل) الخلاقة, حركة تأسيسية في الفن العربي برمته,تقوم على قاعدة العودة للحرف العربي كمفردة وكحركة. وأن ينشأ تيار حروفي استلهامي يتشعب إلى تيارات عدة. بعضها توقف عند الحدود الشكلانية للحرف العربي, وبعضها تجاوز ليصل إلى المستوى التحليلي لحركة الحرف.

إن الحساسية المفرطة لهذا الفنان هي التي ستكـون السـبب المأسـاوي, في عزلـته, وابتعاده عن الآخرين.

تدمير الذكريات

في عام 1976, دمّرت مدينة الدامور, حيث محترف الرسام ومنزله وميراثه, وقد فقد سعيد.أ.عقل كل شيء, حتى الذكريات الحميمة والأعمال الأولى لتجاربه الفنية. وقد أنقذ من الموت بأعجوبة مع ابنته. فكان هذا الفنان الحسّاس يسير بقامته الفارعة في شارع الحمرا ببيروت كأنه علامة استفهام لا تجد جواباً مقنعاً عن كل الذي حصل.

لكن رغم هذا الألم الدفين, والحزن الذي تلبسه, أنتج سعيد عقل مجموعة أساسية من أعماله ذات المسحة الحزينة, وعرضها ربيع عام 1986 في غاليري (شاتوال) بمجمع الريمال السياحي.

في هذه المرحلة بالذات, تفجّرت تداعيات بالغة الأهمية في تأليف اللوحة ذات التماسك الداخلي الآيل إلى التشظي. إنه يريد أن يصل عبر لوحته (المائية) الجديدة إلى مستويات حوارية مدهشة, دفعت بالنقد لأن يتعامل مع لوحة هذه المرحلة بوصفها المشروع المبدئي لأعمال جدرانية كبيرة, لأنها الصيحة الداخلية التي يجب العمل مع الفنان على إطلاقها صوب الخارج.

من هنا, جاءت جدارية (مطار الرياض) في المملكة العربية السعودية, فهي لم تكن في الأصل إلا لوحة بحجم ورقة الرسائل. لكن قابليتها على الاتساع لا حدود لها. من خلال هذا الزخم ما بين (المنياتوري) المصغر, والعمل المكبّر حتى حدود الجدرانية نكتشف كم كان هذا الفنان قادراً على الإمساك بالخواص (البلاستيكية) للحركة. أليس الاسم الغربي للفن المعاصر, هو (البلاستيك آرت) إذن لماذا لا نقرأ عبر لوحة (عقل) الامتثال الحقيقي لجوهر التأليف الفني?

إن لوحة سعيد.أ.عقل في عقد التسعينيات لم تنطو على أي انعكاس لآلامه الجسدية الخاصة. فالرجل الذي أصيب بعجز تام للكلى, تحمّل مصيبته, ولم يتواطأ بسببها مع اللوحة بحيث يستسهلها إنتاجا للوصول صوب التطريب أو الإدهاش الذي يجلب المقتني. بل صارت لوحته بحثاً (جيناتيكياً) بأسباب نشأة العمل الفني, وغاياته التي يجب أن يتأسس عليها. إنه يدرك كم يجب أن تكون أواخر أيامه بلورة لمشروعه الفني الذي انطلق به وحيداً قبل أربعين عاماً. لذلك بقي هذا الفنان المؤسس سبباً من الأسباب التي تدفع بالفنان اللبناني المعاصر لأن يكون باحثاً لا مجرد مصوّر يرسم.

الرحيل الأخير

في شهر فبراير من عام 2001 أغمض سعيد.أ.عقل عينيه ورحل صوب الشاطئ الآخر من السؤال الوجودي المحيّر. لكن الإرث الذي تركه لنا, ليس مجرد لوحة تشي بمثابرات متقدمة لفنان قرر أن يحفر باتجاه أعماقه, بل منهجاً تشكيلياً متكاملاً يقوم على معادلات لابد من الأخذ بها من قبل حركة الفن العربي المعاصر. وربما في طليعة هذه المعادلات قضية الانطلاق من موقع القدم المشرقي صوب العالمية, وليس الدخول إلى هويتنا من بوابة الغرب. إننا نستطيع أن نجيب إبداعياً عن العديد من الأسئلة, لكن شريطة أن تتحول محترفاتنا إلى مؤسسات اختبارية تنتج اللوحة المضادة وليس اللوحة الوصفية المستلبة.

سعيد.أ.عقل. الفنان اللبناني, الذي رحل بالأمس القريب أكثر من إشارة منحها الزمان لنا, بل هو ذلك الأساس الذي منه وعليه يجب أن تتأسس مثابرتنا الفنية التشكيلية المعاصرة.

 

عمران القيسي

 
 




لوحة أنتجها الفنان سعيد عقل في عام 1979





صورة لإحدى اللوحات المنتجة عام 1954 بداية الوعي الحروفي





لوحة غواش ... الحركة الباطنية





لوحة عمودية - غواش









لوحة أنتجت في التسعينيات بالكولاج





رسوم كتابية عام 1987





لوحة كتابة وإشارات