القلاع والحصون في الساحل السوري

القلاع والحصون في الساحل السوري

شواهد عملاقة على تاريخ المنطقة وحضارتها

على الشريط الساحلي السوري يقف أكبر عدد في العالم من القلاع والحصون التي تضمها منطقة واحدة.. دليلا على تاريخ وتراث عـربي مـهم.

على مقربة من مدينة بانياس الساحلية في سوريا, يرتفع برج عسكري يعود إلى القرن الثاني عشر. عرفنا من سكان المحلة أنه يدعي (برج الصبي) نسبة إلى أسطورة قديمة. ولما تطلعنا إلى الخرائط السياحية التي بحوزتنا, لم نجد أي ذكر له.

وفي مدينة مصياف ذات القلعة الشهيرة, سمعنا من الأهالي مصادفة عن قلعة دارسة في الجوار تدعى (القاهر), وهذا الاسم لم يرد لا على الخرائط ولا في المصادر الرائجة.

وبعد ما كنا أشبعنا القلاع والحصون في محافظة طرطوس دراسات وزيارات حتى اعتقدنا أننا قمنا بمسح شامل لها, فوجئنا بمن يضيف على لائحتنا مجموعة أسماء جديدة.

أهو تقصير من رسامي الخرائط ومصنفي المعالم السياحية في سوريا?

لا.

فبرج الصبي يحتجب في ظلال قلعة المرقب العملاقة التي تجثم على قمة جبل مجاور. والأبراج الهائلة في قلعة مصياف لا تترك الانظار تفلت منها في أي اتجاه آخر. وازدحام القلاع والمعابد والمواقع الأثرية في محافظة طرطوس يصعب جمعه على خارطة واحدة مهما كانت الرموز المستعملة صغيرة.

فعلى قمم الجبال الساحلية في سوريا وفي شعاب أوديتها السحيقة, وضمن مستطيل لا تزيد مقاييسه على 120 كلم طولاً و60 كلم عرضاً, ينتصب ما يزيد على الثلاثين قلعة وحصناً. وهذا العدد قد يكون الأكبر في العالم على مثل هذه الرقعة الجغرافية الضيقة نسبياً.

فلماذا عجت هذه الجبال دون غيرها بمثل هذا العدد الكبير من القلاع والحصون? ما حكايتها? أي دور لعبته في التاريخ? وما الذي انتهت إليه?

بداية الحكاية

ذات يوم بارد من أيام ذلك الشتاء انقلب قلق سكان سهل البقيعة, الواقع جنوبي الخط الذي يربط مدينتي حمص وطرطوس, إلى هلع جارف, عندما سمعوا أن جحافل المتوحشين الفرنجة قد خرجت من المعرة وبدأت زحفها جنوباً باتجاههم.

كان ذلك في الأسبوع الأخير من شهر (يناير) من سنة 1099 وكان العالم الإسلامي قد اهتز بأسره لخبر سقوط مدينة انطاكية في أيدي الفرنج الصليبيين قبل سبعة أشهر. ولكن الفظائع التي ارتكبها هؤلاء في المعرة ومن ضمنها افتراس لحوم البشر وإحراق المدينة بيتاً بيتاً, طغت على مرارة سقوط أنطاكية, وأوصلت الهلع إلى حده الأقصى في قلوب سكان البقيعة.

الميسورون منهم غادروا على عجل باتجاه بعض المدن الداخلية والبعيدة مثل طرابلس وحمص ودمشق, أما الفلاحون فقد جمعوا ماشيتهم ودوابهم وغلالهم من الحبوب والزيت, وتطلعوا إلى قمة جبل كلخ, حيث ينتصب ملاذ قد يكون آمنا.

كان أمير حمص شبل الدولة ابن مرداس قد بني سنة 1031 على ذلك الموقع قلعة شغلتها حامية عسكرية من الأكراد , ثم هجرتها في وقت لاحق. كانت القلعة خاوية, ولكن أسوارها لا تزال في حالة جيدة, فقصدها فلاحو البقيعة للاحتماء فيها, وأوصدوا الأبواب.

لم يدم صمود فلاحينا أكثر من ليلتين, فأمام اندفاع الغزاة وانعدام وسائل الدفاع, فضل المدافعون التسلل ليلاً إلى خارج القلعة التي دخلها الفرنجة في 28 يناير. ومن ثم راح حصن الأكراد يتغير على أيدي مالكيه الجدد طوال العقود اللاحقة ليتحول إلى أشهر قلعة في القرون الوسطى وتحفة الهندسة العسكرية في العالم, نعرفها اليوم باسم قلعة الحصن نسبة إلى القرية الصغيرة المجاورة.

جذورها

عندما نحصر استطلاعنا بالقلاع والحصون المنتشرة على المنحدرات الغربية للجبال الساحلية في سوريا, والتي عرفت تاريخيا باسم جبال البهرة ثم جبال العلويين, يمكننا القول إن هذه القلاع تنقسم إلى مجموعتين.

ـ الأولى وتضم القلاع الفرنجية ـ العربية, والتي تحددت شخصياتها كما وصلت إلينا خلال الحروب الصليبية, ولعبت دوراً أساسيا في هذه الحروب. وأبرز هذه القلاع: قلعة الحصن, والمرقب, وصلاح الدين (التي حملت هذا الاسم في العصر الحديث بعد أن كانت تعرف تاريخيا باسم قلعة صهيون نسبة إلى أحد مالكيها الفرنجة الكونت روبرت دي صهيون), حافيتا, يحمور, العريمة, طرطوس, أرواد (قلعتان), بانياس, مرقية, أم حوش, الكيمة, المهالبة, بني قحطان, وغيرها.

ـ والمجموعة الثانية وتعرف باسم قلاع الإسماعيليين أو قلاع الدعوة, وتضم سبع قلاع هي: مصياف (عاصمتها) الرصافة الداعمة لمصياف, الكهف, القدموس, الخوابي, العليقة, والمنيقة.

لم تبن هذه القلاع فجأة ودفعة واحدة, فمن قلعة قطنة شمالي حمص إلى أوغاريت شمالي اللاذقية, تؤكد الآثار أن للسوريين باعا قديما في فن التحصين يرقى إلى الفي عام قبل الميلاد على أقل تقدير. وبعض القلاع التي تدخل في استطلاعنا لايزال يعمل بصمات رومانية وبيزنطية واضحة مثل قلعة مصياف.. وبعضها يحتفظ بشخصيته العربية الخالصة مثل قلعة شيزر التي لم يتمكن منها الفرنجة. وبعضها يختلط فيه البيزنطي بالعربي بالأفرنجي ليؤلف شخصية فريدة مثل قلعة صلاح الدين. وهناك حصون لم تدرس حتى اليوم بما فيه الكفاية لمعرفة تاريخها, ولكن اللقى الفخارية والزجاجية على سطح تربتها ترجح أنها تعود إلى العصور الفينيقية واليونانية مثل حصن مرقية وبرج ميعار, حتى يخال المرء أن هذه القلاع كانت موجودة هناك منذ الأزل. وأن معالم التاريخ والحضارات المختلفة على مبانيها ما هي إلا كلمات في كتاب يروي تاريخ الإنسانية منذ البدء وحتى اليوم.

المؤكد أن بناء القلاع والحصون في تلك المنطقة شهد نشاطاً ملحوظاً في السنوات الأولى للفتح العربي لساحل بلاد الشام. ولكن تدريجيا راح الترهل والإهمال يضربان هذه المنشآت الدفاعية, إلى أن شهدت نهضتها الكبرى في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وهنا نصل إلى بيت القصيد, إلى الجواب عن السؤال: لماذا تكاثرت هذه القلاع في هذه الجبال بالذات?

على طول ساحل بلاد الشام ترتفع سلسلة جبال شاهقة تحمي الداخل مما قد يحمله البحر من غزاة. وفي لبنان تنقسم هذه السلسلة إلى سلسلتين جبليتين شاهقتين ووعرتين بما فيه الكفاية. أما في سوريا فإن هذه الجبال تنخفض نسبياً (نشدد على كلمة: نسبياً), بحيث تتخللها ممرات خطرة يمكن للغزاة أن يلجوا منها إلى الداخل.

أبطال تحريرها

إنهم الثلاثة الكبار من بين كل سلاطين العرب في العصر الوسيط, وهم على التوالي: نور الدين محمود ابن الأتابك عماد الدين زنكي, صلاح الدين الأيوبي, والملك الظاهر بيبرس.

كان نور الدين محمود شاباً في التاسعة والعشرين من عمره عندما اغتيل والده الأتابك عماد الدين سنة 1146. وعندما دخل حلب ليتسلم مقاليد الحكم برفقة رجل يثق به هو الأمير الكردي شيركوه عم صلاح الدين, لم يكن قد وجد الوقت الكافي لبسط سلطته خارج أسوار هذه المدينة. ولكنه بعبقريته السياسية والعسكرية الفذة, استطاع خلال ثلاث سنوات تجريد الفرنجة من كل ممتلكاتهم الواقعة إلى الشرق من نهر العاصي, وبدأ زحفه نحو القلاع الساحلية.

حرر طرطوس سنة 1152 وبقيت في يده ثلاث سنوات. وهاجم قلعة الحصن مراراً ما بين 1163 و1167. ولكنه وإن لم يتمكن من احتلالها, فإنه استطاع تحرير صافيتا سنة 1166, واحتل في العام التالي قلعة العريمة. وإن كان الصليبيون قد استردوها بعد وقت قصير, فإنه عاد وهاجمها وألحق أضرارا بالغة فيها. كما حاصر سنة 1167 حصن الكيمة, وحرر ضواحيه. غير أن توالي الحملات الفرنجية أضاع لاحقاً معظم هذه المكتسبات.

الإنجاز الأكبر الذي حققه نور الدين هو سياسي أكثر مما هو عسكري. ويكمن في توحيد بلاد الشام تحت سلطته التي تمركزت في السنوات الأخيرة في دمشق. الأمر الذي سهل إلى حد بعيد مهمة خلفه صلاح الدين الأيوبي.

فعند وفاة نور الدين, سارع صلاح الدين إلى التخلص من ولي العهد الفتي, واستولى على مصر وسوريا الداخلية ما عدا جبالها الساحلية.

وما أن حقق نصره الشهير على الفرنجة في موقعة حطين وحرر القدس, سنة 1187, حتى زحف صلاح الدين شمالا. فحرر في العام 1188 (في المنطقة موضوع استطلاعنا) قلاع صافيتا, يمور, العريمة, واحتل طرطوس من دون أن يتمكن من قلعتها. ثم فتح مرقية, بانياس, جبلة وقلعة صهيون (التي تحمل اليوم اسمه).

المذهل هو أن بطل حطين ومحرر القدس فشل في حصاره لقلعة الحصن الذي دام شهراً من دون أن يتمكن من احتلاله. كما أنه تلافى التحرش بقلعة المرقب التي كان الفرسان الاسبتارية قد أجروا تحصينات جديدة وإضافية عليها.

وعندما أراد صلاح الدين اجتياز السهل الضيق بالقرب من بانياس, كانت أبراج المرقب تمطر جيشه بوابل من النبال والسهام. ولكنه تمكن من تمرير جيشه فرداً فرداً عبر ذلك الممر الساحلي الضيق.

لم يكن مصير مكتسبات صلاح من هذه القلاع أفضل من مصير مكتسبات نور الدين محمود. إذ سرعان ما استردها الفرنجة بعيد وفاته بسبب إعادة تقسيم المملكة إلى عدة دويلات, والمشاحنات والصراعات التي دبت بين ورثته من أمراء وملوك البيت الأيوبي. وكان على هذه القلاع أن تنتظر النصف الثاني من القرن التالي (الثالث عشر), لتستعيد صخبها ولمعان الدماء على أسوارها.

فبعد سبع سنوات أمضاها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس في بناء جيش قوي وإعادة توحيد الدولة, انطلق في حملتين كبيرتين ضد الفرنجة على طول ساحل بلاد الشام.

وفي العام 1267 هاجم الظاهر بيبرس قلعة الحصن للمرة الأولى ولم يتمكن منها آنذاك, ولكنه استولى على ثلاث قلاع وستة عشر برجاً محصناً في الجوار.

إلى ذلك, تمكن بيبرس من تحرير قلعة مرقية, ومدينة بانياس, وفي العام 1276 حاصر طرطوس وخربها تخريباً شديداً.

وتمتاز انتصارات بيبرس عما كان قد حققه سلفاه نور الدين وصلاح الدين, بأن المكتسبات ستبقى هذه المرة ونهائياً في أيدي العرب بحيث تحولت الدويلات الصليبية التي كانت تشغل سابقاً الساحل الشامي بطوله, إلى ما يشبه حبيبات العقد المقطع, والمتجهة بسرعة إلى الزوال. وكان العام 1302 هو موعد الوجود الفرنجي في المشرق العربي مع الزوال, وذلك عندما غادرت فلولهم آخر موقع لها في قلعة جزيرة أرواد, وغابت في البحر إلى غير رجعة.

قلاع الإسماعيلية

-هكذا شاء المؤرخون أن يضيفوا مجموعة من القلاع العربية في المنطقة نفسها لعبت دوراً تاريخياً بلغ ذروة أهميته في خضم الحروب الصليبية. وتعود هذه التسمية إلى انتماء أصحابها إلى المذهب الإسماعيلي, وربما أيضاً إلى وظيفتها الأساسية في هذه المرحلة, وهي تقديم الملاذ الآمن للإسماعيليين.

فقلعة مصياف على سبيل المثال, والتي كانت عاصمة الإسماعيليين, وصلت إلى هؤلاء من آل منقذ امراء شيزر, ولكن لا أحد يستطيع الجزم عن أي طريق. ففي حين تقول الدكتورة زكية حنا مؤلفة كتاب (القلاع والمواقع الأثرية في طرطوس) أن ذلك تم بالقوة وبعد اغتيال صاحبها, وتتحدث عن (احتلالهم) لقلعتي الكهف والخوابي, يؤكد المستشرق مولر أن آل منقذ (تخلوا) عن مصياف للإسماعيليين سنة 1135, بعد أن كانوا (آل منقذ) قد اشتروها سنة 1127.

المؤكد من كل تلك المرحلة الغامضة والمبهمة, هو أن قلعة القدموس كانت الأولى التي دخلت في حوزة الإسماعيليين, وكان ذلك سنة 1131, عندما اشترى الداعي أبو الفتح الإسماعيلي هذه القلعة من سيف الملك بن عمرو الدمشقي. وفي العام 1132 حازوا ثلاث قلاع إضافية هي: الكهف والخوابي والعليقة. وبعد مصياف التي حازوها سنة 1135, ضموا حصن المنيقة سنة 1137, وبذلك اكتمل عقد القلاع السبع بما فيها قلعة الرصافة الداعمة لمصياف (على بعد 5 كلم منها, وهي غير الرصافة التي تقع على تخوم البادية).

هذا هو المعروف عن (القلاع السبع), ولكن الواقع يرجح أن الإسماعيليين بسطوا نفوذا في وقت من الأوقات على أكثر من هذا العدد, كما أن بصماتهم ثابتة على أكثر من قلعة لم نعد ننسبها إليهم اليوم, مثل قلعة (المرقب) التي كان أول من وضع أسسها رشيد الدين سنان سنة 1062 حسب ما جاء في المصادر العربية.

حتى بدايات القرن الثاني عشر اعتمدت هذه القلاع الإسماعيلية في بقائها على توازن القوى في تلك المنطقة ما بين قوى المسلمين والفرنجة. ولأن هذه الدولة الصغيرة افتقرت إلى جيش يتكافأ مع ضخامة الجيوش المتصارعة آنذاك, عمد قائدها التاريخي سنان راشد الدين إلى تنظيم جماعة الفداوية (الفدائيين), الذين كانوا ينفذون عمليات انتحارية ضد أعدائهم من مسلمين وفرنجة على حد سواء. وكانت قلعة الكهف (على الأقل) معهدا لتخريج هؤلاء الفداوية. ومن المرجح أن هذا النوع من التدريب العسكري تم أيضا في قلعة القدموس, ومصياف العاصمة.

إذ تحفل السير الشعبية العائدة إلى تلك الفترة بالأحاديث عن أبطال من الكهف, أو القدموس, وباجتماعات هؤلاء عند المقدمين عليهم في قلعة مصياف التي وردت كثيراً في كتب العصر الوسيط تحت اسماء مثل مصيات أو مسياط.

لسنا هنا في وارد استعراض الدور السياسي لتلك الدولة, والذي لا يزال موضع جدل حتى في صفوف الباحثين في العصر الحديث. ولكن لإدراك خطورة الدور الذي لعبته هذه القلاع, نكتفي بالإشارة إلى أنها كانت من أكبر العوامل التي عجلت في انهيار الاقطاعيات الفرنجية في تلك المنطقة. وذلك عندما توحدت مع باقي القوى العربية والإسلامية في الكر على الفرنجة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر.

ولو شئنا اختصار الدور الاستراتيجي الذي لعبته هذه القلاع خلال الحروب الصليبية, لقلنا إنها شكلت قوة ثالثة, كانت في البدء مستقلة تماماً قبل أن تنضم نهائيا إلى الخندق العربي. بعضها سقط في أيدي الفرنجة لوقت قصير مثل قلعة القدموس عام 1195, وبعضها لم يسقط أبداً مثل مصياف. وبعد العداء الذي استحكم ما بين هذه القلاع وصلاح الدين الأيوبي, كان ابنه الظاهر غازي ملك حلب الوسيط ما بين بوهيمتد الثاني وقلعة الخوابي التي حاول هذا الأمير الصليبي محاصرتها واحتلالها انتقاما لابنه ريموند الثاني الذي اغتاله أحد الفداوية في كنيسة طرطوس عام 1213. ولكن حتى في فترة الاستقلال التام عن الطرفين, شكلت هذه القلاع سراً حقيقياً أقفل في وجه الصليبيين ثاني أخطر ممر جبلي كان يمكن أن يلجوا منه إلى داخل بلاد الشام, وهو حيث يقوم الطريق البري الحالي ما بين الساحل ومصياف مرورا ببلدة الشيخ بدر ووادي العيون, والذي رغم طابعه الجبلي, كان يمكن للغزاة التسلل منه إلى الداخل.

حياتها الطويلة

تجمع المراجع التاريخية التي تبحث في تاريخ هذه القلاع على القول إن أهميتها تضاءلت في عهد المماليك, أي بعيد تحرير ساحل بلاد الشام من الفرنجة, ومن ثم تلاشت أهميتها في العهد العثماني. ولكن القلاع لا تموت بسهولة.

فوق أحد الأبواب الداخلية المظلمة في قلعة أرواد, علقت لوحة رخامية كتب في أعلاها: (المجاهدون سجناء القلعة إبان الانتداب الفرنسي). وتضم اللوحة لائحة بأربعة وعشرين اسما لزعماء وطنيين من سوريا ولبنان قارعوا الاستعمار الفرنسي, ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر: شكري القوتلي, عبدالحميد كرامي, فارس الخوري, عبدالرحمن الشهبندر, هاشم الأتاسي, سعد الله الجابري, عبداللطيف البيسار, مظهر ارسلان, نجيب الريس وغيرهم.

ومازالت توجد على جدران غرفة السجن بعض الحلقات المعدنية المثبتة التي كان يقيد إليها هؤلاء الزعماء. كما نقش على أحد جدران الغرفة بيتان من الشعر الوطني لنجيب الريس, يقول فيهما:

(يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما
ليس بعد الليل إلا فجر مجد يتسامى)
فلكل قلعة مصيرها الخاص, كما أن لكل قلعة شخصيتها الخاصة التي لا يمكن فهمها من دون العودة إلى هويتها السياسية والغاية المحددة من إنشائها.

ولو شاء الزائر أن يقدم وصفا شاملا لها لاحتاج إلى سنوات طويلة من العمل تكون نتيجته مجلدات ضخمة.

شخصياتها

إن مجرد انتقال قلعة من يد إلى يد كان يكفي لإجراء تعديلات كبيرة على شكلها وتحصيناتها وحتى شخصيتها الثقافية. ومعظم هذه القلاع انتقل بين الأيدي المتصارعة أكثر من مرة, حتى أن بعضها مثل قلعة حافيتا كان في وقت من الأوقات أشبه بلعبة الـ (يويو).

الزلازل أيضاً.. لعبت دوراً كبيرا في تحديد مسار حياة هذه القلاع ومصائرها, وبشكل عميق يكاد بماثل دور الحروب في خطورته.

ففي العام 1157, ضرب زلزال مدمر تلك المنطقة. وكان على درجة من العنف مدينة عامرة مثل أفاميا تحولت إلى أنقاض ولم تقم لها قائمة من بعده. وتضررت معظم القلاع بدرجات متفاوتة.. وعلى سبيل المثال, فإن انهيار أسوار قلعة شيزر وأبراجها قضى على كل أفراد أسرة آل منقذ ووجهاء المنطقة الذين كانوا مجتمعين لحضور حفل ختان. ولم ينج من أفرادها إلا الأمير أسامة الذي كان غائباً, وكتب لاحقاً في (كتاب الاعتبار): (لم يتقدم الموت رويداً رويداً فيغتال أفراد أسرتي.. بل ماتوا جميعاً في طرفة عين وأصبحت قصورهم قبورهم) وهكذا زالت إمارة آل منقذ من الوجود في لحظات.

فرض هذا الزلزال ما يشبه الهدنة ما بين العرب والفرنجة. إذ تعرّت قلاع الطرفين.

وعندما حاول الغزاة أن يلعبوا بأذيالهم ويستغلوا هذه المأساة, احتلوا قلعة المضيف لفترة قصيرة, وحاولوا احتلال شيزر, ولكن مصياف سارعت إلى نجدتها وإبعاد شبح الفرنجة عنها.

الطرق المؤدية إلى هذه القلاع تستحق وحدها أن تكون موضوعا لاستطلاع مصور, وذلك لتنوعها وفرادة كل منها.

فالطريق إلى قلعة الحصن يتعرج صعودا ويمر بقرى صغيرة آخرها الحصن المحاطة بأراض زراعية. أما الطريق إلى قلعة صلاح الدين فينحدر وسط غابات تذكر بأدغال إفريقيا لكثافة الغطاء الشجري والنباتي فيها, قبل أن يعود إلى تسلق الرعن الصخري شبه العمودي الذي تقوم القلعة على قمته. وفي حين أن الطرق المعبدة جيداً توصل إلى معظم القلاع المشهورة, فإن الطريق إلى قلعة الكهف المهجورة وعر للغاية, وللرصافة لا طريق على الإطلاق, بل على الزائر أن يتسلق جبلاً كثيف الأشجار لدرجة تحجب ضوء الشمس في الكثير من مواضعه. أما الوصول إلى قلعة أرواد فعبر.. الزوارق.

بالوصول إلى هذه القلاع يكتشف الزائر أن بعضها لا يزال في حالة حفظ ممتازة. والقلاع الكبرى منها مثل صلاح الدين, الحصن, المرقب, مصياف, وارواد تحولت إلى مزارات سياحية, يتم الدخول إليها بواسطة تذكرة تباع على المدخل.وبعض هذه القلاع لا يزال في حالة حفظ ممتازة, ولكن لسبب من الأسباب لم يتحول رسمياً إلى مزار سياحي مشهور مثل قلعة يحمور التي أسكنت الدولة فيها رجلاً مع عائلتها لحراستها.

وكما كان لكل قلعة شخصيتها الخاصة وتاريخها الخاص بها, فإن الزائر ينبهر اليوم أمام كل قلعة على حدة, وكأنها الأولى التي يزورها في حياته.فطوبوغرافية الأرض لعبت دوراً أساسياً في تحديد معالم كل قلعة على حدة. وإذا كانت الأرض المسطحة سمحت بإنشاء قلعة يحمور وفق تصميم هندسي مربع, فإن الخطوط الجبلية المتعرّجة لذلك الركن الصخري الحاد, أعطت أسوار قلعة صلاح الدين شكلها المتعرّج والمستطيل الذي يضيق كلما اتجهنا جنوباً. أما قلعة المرقب, فقد بنيت على أساسات تشكّل مثلثاً تحتل الأبراج العملاقة الجهة الضعيفة, غير المحمية طبيعياً لجهة الجنوب.بتكرار الزيارات إلى تلك الجبال - وهذه كلمة حق لابد أن تقال - لابد وأن يدخل المرء في علاقات مع أبنائها: في مصياف والشيخ بدر وسريجس والعليقة وطرطوس وبشيء من دقة الملاحظة, يسجل الزائر فرادة طباع سكان تلك الجبال الذين يعيشون في ظلال هذه القلاع. والتي يمكن فهمها بردها إلى ما يكاد يكون جذورا عسكرية الأصل: حسن الضيافة, الإحساس العميق بالكرامة المتزاوج مع تواضع طبيعي وصادق, والكثير الكثير من الشهامة والاستقامة وما يمكن وصفه بأخلاق الفرسان كما كانت أيام زمان.

 

 

عبود عطية

 
 




صورة الغلاف





قلعة المرقب اللافتة بأبراجها المستديرة. وفي المقدمة البرج الخارجي الذي هدمه قلاوون خلال تحريرها، ثم أعاد بناءه





الأسوار الشرقية لقلعة صلاح الدين





البرج الداخلي في قلعة المرقب





مدخل قلعة القدموس، من الأجزاء القليلة المتبقية من القلعة القديمة





باب البرج الداخلي في قلعة يحمور





قلعة مصياف





إحدى الباحات الداخلية في القلعة الكبرى في جزيرة أرواد





قلعة الحصن، أفضل قلعة وصلتنا من القرون الوسطى، وتحفة الهندسة العسكرية في العالم





 





من هذه الأسوار في قلعة المرقب قطع الفرنجة الطريق الساحلي على جيش صلاح الدين، فعبره فرداً فرداً





من هنا انتزع النورمانديون الفرنجة 170 ألف طن من الصخور لتعميق الخندق العازل لقلعة صلاح الدين. تاركين هذه المسلة العملاقة لتحمل في أعلاها جسر العبور الوحيد إلى داخل القلعة





برج صافيتا، أهم ما بقي من القلعة التي أقيمت لحراسة سهل البقيعة بالاشتراك مع قلعة الحصن وقلعة العريمة





عمود بيزنطي في مدخل قلعة مصياف يؤكد جذور بعض القلاع الضاربة في عمق الزمن





لوحة فسيفساء يونانية عثر عليها في جزيرة أرواد ولا تزال محفوظة في قلعتها