أوربا وقدموس أسطورة تجمع الشعوب

أوربا وقدموس أسطورة تجمع الشعوب

تؤكد الأساطير - إلى جانب الأديان التوحيديّة والحضارات القديمة - عراقة منطقتنا العربية ومكانتها الوسطى بين الجغرافيا والتاريخ، والروح والمادة، والفرد والجماعة والإنسان والإنسانية، والأسطورة والواقع المعيش.

والأسطورة هي بنية خيالية - واقعية، متزامنة - متطورة، تتعالى بالحدث التاريخي إلى ذرى خيالية ذات دلالة وحكمة وغاية مُثلى، تعيد إنتاج الحدث على نحو غرائبي إستيطيقي بمنأى عن النزوع العقلي المنطقي - المركزي (Logocratique)- المادي والوضعاني في تفسير الحوادث والعاديات والصوارف. ولعلّ أسطورة «أوربا وقدموس» هي من أكبر الأمثلة على غنى وعراقة منطقتنا.

فأوربا - الأسطورة هي أصل تسمية قارة أوربا، وهي، ما هي إلا حكاية فتاة من بلادنا (المشرق) أبوها اسمه أجينور ابن بوصيدون (صيدا) وأمها حورية اسمها «صور»!

أما قدموس أخ أوربا فهو المعلم الكوني الاكبر، معلم اليونان، و«حامل اللغة الإلهية» (الأبجدية) وناشر الحضارة الفينيقية: الحرف، والفن (صبغة الأرجوان) والعدل والحكمة.

يجيء في حكاية «أوربا» أنه كان في قديم الزمان في فينيقية ملك يدعى أجينور (أبوه بوصيدون إله البحار، وكانت «صور» زوجته حورية من حوريات البحر، تصيدها وتزوجها، وبنى لها على شاطئ البحر مدينة باسمها (مدينة صور) وجعلها عاصمة ملكه. وولدت له الحورية «صور» قدموس، وأوربا (وثمة رواية أخرى تفيد بأن قدموس (ويعني باللغة العربية القادم أو المقدام) هو أخ غير شقيق لأوربا من أبيها أجينور «أشنار» وأمه الملكة تيليفاسا).

وكانت أوربا فتاة جميلة، بهية كالصباح، ناصعة البياض كثلج لبنان، نضرة كسهوله، بضة كزبدة مراعيه، كساها ملكارت، إله صور، وحباها بالظرف، والفطنة والكياسة.

وتزاحم الشبان على عتبة باب قصرها، وكان أبوها يخيب آمالهم الواحد تلو الآخر.

وكانت أوربا قد تعودت منذ طفولتها أن تذهب بعد ظهر كل يوم إلى شاطئ البحر مع ثلة من عذارى صور، فيلعبن هنالك على الشاطئ ويتبردن بماء البحر، حتى إذا أتى المساء عدن إلى منازلهن، وعادت أوربا إلى قصر أبيها.

جوبيتر يترصد أوربا

وذات يوم بينما كانت وأترابها، كعادتهن على شاطئ البحر، كان جوبيتر (زيوس) جالسًا على عرشه الإلهي يراقب الأرض بعينيه من أعالي سمائه، باحثاً عن فتاة ينسى معها ملله لفراش «هيرا» زوجته، وكان مشهورًا بولعه بالحسناوات. ولكنه كان يخشى غيرة هيرا وانتقامها. وكثيراً ما فاجأته مع بنات الأرض، لأنها كانت تراقبه دائمًا، ولعلمها بعدم وفائه، فكان يتستر بالغمام فلا تفطن له إلا بعد أن يكون قضى وطره. وكم من جناية جنى على بنات الأرض وتركهن عرضة لانتقام ربة الأولمب. وقصته والحسناء اليونانية إيّوا شهيرة في الأولمب وعلى الأرض. فقد اختطف هذه الفتاة وباغتته هيرا ملتفًا معها بالغيوم، فلما أحسّ وقع قدميها حوّل إيّوا إلى عجلة، فلم تنطل حيلته على هيرا، فأخذت العجلة وحبستها، غيرةً منها، على رأس جبل، وعهدت بمراقبتها إلى أرغوس ذي المئة عين، فقضت تلك المسكينة أيامًا ملؤها الشكوى والعذاب. إلى أن حنّ قلب جوبيتر وشاء إنقاذها، وأوكل هذه المهمة إلى مركور رسول الإلهة! فبعثه جوبيتر إلى الأرض فنوّم بنغمات شبّابته (الناي) عيون أرغوس عينًا عينًا. ثم قتله وأنقذ إيّوا فعادت إلى جسمها الإنساني، وسكتت هيرا على مضض ولكنها حوّلت أرغوس إلى طاووس وجعلت عيونه دوائر على ذنبه ملوّنة بألوان قوس السحاب.

وثمة مئات من بنات الإنس أوقع بهن ربّ الأولمب، ثم تركهن إما خشية من هيرا أو لافتتانه بأخريات من جنسهن.

وفي ذلك النهار كان قد مرّ عليه زمن طويل لم يقم علاقة مع أنسيّة، فتظاهر وأظهر لهيرا أنه تاب إلا عن حبها، فصدّقته أو تظاهرت بتصديقه. ولكن هل يمكن خداع المرأة في شئون الحب؟ وحين غفلت عنه شعر بنعمة الحرية، مجددًا، وجعل يرصد الأرض حتى وقعت عيناه على جبل قريب من صور، انتشر فوقه قطيع من الثيران لملك تلك المدينة. وتذكر الحكاية أن لهذا الملك ابنةً آيةً في الجمال، وكان جوبيتر يلمحها بعد ظهر كل يوم على رمال الشاطئ فلا يأبه لها. فأدار عينيه صوبها فإذا بها تشعّ في الشمس كالماسة، فخفق فؤاده، وقال في نفسه: مادامت هيرا غافلة عني فلأنحدر إلى أرض صور واختطف هذه اللؤلؤة السنية، وأذهب بها إلى حيث لا تراني عين ولا تسمعني أذن.

ولكنه تردد هنيهة عن النزول إلى الأرض ليبتدع حيلة يتمكن بها من الدنوّ من «أوربا»: فأنارَت له مخيلته السبيل إلى الحيلة، فدعا اليه ولده مركور وأمره بالهبوط إلى صور، والجبل المجاور لها ليسوق قطيعًا من الثيران يرعى العشب الاخضر، إلى شاطئ البحر.

وعلى التو انتعل مركور نعليه الذهبيتين المجنحتين اللتين تمسكانه في الهواء وتطيران به فوق الأرض وفوق البحار بسرعة الريح، وحمل بيمينه عصاه الذهبية التي يقود بهما الطيوف الشاحبة من ظلمات الجحيم إلى أضواء السماء، أو يقودهم إلى تلك الظلمات المحزنة، وبهذه العصا كان يفتح العيون التي أطبقها الموت ويتسلط على الرياح ويجتاز العواصف. هكذا انحدر مركور من الأعلى كالشهاب اللامع، وإذا بالثيران تتزاحم نحو الشاطئ حيث تلعب بنت الملك والبنات الصوريات. فلما أبصرهن جوبيتر تزيّا بزيّ ثور ابيض ذي قرون مذهّبة مزينة بحجارة كريمة، ونزل على سحابة بيضاء إلى الشاطئ الصوري واختلط بالثيران السود يخور خوارهم ويرعى مرعاهم، ويتخطر معهم على رمال الشاطئ. وأبصرته أوربا فأدهشها أن ترى بين ثيران أبيها السود ثوراً في هذا البياض وهذا الجمال وهذه الوداعة! ولكنها على لطفه وجماله وسكينته الظاهرة لم تجسر أن تلمسه. فأوحى جوبيتر إليها أن تدنو منه وتداعبه، فدنت وقدمت له أزهارًا بيضاء، فذفذف سرورًا ولمعت عيناه غبطة ولحس يدها، قبلةٌ خفيفة بثّ بها لواعج فؤاده. ثم جعل يزاحمها بكتفه، ويتقافز على العشب الأخضر قفزات الغنج والدلال، أو ينبطح متقلبًا على الرمال الحمراء، فتضحك أوربا ببراءة. فتشجع وعرض عليها صدره فدغدغته بيدها الناعمة، ولما رآها استأنست به وارتاح قلبها إليه حوّل ظهره نحوها يدعوها دعوة صامتة إلى امتطائه. وكانت أوربا فتاة لعوبًا، فقفزت على ظهره وطفق يمشي بها متمهلاً ويترك اليابسة خطوة خطوة، وهي تلتفت إلى رفيقاتها مزهوة ضاحكة، حتى غمرت المياه قوائمه فسبح مبتعدًا إلى صدر البحر. فارتعشت أوربا رعشة الذعر، وتلفتت نحو الشاطئ البعيد. وكانت الريح تعبث بثوبها الأرجوراني الهفهاف فخشيت أن تسقط في لجة اليم، فأمسكت بيمناها أحد قرنيه واستندت بيسراها إلى ردفه، وحاولت أن تديره نحو الشاطئ ليعود بها - ولكن هيهات -. ولمّا غاب الشاطئ عن ناظريها دبّ الرعب في قلبها وصاحت تستغيث جوبيتر. وإذا بالثور يخلع عنه ثوب الثور ويبدو في ثوب من النور وهو يقول، هآنذا من تدعين! فلبيك. لا تخافي وإنما تيهي جمالاً ودلالاً، أليس من العزة والسؤدد أن تسترقي رب الأولمب وتجعليه مطية لك؟ ثم حملها إلى جزيرة كريت، وتزوجها تحت شجرة دلب خلدت عليها أوراقها منذ ذلك اليوم فهي لا تيبس ولا تسقط قط.

ووقفت عذارى صور مأخوذات دهشةً ورعبًا حينما رأين الثور الأبيض يحمل أوربا ويسير بها في البحر، ولبثن متوقعات أن يعود بها، حتى هبط الظلام وهبّت أنسام الليل الباردة، فعدن إلى بيوتهن يكتّمن حزنهن خشية من الملك الذي كان شديد التعلق بابنته.

أوربا المفقودة

سكن الليل وأظلم، وأوربا لم ترجع إلى قصر أبيها فتبلبل القصر ورُيعت نساؤه ورفعن الصوت معولات باكيات. فسمع الملك صيحتهن فأقبل مبغوتًا يتقصى الخبر. ولما علم بغيبة ابنته صُعق. وما ثاب إلى نفسه حتى بادر بإرسال العبيد والإماء يجوسون بمشاعلهم شاطئ البحر وأنحاء المدينة لعلهم يرون لها أثرًا أو يعرفون خبرًا. وكان قدموس يعرف أتراب أخته، وكثيرًا ما كان يغازلهن ويلاطفهن، فأسرع اليهن يستطلعهن أمرها، فأخبرنه بما كان من الثور الأبيض. ولم تكن حيل جوبيتر في خطف الإنسيات بخافية على أحد، فأدرك قدموس سرّ فقدان أُخته وعاد إلى أبيه بالخبر اليقين. وبعد بحث طويل لقي قدموس شقيقته، وكانت قد تزوجت من الإله زيوس وأنجبت منه ثلاثة بنين هم أومينوس وسربيدون ورادمنتي الذين أصبحوا في ما بعد من كبار الفاتحين.

قدموس (المقدام)

حين أبحر قدموس إلى جزيرة رودس باحثًا عن أخته أوربا، بنى هناك هيكلاً على اسم الإله بوصيدون، ثم تابع مسيرته نحو بلاد اليونان للبحث عن أخته التي أمره والده ألا يعود من دونها، وعبثًا سعى إلى تحقيق رغبة أبيه، حتى أنه استشار العرافة دلفي فنصحته أن يتخلى عن تلك المهمة الشائكة، وأن يتبع بقرة على خاصرتها صورة هلال، وطلبت منه أن يقيم حيث ترقد البقرة، فنفذ الأمر وتبع البقرة حتى تعبت ورقدت فأقام هناك مدينة طيبة. وحين أراد أن يقدم البقرة قربانًا للآلهة اكتشف أن النبع الذي يجب أن يحمل منه ماء القربان يحميه تنين هائل فقتله، وأمرته الآلهة أثينا أن يبذر أسنان التنين ففعل ونشأ منها مسلحون تقاتلوا في ما بينهم ما عدا خمسة أفراد منهم أعانوه على إنشاء المدينة وأصبحوا أسلاف أهلها، وتزوج قدموس هارمونيا (بنت آريس وزوجته أفروديت) وحكم طيبة بالعدل والحكمة، وعلّم أهلها الأبجدية الفينيقية.

لقد علّم قدموس اليونان الحروف الأبجدية الكتابية، فانتقلت في ما بعد، من بلاد اليونان إلى أوربا، التي أُطلق عليها اسم شقيقته «أوربا» (وأوربا تعني الغرب) وهذا ما يفسر كون اللغات الأوربية اللاتينية والجرمانية - السكسكونية تعود بجذورها إلى الحروف الأبجدية الفينيقية التي دعاها اليونان (فينيقيا غرامات) أو القواعد الفينيقية.

يقول المؤرخ اليوناني هيرودتس في الكتاب الخامس من تاريخه: والآن نذكر الفينيقيين الذين جاءوا مع قدموس فقد أدخلوا معهم إلى اليونان صناعات كثيرة منوّعة منها: صناعة الكتابة التي كان يجهلها اليونان قبل ذلك، فنقلوا حروفهم أولاً على مثال الحروف الفينيقية مع تعديل قليل في رسم بعضها، ومازالوا حتى الآن يسمونها بالفينيقية إنصافاً لمن نقلها إليهم. ويشير هيرودتس إلى أنه شاهد بنفسه كتابة بالحروف القدموسية محفورة على بعض القوائم المثلثة في معبد أبولون إسميناس (لاحظ عبارة إسميناس وقربها من عبارة «اسم») وعلى أحدها هذه العبارة «شيدني أمختريون في عهد قدموس». وقول هيرودتس أن قدموس لم يكتفِ بتعليم اليونان الأبجدية بل بنى المدن مثل إسبارطة وطيبة وكورنثياو، إكرامًا لهارمونيا الصبية الجميلة التي أحبها وتزوجها (ومن اسمها اشتقت كلمة التناسق «الهارمونية»).

ظهرت لقدموس صور قليلة على بعض الأواني اليونانية والمرايا، منها صورة تمثله وهو يهمّ بقتل التنين.

ومن أقدم الأعمال التشكيلية المتعلقة بأسطورة «أوربا» لوحة موزاييك موجودة في المتحف الوطني في لبنان - بيروت، تمثل أوربا على ظهر الثور «زفس» أو «زوس» (جوبيتر) وهي لوحة جامدة في تعبيرها وبالكاد تبدو فيها أوربا جزعة أو خائفة.

أما الفنان الإيطالي تتسيانو فقد أظهر «أوربا» في لوحة تتجلّى فيها تعابير الجزع والخوف وهو الأمر الذي لم تُظهره اللوحة الأولى.

وتتسيانو (1488 - 1576) كان من رواد المصورين في عصر النهضة الإيطالية، وكان مؤمنًا بأن التصوير إلى جانب إشباعه الذوق والعقل بالأشكال المتساوقة يمكنه أيضًا الإيحاء بالمعاني، حيث لم يعد الهدف الأساسي للتصوير يقتصر على تمثيل أحجام يدركها العقل (عقلانية) كما هي الحال في الفن الكلاسيكي (المعياري)، بل لجأ إلى استعمال واستغلال ريشته ومهارته في التلاعب بالعجائن اللونية من خلال لغة الألوان وحركة الفرشاة.

أما باولو فيرونزيني (نسبة إلى مدينة فيرونا الإيطالية 1548 - 1588)، وهو فنان من فناني المرحلة المتأخرة من عصر النهضة فقد اعتمد في تصويره على الألوان الناعمة والأشكال الأنيقة والزخرفة المعمارية، كما تظهر هذه العناصر في لوحة اختطاف أوربا (متحف الكابيتول في إيطاليا).

جميل قاسم 





خريطة أوربا التي اشتقت اسمها من اسطورة قديمة





الإله جوبيتر أو زيوس متنكرا في هيئة ثور وهو يحمل أوربا على ظهره كما تروي الأسطورة اليونانية





قدموس والأبجدية لوحة حديثة عن اسطورة قديمة