إدوارد سعيد المنفى.. الوطن.. العودة المستحيلة

إدوارد سعيد المنفى.. الوطن.. العودة المستحيلة

تشكّل قضية تخيّل الأوطان، والأمكنة الأولى، وما يتصّل بذلك من حنين وشقاء، البؤرة المركزية لأدب المنفى، فثمة تزاحم بين الأوطان والمنافي في التخيلات السردية، التي يكتبها المنفيون. ولكن مَن هو المنفي الذي ينتدب نفسه لهذه المهمة، أو يُجبر عليها، فيخوض غمارها؟

يُعرف المنفيّ بأنه الإنسان المنشطر بين حال من الحنين الهوسي إلى المكان الأول، وعدم القدرة على اتخاذ القرار بالعودة إليه، وينتج هذا الوضع إحساسًا مفرطًا بالشقاء لا يدركه إلا المنفيون الذين فارقوا أوطانهم، ومكثوا طويلاً مبعدين عنه، فاقتُلعوا عن جذورهم الأصلية، وأخفقوا في مدّ جذورهم في الأمكنة البديلة. فخيّم عليهم وجوم الاغتراب، والشعور المريع بالحس التراجيدي لمصائرهم الشخصية، إذ عطبت أعماقهم جرّاء ذلك التمزق، والتصدّع، وقد دفع الحنين إلى المكان الأول رغبة عارمة لاستدعاء الذكريات الممزوجة بالتخيلات، فالمنفيّ، وقد افتقد بوصلته الموجهة، يستعيد مكانًا على سبيل الافتراض ليجعل منه مركزًا لذاته، ومحورًا لوجوده، فيلوذ بالوهم الحالم بحثًا عن توازن مفقود. فهو يحكم سيطرته على المكان المفقود عبر سيل من الذكريات المتدافعة في سعي للعثور على معنى لحياته، فيغيب المنفى مكانًا يعيش فيه الآن، ويحضر الوطن زمانًا كان فيه من قبل. وفي اللغة العربية تحيل مشتقات الفعل «نفى» على دلالة واحدة مترابطة الأطراف، هي: الإبعاد، والتنحية، والطرد، والإخراج، والتغريب، والذهاب، والانتفاء، والانعدام. وجميعها تؤكد حال الانبتات، والانقطاع، والاجتثاث، وعدم المُكنة على التواصل، والعجز عنه.

المنفى.. القدر

وقد شغل هذا الموضوع «إدوارد سعيد» فتطرّق إلى بواعث النفي، وآثاره: «المنفى هو أحد أكثر الأقدار مدعاة للكآبة، لأنه لم يكن يعني فقط أعوامًا يعيشها الإنسان تائهًا دون هدف، بعيدًا عن الأسرة وعن الأمكنة المألوفة، بل يعني أن يكون أشبه بمنبوذ دائم لا يشعر أبدًا بأنه بين أهله وخلاّنه، ولا يتفق البتة مع محيطه، ولا يتعزّى عن الماضي، ولا يذيقه الحاضر والمستقبل إلا طعم المرارة... والمنفي يعيش حالة وسطية، لا ينسجم مع محيطه الجديد، ولا يتخلّص كليًا من عبء البيئة الماضية. تضايقه أنصاف التداخلات، وأنصاف الانفصالات، وهو مصاب بداء الحنين، وعاطفي من ناحية، ومقلّد حاذق، ومنبوذ لا يعلم به أحد، من ناحية أخرى». ثم يستطرد معمّقًا الفكرة: «يُجبر المنفَى المرء على التفكير فيه،

ويا لها من تجربة فظيعة. إنه الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي: فلا يمكن أبدًا التغلّب على ما يولّده من شجن أساسي... فمآثر المنفَى لا يني يقوّضها فقدان شيء ما خلّفه المرء وراءه إلى الأبد».

في سيرته الذاتية «خارج المكان» عرّج «إدوارد سعيد» على ذكر كثير من ذلك، وأول ما يلفت الانتباه حرصه على رسم الأطر العامة التي حدّدت نزوعه ليس في اعتبار كتابة سيرته معادلاً لانهياره الجسدي بسبب مرض السرطان، فحسب، إنما في الوصف المسهب للنزوح المكاني المتواصل، والإزاحات اللغوية التي سبّبتها التجربة الاستعمارية، ثم تأثير كل ذلك في صوغ علاقته بنفسه، وبأسرته، وبالأمكنة المفقودة. وفي جميع ذلك ظهر سعيد منقسمًا على نفسه بين قوة مستترة، وضعف معلن، فلا هو قادر على الإفصاح عن قوته الجوانية - وهو ما يقع الاحتفاظ به عادة في السير الذاتية - ولا هو متمكّن من ستر الوهن العميق الذي يجتاح أعماقه - وهو ما يجري غالبًا طمسه في الكتابة السيرية - فكل قوة طبيعية في داخله كبحها ضغط خارجي فرضته التربية العائلية الصارمة، ولم تُتح له فرص التفتّح والمشاركة، إنما الانكفاء على الذات، وتكبيل الرغبات. وبمرور الزمن فإن كلّ ضعف تسببت فيه تلك التربية استُبدل بقوة خارجية أمكن تحويرها لتحرّر سعيد المثقف من هشاشته الداخلية المرتبكة، وتجعل منه شخصية ثقافية وأكاديمية صلبة، وحادة، وعنيفة، وسجالية في مواقفها وأفكارها. إلى كل ذلك كشفت سيرته طبيعة الصلة المعقّدة بين المنفَى والكتابة، وموقع المنفيّ فيهما، ونوع التصدّعات الجوّانية التي لحقت به جرّاء كل ذلك.

مفتاح السيرة

يكمن مفتاح هذه السيرة في محفِّزها الأساسي، وتمثله العلاقة الافتراضية التي ربطته بـ «جوزيف كونراد» وهي علاقة مماثلة، وربما مطابقة، ظل سعيد يحيل عليها، بكثير من الاحتفاء، والإصرار، والتكرار، وإليها أرجع موقعه في الثقافة، بل ورؤيته للعالم، وصلته باللغة بوصفها أداة تمثيل وتعبير.

انزياح الهوية

وعلى هذه الخلفية من الشعور المتفاقم بالفقدان، وكون المرء عالقًا في منطقة ينتمي / ولا ينتمي فيها إلى أمكنة وثقافات متعددة، تتنزل سيرته الذاتية، فتثير إحدى أهم المشكلات الخاصة بكتابة المنفى، قصدت بذلك العلاقة مع المكان من وجهة نظر المنفيّ، وكيفية تشكيل الهوية الشخصية المنزاحة لرجل يقيم علاقة هشّة معه، فهو لم يدخر جهدًا في تصوير علاقته الواهنة بالأمكنة، وتوسيع دلالتها ليجعل منها فضاءات ثقافية، مصوّرًا نفسه عالقًا بينها، ومن خلال ذلك ينزلق إلى المنطقة الجوهرية في أي سيرة ذاتية، وهي تكوين الذات في وسط أسري واجتماعي قلق ضمن حقبة تاريخية متقلّبة جعلت المصيرين العائلي والاجتماعي في وضع متأرجح بين المنفى كمكان غير محدد الملامح، وفقدان الوطن، والتفكّك الذي مثّله غياب الداعمين الأساسيين له، وهما الأب والأم، ثم تجربة المرض بالسرطان، وهي التي فرضت الشروع بكتابة السيرة، وحددت شروطها، وكل ذلك جعل من كتاب «خارج المكان» كما يقول مؤلفه، عبارة عن «سجل لعالم مفقود أو منسي».

أولى الصعاب التي تواجه شخصًا اتصل بأمكنة ولغات متعددة، وانفصل عنها، في وقت واحد، هو الموقع الذي ينظر من خلاله إلى تجربة حياته الآفلة، وإلى تجارب الآخرين المحيطين به، فقد شرع سعيد في كتابة السيرة وهو في أمريكا يكافح مرضًا لا سبيل للنجاة منه، عن حياته طفلاً وصبيًا وشابًا قبل أكثر من خمسين سنة في فلسطين ومصر، وما كان يثيره ويشغله، في الوقت نفسه، بوصفه كاتبًا تتناهبه مؤثرات المكان واللغة «هو إحساسي بأني أحاول دائمًا ترجمة التجارب التي عشتها لا في بيئة نائية فحسب، وإنما أيضًا في لغة مختلفة.

ذلك أن كلاً منّا يعيش حياته في لغة معينة، ومن هنا فإن الكل يختبر تجاربه ويستوعبها ويستعيدها في تلك اللغة بالذات. والانفصام الكبير في حياتي هو ذلك الانفصام بين اللغة العربية، لغتي الأم، وبين اللغة الإنجليزية، وهي اللغة التي بها تعلّمت وعبّرت تاليًا بما أنا باحث ومعلّم. لذا كانت محاولتي سرد التجارب التي عشتها في اللغة الأولى بواسطة اللغة الأخرى مهمّة معقدة، فضلا عن الطرائق المختلفة التي بها تختلط علي اللغتان وتعبران من حقل إلى آخر، إلى جانب اللغة، كانت الجغرافية في مركز ذكرياتي عن تلك السنوات الأولى، خصوصًا جغرافية الارتحال، من مغادرة ووصول ووداع ومنفى وشوق وحنين إلى الوطن وانتماء، فضلا عن السفر ذاته. فكل واحد من الأمكنة التي عشت فيها - القدس، والقاهرة، ولبنان، والولايات المتحدة - يملك شبكة كثيفة ومركّبة من العناصر الجاذبة، شكّلت جزءًا عضويًا من عملية نموّي، واكتسابي هويتي، وتكوين وعيي لنفسي وللآخرين».

هذا الموقع المنزلق دائمًا خارج أي مكان انعكس أثره مباشرة في التوتر الذي يشوب السيرة بكاملها، إلى ذلك فقد كتب النصّ في ظل مرض عضال لا سبيل إلى وقف زحفه، فسعيد يربط كتابه بمرضه. فقد كانت الكتابة «الوسيلة الوحيدة التي أفسّر بها لنفسي وللقارئ مدى ارتباط زمن هذا الكتاب بزمن مرضي، بحقباته، وطلعاته، ونزلاته، وتقلّباته كافة. فمع تزايد ضعفي، وتكاثر الالتهابات وطفرات الآثار الجانبية للمرض، ازداد اتّكالي على هذا الكتاب وسيلة أبتني بها لنفسي شيئًا ما بواسطة النثر، في ما أنا أعارك في حياتي الجسمانية والعاطفية هواجس التدهور وآلامه. وقد انحلّت المهمتان إلى مجموعة من التفاصيل: فالكتابة انتقال من كلمة إلى كلمة، ومكابدة المرض اجتياز لخطوات متناهية القصر تنقلك من حالة إلى أخرى، والغريب في الأمر أن كتابة هذه السيرة ومراحل مرضي تتزامنان تمامًا، مع أن معظم آثار تلك الأخيرة قد إنمحت من هذه السيرة عن حياتي المبكرة، وعلى الرغم من ذلك، فسجل حياتي ذلك ومسار مرضي هذا (الذي عرفت منذ البداية أن لا شفاء منه) هما كل واحد، بل يمكن أن يقال إنهما متماثلان ومختلفان قصدًا».

الأبوة والأمومة

رسم سعيد المحضن التربوي الأبوي الذي اختلق شخصيته، وهو محضن خرّب البراءة الأولى، وشتّت السوّية الطفولية، حينما أخضعها لمعايير أبوية معدّة سلفًا، فلم يكن المهم أن ينمو طفلاً على البداهة، ويتفتّح مكتسبًا خبراته بالتدريج من الوسط الأسري والاجتماعي، إنما ينبغي عليه أن ينمو ممتثلاً لشروط تلك المعايير الجاهزة، وما كان مهما أن تنمو له شخصية خاصة، إنما أن ينصاع إلى سلسلة لا نهائية من الروادع والنواهي. وبهذه الطريقة اختُرعت شخصيته، وتحدّدت علاقته بالأمكنة التي عاش فيها.

وما برح سعيد يفكك الأطر التربوية الناظمة لحياته، والنتائج التي ترتبت عليها، ليعيد تشكيل طفولته وشبابه وعلاقته بالمكان، وهو أمر ظل يتردد في تضاعيف السيرة، وسيقودنا إلى علاقته الملتبسة بأبيه وأمه، فكما تبلبل وسط تنازغات مكانية وثقافية في حياته العامة، فقد عرف التنازع نفسه في أسرته طوال فترة وجوده معها. ويبدو تأثير الأب والأم عميقًا في حياته، وهو تأثير متناقض، ولا يعرف الاستقامة، فلم يخالجه إحساس بالبهجة في علاقته بأبيه «مهما تكن الوقائع التاريخية الفعلية، يبقى أن أبي كان مزيجًا طاغيًا من القوة والسلطان، ومن الانضباط العقلاني والعواطف المكتومة. وقد أدركت لاحقًا أن هذه جميعًا قد طبعت حياتي ببعض الآثار الإيجابية، ولكنها لم تعفني من الكوابح والمعوقات. ومع تقدمي في العمر، توصّلت إلى تحقيق التوازن بينها، على أني عشت محكومًا بها من الطفولة حتى سن العشرين. فقد بنى لنا أبي، بمساعدة أمي، عالمًا كان أشبه بشرنقة جبارة أدخلت إليها، وحبست فيها بكلفة باهظة، أو هكذا أرى الآن إلى تلك التجربة إذ أستعيدها بعد نصف قرن. وما يثير دهشتي الآن، إضافة إلى صمودي، هو نجاحي، بطريقة ما، خلال أداء عقوبتي داخل ذلك النظام، في أن أربط بين مصادر القوة الكامنة في تعاليم أبي الأساسية وبين قدراتي الشخصية التي عجز هو عن التأثير فيها، وربما عجز أيضًا عن إدراكها».

ويشرح سعيد ذلك بقوله «هيمنت قوة أبي المعنوية والجسدية على طفولتي ونشأتي. كان له ظهر ضخم وصدر برميلي نافر، يوحي بالعصيان، بالرغم من قصر قامته، ويوحي بالثقة الطاغية، بالنسبة إليّ على الأقل. على أن أبرز صفاته الجسدية مشيته المتيبسة كقضيب، والمنتصبة على نحو يكاد أن يكون كاريكاتوريًا. إلى هذا، وبالمقارنة مع جبني وخجلي الانكماشيين والعصابيين، كان يتمتّع بنوع من التيه يناقضني تناقضًا صارخًا، إذ لا يبدو أنه يخشى اقتحام أي مكان أو الإقدام علي أي فعل - وهما أكثر ما أخشاه. ولم يقتصر الأمر على أني لم أكن مقدامًا.. وإنما كنت أتحاشى جدّيًا نظر الناس لشدّة تحسسي لنواقصي الجسمانية اللامتناهية، وأنا مقتنع تمام الاقتناع بأنها جميعًا انعكاس لنواقصي الجوانية». واضح أن الأبوّة تتجسّد بالقوة المظهرية الخارجية، فيما البنوّة يعبّر عنها بالهشاشة الشعورية الداخلية. فحينما نقوم بتنضيد صفات الاثنتين، نجد أن الأبوّة تتمثل بالضخامة، والنفور، والعصيان، والطغيان، والانتصاب، والتيه، والإقدام، والاقتحام، أما البنوّة فمكوناتها الشعور الانكماشي بالجبن والخجل إلى درجة العصاب.

وفي مقابل هذا الهشيم الداخلي الذي خلفه الأب في أعماق سعيد، تظهر الأم بوجه مغاير، لكنه مزيج من الحب، والحبور، والكبح، والغموض «المؤكد أن أمي كانت الرفيق الأقرب إليّ والأكثر حميمية خلال ربع قرن من حياتي. وأشعر أني مطبوع بالعديد من وجهات نظرها وعاداتها التي لاتزال تسيّر حياتي: من قلق يشلٌّ إرادتها إزاء احتمالات التصرّف، إلى أرق مزمن، معظمه فرضته على نفسها فرضًا، وعدم استقرار عميق الجذور يضارعه مخزون لا ينضب من الحيوية الذهنية والجسدية، واهتمام عميق بالموسيقى واللغة وبجماليات المظهر والأسلوب والشكل، وربما أيضًا من ميل متضخم إلى الحياة الاجتماعية بتياراتها وملذاتها وما تحمله من طاقة على السعادة والحزن، ونزوع لا يرتوي - ومتعدّد الأساليب إلى حدّ لا يصدق - إلى تنمية الوحدة بما هي شكل من أشكال الحرية والعذاب في آن معًا. ولو أن أمي كانت مجرد ملجأ، أو مأوى آمن، أفيء إليه بين حين وآخر هربًا من مرور الأيام، لما استطعت التكهّن بالنتائج، إلا أنها كانت تحمل أعمق الالتباسات التي عرفتُها وأكثرها إشكالاً تجاه العالم وتجاهي أنا شخصيًا. فعلى الرغم من الألفة بيننا، كانت تطالبني بالحب والتفاني وتعيدهما إليّ أضعافًا مضاعفة. على أنها قد تصدّ مشاعري فجأة، باعثة رعبًا ميتافيزيقيًا في أوصالي لاأزال أتمثّله بانزعاج شديد، بل برهبة قوية. فبين ابتسامة أمي المقوّية وعبوسها البارد أو تكشيرتها المتعالية المديدة، وُجدت طفلاً سعيدًا وعظيم اليأس في آن معًا، فلم أكن هذا أو ذاك على نحو كامل».

توضع الأمومة في تعارض تام مع الأبوّة، وتوضع في مقام الغموض مع البنوّة، فلقد رأينا كيف أن الأبوّة لم تكف عن التعبير عن نفسها بشكل مباشر قصد أن تكون أنموذجًا يحتذى في العلاقة التبعية بين الأب والابن، فلكي يكون سعيد طفلاً بارّا عليه تبنّي مبدأ محاكاة الأب في سلوكه العام، وهو سلوك يخرّب هدفه بنفسه، إذ لا تستقيم تربية في ظل الهيمنة، ولا يتكوّن استقلال بوجود التبعية، وكل ذلك أدى إلى نتائج تخالف مقاصد الأبوية، إذ تكرّست الهشاشة الجوانية، وكل ضروب الانكسار الداخلي المرافق لها من تردّد، وخوف، وخجل، وعجز. لم يتحقّق مقصد الأبوة لأن مضمون المحاكاة كان ينزع إلى التقليد الأعمى، وليس التمرّس على مواجهة الصعاب. على أن الأمومة لم تكن أقل ضررًا من الأبوّة في نزوعها الجارف إلى زرع خصال لا تقل خطرًا، فبتعارض مع صورة الأب الواضحة جرى بناء صورة الأم الغامضة، التي كانت تريد لطفلها أن يتشرّب مبدأ المحاكاة نفسه، ولكن بمضامين مختلفة، إذ غذّت صغيرها بنظام صارم من العادات الشخصية تبدأ من الحيرة، والسُّهاد، والقلق، مرورًا بشغف مبالغ فيه بالجماليات الشخصية والتعبيرية، والمظاهر الخادعة، وانتهاء بالعزلة المعذّبة. ثم، وهذا هو اللبّ الخطير في الأمر كله، جمع كل ذلك ورمى الطفل باعتباره حنانًا أمويًا صادقًا، وحينما يتوهم ذلك ببراءة، ويرغب في التفاعل معه، لا يجد إلا صدًا، وعبوسًا، فقد كان يتطلع إلى المشاركة، لكن مشاعره تُردّ، وتُرفض، وتُكبح، فيقع في المنطقة المعتمة بين السعادة واليأس، والأمل والقنوط. فمن الصعب أن تغدق على طفل بمشاعر خاصة، ثم تفيض عليه بأحاسيس متضاربة، وتحول دون مشاركته، وهذا النمط المقترح من العلاقة الأمومية، أفضى إلى تبعية أخرى مغايرة لتبعية الأب، وأكثر خطرًا منها.

الإمبراطورة.. والمستعمرات

التفضيل على أساس الطاعة ثم النبذ على قاعدة عدم الرضا، وخلق بؤرة استقطاب أمومية ينجذب إليها الأطفال، بمقدار ولائهم للأم، وليس استنادًا إلى مراعاتها لاستقلالهم النسبي الكامن في ذواتهم الصغيرة، جعل سعيد يضع أمه في مرتبة الإمبراطورية المستعمرة، وجعل نفسه وشقيقاته في مرتبة المستعمرات التابعة التي لا حول لها ولا قوة، وقد عجزوا عن فهم هذه العلاقة المدارية حول قطب لا يتيح لهم انجذابًا كاملاً إليه إلى درجة التماهي، ولا يمكّنهم من التحرر عنه، وتكوين هوياتهم الخاصة، فهم منخرطون في مدار مغلق حول مركز يتلاعب بهم بمزيج من التقريب والإبعاد. وهو أمر ظل عصيًا على فهم سعيد إلى النهاية. ولطالما ظل يحوم حول علاقته بأمه في تضاعيف الكتاب دون أن يحسم طبيعة تلك العلاقة بصورة نهائية، فيما كان قد أصدر حكمًا حول طبيعة العلاقة مع الأب. فبدأ وكأن الأب صاغ جسده، وعالمه الخارجي، بينما صاغت الأم نفسه، وعالمه الداخلي. لم تستقم علاقة سعيد، لا مع جسده ولا مع نفسه، وكان برمًا بجسده ذي الحاجات الغامضة الذي لم يزوّد بأي معلومات عن وظائفها، ففي ظل رقابة الأب كان جسده ينمو بعيدًا عن الشروط المعيارية التي افترضتها الأبوّة، فبدا له وكأن جسده مدوّنة عار ينبغي أن يخفيها عن الآخرين، ويمحو عنها كل العيوب، ولازمه أيضًا سأم وضجر من أحاسيسه ومشاعره، فبدت بطانته الروحية شاحبة، وشبه جرداء من التجارب، وفيها من التشويه والعجز ما يحول دون أن يعدّ نفسه سويًا، إذ وسمته الأمومة الغامضة بسلوك ملتو لم يفصح عن مقاصده.

وفي النهاية رسم سعيد للمتلقّي كمًا كبيرًا من الصياغات الأبوية والأمومية المتواصلة لكينونته الخارجية والداخلية، ما أدّت قط إلى تحقيق غاياتها، بل تحقق عكس ذلك، فلا هو بالمستقر الثابت في مكانه، ولا هو بالمنجرف إلى الهاوية، بل ظل متأرجحًا بين هذا وذاك، فيهما وخارجهما في الوقت عينه: «كان أبي هو الذي بادر تدريجيًا إلى محاولة إصلاح جسدي، بل وإعادة تكوينه من الأساس. على أن أمي نادرًا ما اعترضت على ذلك، بل أخذت تدور بجسدي بانتظام من طبيب إلى آخر. وإذا استنكر وعيي لجسدي منذ سن الثامنة فصاعدًا، أراه منسجمًا في نظام صارم من التصحيحات المتكررة، تمّت كلها بأمر من أهلي، وأدى معظمها إلى تفاقم نقمتي على ذاتي، ذلك أن «إدوارد» كان قد حلّ في كيان بشع مشوّه يشكو من كل العلل أو يكاد».

المنفى وثنائية الرفعة والدونية

حُجز سعيد خلف جدران عالية أخذت بها أسرة متوسطة الحال تنتمي إلى أقلية شامية مهاجرة لم تتوافر لها ظروف الاندماج بالمجتمع المصري، وظلت علاقتها مضطربة بكل من السكان الأصليين، والإدارة الاستعمارية، والشوام أقلية ظهرت في مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر، وتكاثرت في نصفه الثاني، ولكنها بقيت خارج المجال الأهلي المتماسك، ونُطر إليها باعتبارها داعمة للاستعمار، فيما لم تنظر إليها الإدارة الاستعمارية إلا بوصفها جزءًا من تشكيل الأقليات الأجنبية. والحال أنها كانت أكثر قربًا من الناحية الذهنية للأقليات الأجنبية منها للمصريين، وشكّل الشاميون في مصر عالمًا خاصًا غلّفه حسّ عميق بالاغتراب، والعزوف عن الاندماج، والشعور بدرجة من التعالي، بسبب الهجنة التي جعلتهم في منتصف الطريق بين الأجانب الغربيين والأهالي، فذاكرة تلك الأقلية تستمد وجودها من الأصول الشامية، ولكن جودها منشبك بالمصالح الغربية. وهذا الوضع غير المستقر جعلها أسيرة نوع من الانكفاء الحذر على الذات. وقد ارتسم كل ذلك بوضوح في عائلة سعيد التي تجنّبت الاندماج الاجتماعي باعتبارها ليست مصرية، إنما تحمل الجنسية الأمريكية، وتتلقى تعليمها في المدارس الأجنبية التي تعتمد التعليم الكولونيالي حيث يلقّن الطلبة معلومات عن الأمجاد البريطانية في منأى عن الاهتمام بالبيئة المحلية، فزاد كل ذلك من انقسام سعيد على نفسه، ففي أعماقه كان يشعر بأنه عربي بصورة أو بأخرى، لكن نظام العلاقات، والمصالح، في العائلة، والمدرسة، والمجتمع، حال دون الاعتراف بذلك، بل، وربما التنكّر له.

وفي ظل أوضاع متشابكة من الانتماء الأسري لأقلية وافدة، وتعليم كولونيالي منقطع عن سياق المجتمع المصري، وقع إغراء مزدوج لزرع فكرة الرفعة في أعماقه، وفصله عن الحاضنة الاجتماعية، تجاه المصريين، من جانب، وفكرة الدونية والاستصغار تجاه الأقليات الأوربية في مصر، وبخاصة الإنجليزية الممثلة للإدارة الاستعمارية، من جانب آخر، فحينما نهره «بيلليه» المشرف الإنجليزي على «نادي الجزيرة» لأنه مرّ بجوار مبنى النادي - وكان سعيد عضوًا فيه - قائلاً له «يا ولد غادر المكان، وغادره بسرعة، ممنوع على العرب ارتياد هذا المكان، وأنت عربي». علّق سعيد بمرارة «حتى لو لم يسبق أن فكّرت بنفسي بوصفي عربيًا، فقد أدركت مباشرة آنذاك أن معنى النعت مُفقد للأهلية حقًا».

حادثة نادي الجزيرة وضعت سعيد بإزاء حقيقتين كونه عربيًا من جهة، وكونه دون الإنجليز من جهة أخرى. وقد تضارب هذان الإحساسان في داخله، إذ لقّن، من قبل، أنه في مكانة أسمى من المصريين، والآن فوجئ بأنه دون الإنجليز، فما هو موقعه بين جماعة مستعمَرة يرى نفسه أرفع منها، وجماعة مستعمِرة تبين له أنه دونها؟ اخترتُ هذا المثل لفضح ازدواجية الرفعة المفترضة / والدونية المقررة التي جرى تلقين سعيد عليها في سنوات حياته المبكرة. فبإزاء المصريين كان يُلقّن بالرفعة، وبإزاء الإنجليز كان يوحى له بالدونية، فثمة خط أحمر لا ينبغي الاقتراب منه، وبانهيار موقع الأقليات في مصر، وتقويض الإدارة الكولونيالية بثورة 2591 ظهر وكأن سعيدًا قد جُرّد من مقومات القوة التي اكتسبها من مكانة أسرته، وأقليته الشامية، وتعليمه الكولونيالي. لكن الثورة لم تصحح في داخله الشعور المرتبك بالدونية أمام الإنجليز، فذلك من مغذيّات السلوك اليومي والتلقين المدرسي، إنما أفقدت عائلته امتيازاتها كافة، فاضطرت إلى نزوح ثان إلى أمريكا، وهو غير النزوح الأول من فلسطين إلى مصر. وبوصوله إلى أمريكا وجد نفسه يرث المتناقضات كافة التي تربّى عليها، وتعلّمها، فثمة حيرة كاملة في تحديد الهوية، واللغة، والرؤية، والانتماء، والمكان، والمرجعية، والموقع. ومادام سعيد يربض خارج المكان، فالأمكنة التي وردت في سيرته الذاتية ما هي إلا محطات رمزية يتطلّع عبرها إلى الماضي أو المستقبل، فلا غرابة أن يبدو متعثرًا في اختيار لغته، وتحديد موقعه، فتلك حال الشخصيات العابرة نحو المجهول.

 

 

عبدالله إبراهيم 





غلاف الطبعة الانجليزية لكتاب «خارج المكان»





أنا من هنا.. هكذا يصر ادوارد سعيد على ربط طفولته ونشأته بالقدس رغم محاولات اسرائيل اقتلاع المكان من ذاكرته





ادوارد سعيد ولحظة تأمل .. الوطن لم يغادره رغم المنفى





طفولة سعيدة.. هو وشقيقته في بيئة عربية خالصة قبل أن يتبدد الحلم