المدينة هي المستقبل.. ولكن أي مدينة? أحمد أبوزيد

المدينة هي المستقبل.. ولكن أي مدينة?

أصبحت المدن الجديدة في العالم الثالث ظاهرة تسترعي الأنظار وظهرت كتابات كثيرة عما أصبح يعرف باسم (مدن العالم الثالث), ذات الخصائص المميزة, والتي قد تصبح من أهم ملامح مدن المستقبل في معظم أنحاء العالم.

من الحقائق الإيكولوجية البيئية التي تثير اهتمام وقلق أعداد كبيرة من العلماء والكتاب والمفكرين في السنوات الأخيرة, نظرا لتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة, ظاهرة تراجع المناطق الريفية في كل أنحاء العالم أمام زحف الصحراء من ناحية, وزحف التجمعات الحضرية من الناحية الأخرى, بحيث شاع استخدام تعبير (الريف يحتضر) في الكتابات التي تعرض للصورة أو الشكل الذي يحتمل أن يكون عليه مجتمع الغد بوجه عام, ومستقبل المناطق الريفية الشاسعة التي تتعرض لخطر الاندثار أمام زحف الصحاري في معظم دول العالم الثالث, وزحف المدن الجديدة في العالم المتقدم والعالم المتخلف على السواء. ويبدو أن المناطق الريفية والخلوية في العالم الغربي, وكذلك المناطق الصحراوية الهادئة, والتي يمكن الوصول إليها بسهولة في العالم الثالث, أصبحت ذات بريق خاص في نظر الكثيرين, بحيث تجذب إليها أعدادا متزايدة باستمرار للنزوح إليها والإقامة بها إقامة دائمة أو موسمية; ولكن الملاحظ أن هؤلاء النازحين يحملون معهم كل أساليب ووسائل ومظاهر الحياة الحضرية وبذلك قضوا على كثير من ملامح الحياة الريفية الأساسية الأصيلة- مما يعني في آخر الأمر أن هذا الزحف الثنائي يؤدي إلى قيام مناطق سكنية جديدة لا تنتمي إلى أي من النمطين الريفي والحضري بشكل قاطع, وأن القصد منه لم يكن العودة إلى الطبيعة السمحة والقيم التقليدية التي ارتبطت بالحياة الريفية والخلوية طيلة القرون الماضية, وإنما هو الهروب بقدر الإمكان من بعض أبعاد الحياة المميزة للمجتمعات الحضرية والصناعية القائمة على الصراع والتنافس وإثارة القلق, أو الهروب من ظروف الحياة القاسية التي تحيط بالمناطق الريفية وأوضاعها المتردية على مستوى العالم ككل, وفى دول العالم الثالث بشكل خاص.

ولقد كانت هناك دائما مساحات واسعة من الخلاف والتوتر بين النموذجين الريفي والحضري للإقامة والسكنى وشكل الحياة بل والقيم الاجتماعية التي تحكم سلوك السكان وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية, وظهر ذلك واضحا بشكل صارخ بعد الثورة الصناعية في الغرب المتقدم, وإن كانت هذه التوترات والاختلافات بدأت في حقيقة الأمر منذ بضعة آلاف من السنين مع قيام الثورة الحضرية الأولى ونشأة المدن المبكرة. ويتسع نطاق هذا التوتر بازدياد التوجه إلى الحياة الحضرية وهجرة الريف وإقامة مدن جديدة أو تجمعات حضرية لم يكن لها وجود من قبل. وإذا كان هناك من العلماء والباحثين الذين يهتمون برصد التحركات السكانية من الريف إلى الحضر ويتحدثون بالتالي عن ظاهرة ترييف الحضر, فإن المحصلة النهائية هي الابتعاد عن نمط الحياة الريفية التقليدي بكل نظمها وأفكارها وسلوكياتها وعلاقاتها المتوارثة. والسؤال الذي يغزو أذهان الكثيرين من المهتمين بتتبع هذه التغيرات والتحولات هو : هل يمكن وضع حدود فاصلة بين المناطق الريفية والحضرية, وبخاصة حين يكون الزحف عشوائيا, ويتخذ شكل تجمعات حضرية صغيرة ومتناثرة, ولكنها تغطي في مجموعها في آخر الأمر مساحات واسعة جدا مما كان يعتبر قبل هذا الزحف مناطق ريفية أو خلوية بكل معاني الكلمة?

الأرض .. كوكب المستقبل

وقد ترتب على ذلك التحول إلى حياة الحضر, وإقامة مدن جديدة على حساب الريف والصحراء, أن بدأ بعض الكتاب في الخارج ينظرون إلى كوكب الأرض ككل على أنه (مدينة المستقبل) وذلك على ماجاء في مقال طريف نشرته (منظمة ما وراء المستقبل)الأمريكية تحت عنوان (العالم كمدينة; والمدينة كمستقبل), وله عنوان فرعي هو (تصور مستقبل المدن متعددة الثقافات), وفيه يتنبأ الكاتب بأنه بقدوم عام 2020 سوف يعيش أكثر من نصف سكان العالم في مدن, أو في تجمعات سكنية لها كل خصائص ومقومات الحياة الحضرية الحديثة المعقدة. وسوف يساعد على سرعة هذا التحول ما تعانيه المناطق الريفية في كل أنحاء العالم من انحسار وتراجع في فرص العمل وما يترتب على ذلك من نزوح أعداد متزايدة من السكان إلى المناطق الحضرية, حيث تتوافر الأعمال والأنشطة المتنوعة التي لاترتبط بالضرورة بالأرض ولا تتوقف على التغيرات الفصلية, كما هو الشأن بالنسبة للزراعة التي لاتكاد تصمد كنشاط اقتصادى أمام المتغيرات العالمية دون دعم من الدولة. ومع أن الحكومات المختلفة تحرص على اعتبار الزراعة جزءا من خطتها وسياستها الاقتصادية فإنها تعطي الأولوية دائما لقطاعي الصناعة و الخدمات باعتبارهما أكثر جدوى وارتباطا بتغيرات الحياة المعاصرة.

وقد تكون هذه كلها أمورا معروفة وكثر الحديث عنها والكتابة فيها; ولكن الجديد هنا هو أن ظاهرة التحول إلى الحياة الحضرية, وقيام المدن الجديدة, بل وإنشاء المدن العملاقة امتدت بشكل واضح إلى العالم الثالث, أو بعض دول ذلك العالم على الأصح, وأن ثمة ما يشير إلى احتمال انتشار هذه الظاهرة على نطاق أوسع مما سوف يترتب عليه بغير شك حدوث تغيرات كثيرة بالنسبة للأوضاع القائمة, فظهور هذا الاتجاه الجديد يمثل انكسارا جذريا في مسيرة الحياة التقليدية, وانفصالاعن ماضي تلك المجتمعات وثقافاتها التقليدية, وهو ما نجد له أمثلة في بعض دول الشرق الأقصى, كما هو الشأن بالنسبة لسنغافورة التي يمكن أن تكون, أو مايجب أن تكون, عليه كثير من مدن العالم الثالث, سواء من حيث ارتفاع المباني واتساع الطرق (وتعدد الثقافات التي ينتمى إليها السكان باعتبار أن المدينة أصبحت مجتمعا مفتوحا وجاذبا للسكان من مختلف الجنسيات والأعراق واللغات والديانات, مثلما أفلحت في جذب الاستثمارات الأجنبية من الدول الغربية الغنية, ثم دخولها إلى حلبة المنافسة مع هذه الدول في الأسواق العالمية, واقتباس نظم الحياة الحديثة وأساليب ووسائل الاتصال, بحيث دخلت في زمرة ما يعرف باسم (المدن الذكية).

وربما كان هذا هو المقصود من تحول كوكب الأرض إلى مدينة كبيرة, بمعنى إمكان تحول مجتمعات العالم الثالث - والمناطق الريفية على مستوى العالم كله - إلى النمط السائد في هذه المدن الذكية, بحيث تختفي الفوارق الهائلة التي تباعد بين الشعوب على ما هو عليه الوضع الآن, وأن تيارات العولمة سوف تلعب الدور الأساسي في هذا التحول.

في مقال طريف نشر في عدد مايو/يونيو 2003 من مجلة New Left magazine عن (مدينة المستقبل) يقول الكاتب فريدريك جيمسون - وهو من المهتمين بتطور فن العمارة - إن بعض الدراسات أبرزت أنه بقدوم عام 2020 سوف يتعدى سكان المدن خمسة مليارات نسمة ينتمى معظمهم إلى العالم الثالث, وأنه من بين المدن العملاقة الثلاث والثلاثين الأولى سوف تكون منها سبع وعشرون في الدول الأكثر تخلفا, وأن تسع عشرة مدينة عملاقة ستكون في آسيا وأن طوكيو ستكون هي المدينة العملاقة الوحيدة في العالم الغربي الغني المتقدم التي تدخل ضمن المدن العشر الأولى الأكبر حجما والأكثر سكانا.

التغيرات وتيار العولمة

كذلك يلاحظ جيمسون أن ثمة ميلا واضحا نحو المبالغة في إقامة المباني والمساكن المترفة والشديدة الارتفاع, والتي لن تجد في كثير من الأحيان من يسكنها, نظرا لارتفاع تكلفة الإقامة فيها, بشكل يعجز معظم الناس حتى في الدول الغنية عن تحملها. والغريب أن هذا التسابق نحو تشييد هذه المباني لم تسلم منه مدن العالم الثالث, وقد يكون ذلك ناجما عن الرغبة في مسايرة التغييرات التي تحملها تيارات العولمة, ولكن هناك من يرى في هذا الاتجاه - وبخاصة في الدول الاشتراكية والشيوعية - مؤشرا على نبذ تلك الأيديولوجيات, ورغبة في الأخذ بأساليب الحياة في الدول الرأسمالية الغنية, حيث تتوافر درجات أعلى من التقدم والرفاهية وخضوعا لتأثير التغيرات والتحولات التي بدأت في أواخر القرن العشرين واستجابة للأفكار التي سوف تسود عالم الغد. وأفضل مثل على ذلك الوضع هي شنغهاي, حيث بلغ عدد المبانى الشاهقة التي تمت إقامتها هناك منذ عام 1992حوالى تسعة آلاف مبنى.

ولكن هذا لا يعنى أن مدينة المستقبل ستكون بالضرورة مجتمع رخاء وراحة وأمان, إذ ثمة كثير من المشكلات التي بدأت بوادرها في الظهور الآن بالفعل, والتي يمكن ردها إلى متطلبات العولمة ذاتها, وإلى التقدم العلمي والتكنولوجي, أي إلى العوامل التي تعتبر أساس قوة مدينة المستقبل التي سوف تعاني - على الرغم من الثراء والرفاهية والانفتاح على العالم والقدرة على المنافسة - من ازدياد حدة التباين الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بين السكان واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء اتساعا رهيبا يحمل بين جوانبه كثيرا من الشرور ; إذ سوف يتزايد الشعور لدى قطاعات كبيرة جدا من السكان في هذه المدن المترفة المتعددة الثقافات بحالة البؤس والفقر والفجوة الاقتصادية الواسعة التي تفصل بينهم وبين الأغنياء, وكذلك الهوة السحيقة التي تباعد بين الذين يعيشون في تلك المباني الشاهقة, والذين لايجدون مأوى لهم وسط ذلك الثراء الفاحش, الذي يحيط بهم من كل جانب. وبطبيعة الحال سوف يكون الشعور بالحرمان والفقر والبؤس والظلم الاجتماعي أكثر مرارة في مدن العالم الثالث, حيث يتوقع الكثيرون ارتفاع معدلات البطالة, نظرا للاعتماد المباشر والمتزايد على التكنولوجيا المتقدمة; وكذلك استفحال أحداث العنف والجريمة. وتفرض هذه الاحتمالات نفسها على المشتغلين بتخطيط مدن المستقبل, بخاصة في العالم الثالث, وتدفعهم إلى البحث عن حلول تمنع أو على الأقل تحد من مخاطر هذه الاتجاهات والنزعات لمهاجمة هذا التيار الجارف وعجز أجهزة الأمن عن ملاحقتها بكفاءة في كثير من الأحيان, (وهو الأمر الذي سوف يزداد سوءا بازدياد انتشار التجمعات الحضرية المتناثرة والمتباعدة, والتي قد تجمع في تكوينها الاجتماعي والسكاني بين أشتات من الأعراق والجنسيات والمستويات الاقتصادية والثقافية المختلفة), سوف يؤدى في الأغلب إلى أن يتولى الأهالي أنفسهم مهمة المراقبة والدفاع والمحافظة على الأمن داخل المنطقة التي يعيشون فيها, بحيث تتحول المدينة الواحدة إلى عدد من التجمعات أو المجاورات السكنية الأمنية المتمايزة والمنعزلة بعضها عن بعض, بكل ماسوف يترتب على ذلك من وضع قيود على تحركات السكان بين أنحاء المدينة الواحدة فضلا عن حرية الانتقال بين المدن المتناثرة في أنحاء الوطن الواحد. وسوف يعني هذا أن المدينة قد تتحول إلى مجموعة من المعازل المتمايزة بل والمتباينة. وقد يحقق هذا الإجراء درجة أعلى من الأمن والطمأنينة داخل المجاورة الواحدة, بل وقد يساعد - كما يرى البعض - على الارتفاع بنوعية الحياة, ولكنه يؤدي في آخر الأمر إلى ضياع أو اختفاء هوية المدينة وتكاملها ووحدتها العضوية والاجتماعية. وفي كثير من مدن جنوب إفريقيا بالذات يطالب الأهالي أنفسهم مخططي المدن بمراعاة هذا البعد الاجتماعي الجديد, بالرغم من كل ما يشوبه من أخطار. بل إن هناك من يطالب الحكومات ذاتهافى كثير من الدول بزيادة التحكم في مراقبة الطرق وإغلاق بعضها أو تنظيم استخدامها تأمينا للسكان. وليس ذلك مقصورًا على دول العالم الثالث وحدها. وقد تنتشر هذه الدعوة في المستقبل, بحيث يصبح ذلك إجراء وقائيا مقبولا من الجميع على مستوى العالم. والمحصلة النهائية لمثل هذه الإجراءات (الاستبعادية) هي زيادة التفسخ الاجتماعى في مدن المستقبل وزيادة التباعد, وهو الأمر الذي يثير قلق المهتمين بمستقبل المجتمع الإنساني. وعلى أية حال فإن مشكلات المناطق الحضرية المنعزلة كانت محل اهتمام مؤتمر (مستقبل الحياة الحضرية) الذي عقد في جوهانسبرج في الفترة مابين 10-14 مايو 2000.

ثنائية المستقبل

وعلى ذلك فإنه يمكن القول إن مدينة المستقبل سوف تعاني من نوع من الثنائية التي تتمثل من ناحية في سهولة وتوافر أساليب وإمكانات التواصل, ومن الناحية الثانية في ازدياد العزلة الاجتماعية على مستوى الواقع لدواعي الأمن والأمان في المحل الأول. وقد تزداد أوجه الشبه بين معظم مدن العالم, وتقل الفوارق بين مدن العالم المتقدم والعالم المتخلف, بفضل تأثيرات تيارات العولمة, ولكن ذلك التقارب لن يصل إلى حد التماثل الكامل نتيجة لارتفاع حدة معارضة بعض أهداف العولمة, التي تحمل بين طياتها نزعات الهيمنة الأمريكية التي تلقى كثيرا من المقاومة, بل والرفض في بعض الأحيان. ولذا يحق لنا التساؤل : هل يمكن إزاء هذه المقاومة أن تتحقق فكرة - أو نبوءة - أن كوكب الأرض كله سيصبح هو مدينة المستقبل, أيا مايكون المقصود من العبارة?!.

بقيتُ وما أدري بما هو غائبٌ لعلّ الذي يمضي إلى اللَّه أقربُ
تودُّ البقاءَ النفسُ من خِيفة الرّدى وطولُ بقاءِ المرءِ سمٌّ مجرَّبُ
على الموتِ يجتازُ المَعاشِرُ كلّهمْ: مقيمٌ بأهليه ومَنْ يتغرّبُ
وما الأرض إلاّ مثلُنا الرزقَ تبتغي فتأكلُ من هذا الأنام وتشرب


(أبو العلاء المعري)

 

أحمد أبوزيد