الأغاني الشعبية والخروج من المقام الواحد

الأغاني الشعبية والخروج من المقام الواحد

تحت عنوان (الكويت تشدو والموسيقى تصدح), كتب الدكتور يوسف عبدالقادر الرشيد بالعدد 510 ـ مايو 2001 من مجلة العربي مقالاً تناول فيه المستجدات التي طرأت على الموسيقى الكويتية حتى أصبحت تضاهي ما هو مطروح في الساحة الفنيّة على مستوى العالم العربي بشكل عام.

وأرجو أن يسمح لي القارئ بأن أبدي بعض الملاحظات على ما جاء في هذا المقال, فبالنسبة للأغاني الشعبية الكويتية التي تصاغ من مقام واحد, مثل فن الهولو - أحد فنون غناء البحر - أو تلك التي يطلق عليها اسم العرضة بنوعيها - العرضة البرية والعرضة البحرية - فإنه لا يُعيب هذه الألحان أنها مصاغة من مقام واحد, فمعظم الأغاني الشعبية في العالم أجمع مصاغة من مقام واحد, بل إن هناك من الأغاني العاطفية ما هو محدد في مقام واحد أيضاً, ومع ذلك, فقد اكتسبت انتشاراً واستمراراً واسعين, مثل أغنية (على بلد المحبوب وديني) لرياض السنباطي, وأغنيات كثيرة لسيد درويش مثل (زوروني كل سنة مرة), و(طلعت يا محلى نورها), فعمق اللحن وبساطته في آن, وارتباطه السريع بالوجدان قد يكون أفضل من صياغته في عدة مقامات متجانسة أو غير متجانسة, إذ قد يؤدي كثرة التحويلات من مقام إلى مقام إلى عدم الاستيعاب السريع للحن, وقد يؤدي أيضاً إلى تشتيت انتباه المتلقي وعدم تركيزه, كما أن استخدام مقامات كثيرة في الأغنية الواحدة يحتاج إلى براعة خاصة وملكة طيّعة لا تتوافران إلا لقلة من الملحنين كرياض السنباطي وعبدالوهاب, وعلى سبيل المثال فقد شدت أم كلثوم بثلاثة مقامات مختلفة لكوبليه واحد من أغنية شمس الأصيل, وهو المقطع الذي يبدأ بـ (أنا وحبيبي يا نيل غايبين عن الوجدان), وينتهي عند (على سواقي بتنعي ع اللي حظه قليل يا نيل), وهذه المقامات هي على الترتيب:

مقام السيكا مصور على درجة ألفا - وهي من المقامات الصعبة بالنسبة للعازفين, ثم مقام الجهار كاركرد, وبعدها مقام الجهار كار, لينتقل بعد ذلك إلى بياتي النوى لكي يعود إلى مذهب الأغنية (والناي على الشط غنى والقدود بتميل).

أما عبد الوهاب فقد تغنى على طريقة الموال بأربعة مقامات مختلفة في أغنية (كل دا كان ليه), بل بالتحديد في بيت واحد منها فقط (نساني أنام الليل خلاني أبات أناجيه), حيث استعمل في البداية مقام البياتي على درجة الدوكا, ثم مقام اليكاه وهو تصوير لمقام الراست على درجة الصول, بعد ذلك استعمل مقام النوى أثر, وأخيراً مقام الكرد ليعود إلى البياتي الذي بدأ منه.

ومما يؤسف له أن الجيل الجديد من الملحنين لم يعد في حالة تسمح له باستخدام هذا العدد المتنوع من المقامات في الأغنية الواحدة, واقتصر على استخدام مقام واحد أو اثنين, ولم يعد المتلقي أيضاً يقبل هذه التعددات اللحنية, ويعلم الله من هو السبب في (تصحّر) هذه الموسيقى, الملحن أم المستمع? أم الاثنان معاً?

والمعروف أن الموسيقى العربية تحتوي على ما يقرب من 360 مقاماً, منها تسعة مقامات رئيسية هي: الراست, والنهاوند, والنوى أثر, والبياتي, والكرد, والحجاز, والصبا, والسيكا, والعجم عشيران, ولكل مقام من هذه المقامات التسعة فصائل أخرى وقرابات, منها قرابة من الدرجة الأولى ومنها قرابة من الدرجة الثانية, فمقام الراست على سبيل المثال, يحتوي على ستة مقامات قرابة من الدرجة الأولى هي: راست السوزناك, وراست شورك, ونيرز, وماهور, وبشاير, ودلنشين, كما يحتوي على ستة مقامات أخرى قرابة من الدرجة الثانية هي: مجلس أفروز, والنوى قشطة, والنوى كرد, والنشابورك, وأصفهان, واليكاه... هذه القرابة نفسها, تنطبق على المقامات الثمانية الأساسية الأخرى, ولكن لا يتسع المجال بطبيعة الحال لذكرها, هذابخلاف المقامات المصورة.

الثراء اللّحني

بينما نجد نغمتين فقط في الموسيقى الغربية هي: الماجير والمانير (أي الكبير والصغير), ولكل من هاتين النغمتين 15 مقاماً, بعد إضافة علامات التحويل البيمول والديز لكل نغمة, أي أن جميع المقامات الغربية لا تخرج عن ثلاثين مقاماً فقط, ولنا أن ندرك الفارق في الثراء اللحني بين الموسيقى الغربية والموسيقى الشرقية لنسأل أنفسنا: كم تتمتع الأذن العربية بهذا القدر الهائل من الحساسية السمعية الـتي لا تستطيع الأذن الأوربية أن تجاريها أو تستوعبها.

ويعود السبب في ذلك, إلى أن الموسيقى الغربية ليس لها من التحويلات سوى الرفع والخفض فقط, في حدود النصف تون, بينما تستطيع الموسيقى الشرقية أن تقسم هذا النصف إلى نصفين آخرين لتصبح النغمة في حدود الربع تون, لذلك, فهي تصبح أيضاً أكثر عمقاً, بل إن بعض المقامات تستعمل الثُمن تون, والأعجب من ذلك أنه في بعض البلاد الشرقية كالهند تستعمل 1/16 من التون!, ولا غرو أن ذلك يحتاج إلى حساسية مفرطة للأذن.

وبالنسبة لإيقاع (لمة الحبيب) الذي تحدث عنه الكاتب باعتباره سمة من السمات ميّزت الأغنية الشعبية الكويتية عن الأغنيات العادية الأخرى, فهذا أيضاً يمكن أن يثري الإيقاعات العربية المعروفة. والمعروف أن الموسيقى العربية تُبنى على أوزان بعضها يتفق مع أوزان الموسيقى الغربية, مثل إيقاع الفالس (ميزان 3/4), وأهم الأوزان البسيطة المستعملة إيقاع البمب والملفوف (2/4), والمصمودي الصغير والدويك (4/4), وضرب النوخت 7/4, والمصمودي الكبير 8/4,والمدور المصري 12/4, والنوخت الهندي 16/4, والشنبر الحلبي, وضرب العويص 11/4 وهو مقام مركب أي اعرج, كذلك السماعي الثقيل 10/8 وضرب الظرفات 13/8 وغيرها كثير.

وإذا كانت العرضة تعد قالباً من القوالب الموسيقية تدخل في نطاق الأغاني الشعبية أو الأناشيد فلعلها أيضاً تعد إضافة للقوالب المعروفة, وبهذه المناسبة فإن للتأليف الغنائي العربي قوالب متعددة من حيث الكلمات والبناء اللحني والأداء الغنائي الذي يلتزم به كل من المؤلف والملحن والمغني, ويمكن تلخيص هذه القوالب كالآتي:

1 - القصيدة: وهي أقدم أنواع الغناء على الإطلاق, وتتكون من الشعر والغناء, وتلتزم بقافية واحدة وتخضع لبحر واحد من بحور الشعر, كما ينفرد المطرب بأدائها دون مصـاحبة مـن الغـير, وميـزانها عـادة 4/4 أو 2/4, وجدير بالذكر أن القصيدة ظلت تعتمد على الارتجال دون لحن ثابت إلى أن جاء عبده الحامولي وجعل لها بناءً لحنياً محدداً يتقيد به المغني

2 - ثم يأتي الموشح الذي يعتبرمن فنون العرب القديمة, وكان أول ظهوره في الأندلس, وأول من نظمه مقدم بن معافى, أما أول من جلب الموشحات إلى مصر فهو الملحن شاكر الحلبي في القرن السابع عشر, وكلمة الموشح مشتقة من الوشاح الذي كانت تتزيّن به المرأة, وعلى هذا, فإنه يعتبر مظهراً من مظاهر الجمال والإبداع, وقد خرج عن موازين الشعر فأصبح التلحين حراً طليقاً, وجرت العادة أن يشترك في إنشاد الموشحات مجموعة من المنشدين بمصاحبة التخت, على أن ينفرد أحدهم بأداء أجزاء من الموشح على أن يكون أجلاهم صوتاً.

3 - بعد ذلك, يأتي الدور, الذي هو قالب مصري صميم ظهر في أوائل القرن التاسع عشر, وهو نوع من الزجل يغلب عليه طابع الغزل, ويتكون الدور من جزأين يسمى أولهما بالمذهب وثانيهما بالأغصان, ويؤدَّى المذهب بطريقة جماعية وينفرد المغني بأداء بعض مقاطع الغصن, وأول من وضع الأساس للدور هو الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب, ثم تطور في عهد سـيد درويش وعبدالوهاب, حيث تحوّل من مجرد التطريب وإظهار براعة المؤدي إلى محاولة التصوير والتعبير, كما أُدخل فيه آلات كانت تعتبر جديدة في ذلك الوقت كالتشيللو والكونترباص.

4 - ومن قوالب الموسيقى العربية الشهيرة ما يعرف بالطقطوقة أو الأهزوجة, التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر, وبلغت أوج مجدها في عهد عبدالوهاب.

5 - هناك أيضاً الأغاني الدينية, وهو نوع من الانشاد الديني الذي يؤدَّى في الموالد وحلقات الذكر وصلاة العيد وغيرها.

6 - الأغنية الشعبية أيضاً تعد من القوالب الموسيقية المهمة, وهي من المتوارثات مجهولة النسب, يتناقلها الناس من جيل إلى جيل, وهي وسيلة من وسائل الأفراح والمشاركة الوجدانية, والتعبير عن مكنون العواطف والمشاعر.

7 - وهناك قوالب أخرى كالموال, وأول من تغنى به هم البرامكة.

8 - والمونولوج, وهو نوع من الغناء ينفرد مطرب واحد بأدائه, وقد بدأ ظهوره مع انتعاش الروايات الغنائية على المسرح, وهو خمسة أنواع:

المونولوج الفكاهي, والمونولوج الدرامي, والمونولوج الوطني, والمونولوج الوصفي, والمونولوج الغزلي, وتعتبر الأغنية الحديثة تطوراً لفن المونولوج.

9 - ثم هناك الديالوج, ويؤديه اثنان مثل (حكيم عيون) لعبد الوهاب وراقية إبراهيم, و(ياللي فت المال والجاه), لعبد الوهاب ورجاء عبده.

10 - والتريالوج ويشترك في أدائه عادة مطربان ومطربة.

11 - وتعتبر الأناشيد أيضاً من القوالب المهمة وهي ذات ألحان قوية حماسية,تصاغ عادة من مقام واحد مثل الدوياجير كنشيد (الله أكبر) لمحمود الشريف.

الحر والموزون

ويختلف النشيد عن المارش الذي هو كلمة إنجليزية معناها السير إلى الأمام بخطوات منتظمة ومنضبطة, ويعبر عن روح الإقدام والفداء, ويعتبر المارش من التأليف الآلي الحر. وما دمنا قد ذكرنا التأليف الآلي الحر فلا ننسى أن من أنواعه أيضاً الدولاب, والافتتاحية الموسيقية, واللازمة, والتقاسيم (الحرة والموزونة), وهو يختلف عن التأليف الآلي المقيد الذي يحتوي على أنواع أخرى من الموسيقى كالبشرف والسماعي والبولكا واللونجا والتحميلة.

ولكل قطر عربي إيقاعاته الموسيقية وقوالبه الخاصة به, وأعتقد أن احتواء كل قطر عربي على خصوصيته الموسيقية, بغض النظرعن شكل اللحن وانتمائه للعصر فيه, إضافة للموسيقى العربية عامة, والذي يتأمل موسيقى هذا القطر أو ذاك, يجد فيها عنصراً مختلفاً ومذاقاً مميزاً, فكثير منا تستهويهم الأغاني الكويتية, وكثير من الكويتيين تستهويهم الأغاني المصرية, وينطبق ذلك أيضاً على الأقطار العربية الأخرى, فهناك أصوات شجيّة وألحان ذات عبق خاص تأتينا من السعودية, ومثلها من اليمن ومن المغرب, لهذا, يجب على كل قطر عربي أن يحافظ على تراثه الموسيقي وأغانيه الشعبية, وأن يُبقي على طبيعة هذه الأغاني وألا يفرط فيها, فإن كانت هناك ثمة ضرورة للتطور فليكن ذلك في إطار محدد مدروس.

فإن الموسيقى تهذب النفس والحواس وتخلق روح الإبداع, وقد تصفو بنا وترتقي إلى حد التجرد والتصوف الديني, لهذا يقولون إن الموسيقى مرآة الشعوب.

 

عادل شافعي الخطيب