مرة أخرى وليست أخيرة: نحن وإسرائيل حالة اللاحرب واللاسلم.. ثقافيا محمد الرميحي

مرة أخرى وليست أخيرة: نحن وإسرائيل حالة اللاحرب واللاسلم.. ثقافيا

حديث الشهر

رضي العرب بالتطبيع السياسي مع إسرائيل كحل لا مفر منه بعد صراع دموي مرير. ولكن فور أن يثار موضوع التطبيع الثقافي حتى نصاب جميعا بالهلع، وكأن مقدمات الأمور لا تقود إلى نهاياتها. لست مع هذا النوع من التطبيع أو ضده ولست مع الوقوف أمام تفاصيل التاريخ بل كلياته، وأيضا من دعاة النظر إلى كل الأمور التي تحيط علاقاتنا بإسرائيل من منظور عقلاني بعيدا عن عواطف الرفض الأهوج أو القبول المهرول .. دعوني أعترف في البداية أن التطبيع الثقافي هو الأهم والأخطر، فالتطبيع السياسي محدود بإطار المعاهدات وبروتوكولات السفراء وطيران المسئولين عبر الحدود، ولكن التطبيع الثقافي يدخل من باب الوجدان الشعبي ليمس كل مستويات الناس، إنه تطبيع لا يحتاج إلى معاهدات ولكنه نتيجة حتمية للتفاعل والتماس والتداخل بين الثقافات التي كانت متعادية وهذا هو مصدر خطورته، لأنه الكفيل بأن يحول السلام الفوقي البارد إلى سلام شعبي دافئ، وهو أمر يرى الكثيرون أن أوانه لم يحن بعد أو على الأقل لم تقدم إسرائيل ما يجعلنا ننتقل معها من مرحلة البرودة والتربص إلى مرحلة الدفء والتفاعل. ولعل هذا هو سر الضجة التي أثارتها تصريحات نجم الكوميديا المعروف عادل أمام.. فهو ليس سياسيا .. وليس منظرا وليس نجما للطبقة المختارة، ولكنه نجم الطبقات الشعبية المصرية، ملامحه تشبه ملامحهم والأدوار التي يقوم بها على الشاشة تشبه أعمالهم اليومية، وحتى التصرفات والكلمات التي يرددها هي من وحي كلماتهم، لذلك فقد بدا حديثه عن التطبيع أكثر اقترابا من المنطقة الشعبية الخطرة التي حاولت كل جهود التطبيع أن تخترقها دون جدوى. وعلى حسب ما نقلته إلينا الصحف في أواخر شهر فبراير الماضي حول وقائع الندوة التي كان فارسها عادل إمام وعقدت في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة فقد طرح الممثل تساؤلا حول العلاقة الثقافية بإسرائيل مفاده: إذا كنا في حالة سلم مع إسرائيل يتمثل في تبادل الدبلوماسيين والمصالح الاقتصادية، فلماذا لا يكون هناك (تطبيع) ثقافي معها أيضا؟ بعض الصحف العربية التي نقلت وجهة النظر تلك قالت بخط عريض (عادل إمام يفجر قنبلة) وذلك في محاولة لتفسير ما قاله على أنه شأن مهم وأساسي، ولم يتوقف الأمر عند هذا التصريح فمن الواضح أنه أحدث دويا كبيرا في النقابات الفنية والثقافية التي تتزعم شعار المعارضة الثقافية، مما حدا بعادل إمام إلى التراجع ووضع شروط لهذا التطبيع حددها بعودة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وتراجع أيضا عن تصريحه بأن زيارته لإسرائيل ليست مشكلة. وأكد أن كل ما في الأمر أنه كان يريد أن يستفيد العرب جيدا من السلام. وبغض النظر عن التصريح والاعتذار الذي لحقه فإن موضوع التطبيع الثقافي مع إسرائيل مطروح بشدة في الأوساط الثقافية العربية، وعدم مناقشته هو هروب من الواقع، والتحزب معه أو ضده - هكذا - بلا براهين أو قرائن هو عودة من جديد إلى فرض وجهات النظر من منطلق أيديولوجي مغلق وليس من منطلق فكري قابل للتغيير والتعديل.

لقد ظهرت قضية التطبيع بأشكال مختلفة في حياتنا الثقافية العربية منذ فترة طويلة، وللتذكير فقط فقد نشر الشاعر العربي الكبير نزار قباني قصيدة طويلة، سماها (المهرولون) انتقد فيها بعنف من سماهم بالمهرولين تجاه السلام مع إسرائيل، وكانت له - لمن يتابع القضايا الثقافية- مع الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ مخالفات ومخاصمات حول هذا الموضوع عندما عبر نجيب محفوظ عن إعجابه بالفن الذي تحمله القصيدة، وعن تحفظه على الموقف السياسي فيها، وكالعادة ثارت الزوابع ودخل وسط عملية الأخذ والرد آخرون، مثقفون وسياسيون من بينهم العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الذي شبه قصيدة نزار قباني بفرقة دبابات، وجسد الدور الذي يقوم به المثقف في مقابل الدور الذي يقوم به السياسي، فالأخير يمكن له أن يساوم تحت ظل ظروف تجبره على المساومة، أما المثقف فإنه يستطيع أن يعبر عن رأيه دون الخضوع للضغوط. ثم عاد القباني ونشر قصيدة أخرى في فبراير الماضي تدور حول نفس الفكرة ولكنها بفن شعري أقل.

نجيب محفوظ ونزار قباني وعادل إمام هي أسماء محدودة ضمن أسماء عديدة من المثقفين الذين أثاروا من فوق منابر ثقافية عديدة قضية التطبيع الثقافي مع إسرائيل كل من مدخله ومن موقفه. ومن بين هذه الأسماء: لطفي الخولي وفيصل دراج وأحمد سالم وسعد الدين وهبة وعبدالكريم غلاب وهم من ضمن قائمة طويلة امتدت من مشرق العالم العربي إلى مغربه.

هناك إذن نقاش محتدم بين المثقفين العرب في هذا الموضوع. ولم تكن قصيدة نزار قباني لا الأولى ولا الثانية أو تصريحات عادل إمام هي أول من أظهرت الموضوع على السطح ولكنها فقط وسعت من دائرة الاهتمام لدى قطاعات عربية ربما لم تلتفت إلى التبعات الثقافية للصلح مع إسرائيل وأنه لن يقف عند حد توقيع المعاهدات.

الهرولة ومفهومها

ربما لم تكن مفردة (الهرولة) التي استخدمها الشاعر نزار قباني من عندياته، فقد سمعت أول مرة بفكرة الهرولة في اجتماع ضم مثقفين عربا ومصريين في ندوة عقدتها جريدة الأهرام في القاهرة تحت عنوان "نحو مشروع حضاري عربي" في أكتوبر عام 1994، وقتها كان الوضع السياسي العربي يتابع المراحل الأخيرة في المفاوضات الإسرائيلية/ الأردنية بعد أن انتهى اتفاق أوسلو الأول الفلسطيني/ الإسرائيلي، وبعد أن بدأت بعض الدول العربية ترفع الحرج عن نفسها بالاتصال بإسرائيل بأشكال مختلفة. ومنها ولد مفهوم "الهرولة" الذي حدد الشاعر نزار قباني بعد ذلك أوصافه في القصيدة الذائعة. ومن المهم أيضا في هذا الصدد أن هذه المجلة (العربي) قد طرحت موضوع التطبيع الثقافي بجدية يستحقها في عدد مارس 1995 تحت عنوان (آخر المعارك الخاسرة: ضجة التطبيع الثقافي مع إسرائيل) وقد كتب المقال الصديق الروائي السوري هاني الراهب بمستوى من الموضوعية ونقد الذات والمسئولية الوطنية. ومنذ ذلك الوقت ونحن نتلقى في بريدنا في العربي رسائل من القراء حول هذا الموضوع بين موافق أو موافق جزئيا وبين رافض لتناول الفكرة من أساسها. وحيث إننا كعرب نعاني غياب المؤسسات التي تقوم برصد اتجاهات رجل الشارع فإننا نعتبر الخطابات والرسائل التي تصلنا، مؤشرا لنبض هذا الشارع، وهي بمنزلة البوصلة التي تؤشر إلى أولوية القضايا المطروحة ومدى أهميتها. وحتى أكون منصفا فإن مقال الصديق هاني الراهب وجد له من ينقده سلبا أو إيجابا في بعض المنشورات العربية الرصينة لعل آخر ما وقع في يدي منها مجلة الآداب البيروتية العريقة - التي يصدرها الصديق الكبير سهيل إدريس ( فبراير 1996).

وتطرح الرسائل والكتابات في القليل منها نظرة متوازنة وموضوعية، أما الغالبية العظمى منها فإنها ما زالت على وعيها القديم، ذلك الوعي العقيم، وعي الرفض المطلق والفهم المبتسر لطبيعة المرحلة التي نعيشها وما يراد أن يقال، واقتطاع الجزء بعيدا عن النص، وتفسيره بالهوى لا بالعقل. وتلك آفة النقاشات العربية الثقافية أو السياسية وفي أي مجال آخر، وهي الإصرار على الاتباع لا الإبداع، وفهم ما بين السطور أكثر مما يكتب بوضوح على السطور. ولا مجال هنا إلى القول إن كل ما كتبه الصديق هاني الراهب لا يأتيه الخطأ من بين يديه أو من خلفه فتلك نظرة تناقض ما ذهبت إليه، بل أبدأ بالقول إنني مثلا - لا أوافق على مقولة الراهب: إن الطرفين العربي والإسرائيلي قد منيا بخسران وإن الرابح الوحيد كان - حتى الآن - الولايات المتحدة! وبرغم أن هذه الفكرة جاءت بشكل جانبي وقبل آخر المقال المذكور، فإنني أرى أنها جزء من تركيبة فكرية قبلية تبناها المثقف العربي، أو قل كثير من المثقفين العرب وهي أن قدرة الولايات المتحدة أن تفعل ما تريده - في أي مكان في العالم - بشكل مطلق، وهي قناعة تصل عند البعض حد الإيمان الديني، وفي رأيي أنه ربما تستفيد الولايات المتحدة من أخطاء الآخرين، ولكنها بالتأكيد لا تجبر أحدا على ارتكاب هذه الأخطاء. وفي تاريخنا العربي الحديث توجد الكثير من الأخطاء التي ارتكبناها لأننا فكرنا بشكل قطعي وتابع لا مستقل ومرن، ولعل الشاهد على هذا النوع من التفكير الذي تولدت عنه الأخطاء هو قرار تقسيم فلسطين المشهور، الذي كان الرفض العربي فيه جماعيا وقاطعا في الوقت الذي يكشف لنا فيه المؤلف الإسرائيلي يوسي ميلمان عن جانب من التفكير الإسرائيلي في كتاب (الإسرائيليون الجدد): "إلا أن الاتجاه السائد لصهيونية بن جوريون قد قبل على مضض فكرة التقسيم وفرض القرار عنوة على المجتمع اليهودي لما تتمتع به من سيطرة مطلقة على الهستدروت وعلى المؤسسات السياسية والاقتصادية وشبه العسكرية". وإعمال العقل هنا يؤكد لنا أن ذلك القبول الإسرائيلي بالتقسيم كان قبولا تكتيكيا لسببين: الأول إقناع الغرب بالمرونة الإسرائيلية ولو في الظاهر، والثاني معرفة حقيقية باتجاه التفكير في الجانب الآخر (العرب) وبأنهم سوف يرفضون كليا وجذريا ذاك التقسيم. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الم قصود هو التفكير المنطقي المبني على معرفة الآخر معرفة يقينية وليست أسطورية.

الآخر.. وكيفية معرفته

من اطلع على كتاب أريك لوران وماريك هلكر الموسوم (مجانين السلام) فسوف يعرف الكثير عن خلفيات المفاوضات الإسرائيلية / الفلسطينية في أوسلو والإعداد المسبق لها، فقد جاءت الخطوات الأولى من أستاذين للتاريخ في جامعة حيفا كانا قد أسسا مركزا للدراسات، هو مركز التعاون الاقتصادي درسا من خلاله الإمكانات المختلفة لفتح قنوات خلفية غير معلنة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. بعد ذلك قامت مجموعة من المثقفين أصحاب النظرة الواقعية والبصيرة المستقبلية بدور أساسي في التمهيد للخطوات الأولى الصعبة للحوار الفلسطيني/الإسرائيلي. وهذا هو الدور الذي تقوم به عادة مراكز الدراسات في البلاد المتحضرة.

ومن الملاحظ أن البلاد العربية لا تحظى إلا بمجموعة صغيرة من مراكز البحث الحقيقية الجادة والمستقلة ونذكر أهمها، وهما مركز الدراسات الاستراتيجية في جريدة الأهرام الذي أنشئ أساسا بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967 وكان وجوده ردا على افتقاد المعلومات الأساسية والعلمية عن الآخر (العدو) وقد قام هذا المركز على الرغم من ضعف إمكاناته المالية بأعمال ريادية فائقة الأهمية، ولا يزال يقوم بذلك. والآخر هو مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية الذي أنشئ منذ بضع سنوات ولكنه سرعان ما أصبح يقوم بدور حيوي في تأسيس المعرفة العلمية للخليج والجزيرة العربية. وهناك بالإضافة لذلك محاولات جامعية ومجلات متخصصة محدودة الانتشار في وطننا العربي ولكن بالتأكيد تعد ضئيلة إن قارناها بما عند إسرائيل التي سلحت نفسها منذ فترة طويلة بمعرفة عميقة بكل ما يخص العقلية العربية والشعوب العربية. فقد أحصيت أخيرا خمسة عشر مركزا للدراسات الاستراتيجية والسياسية في إسرائيل مهمتها البحث وتقديم الدراسات عن العالم العربي، وهي منتشرة في جامعات تل أبيب، وحيفا، وبن جوريون، والجامعة العبرية في القدس، ويرأس هذه المراكز متخصصون في دراسات الشرق الأوسط واللغة العربية والثقافات الشرق أوسطية والعلوم السياسية والاجتماعية. وبذلك فإن الإسرائيلي المهتم تتوافر له، إن رغب، مجموعة من الدراسات عن أحوالنا من المحيط إلى الخليج في الوقت الذي نفتقد فيه هذه الإطلالة المماثلة على النسيج الاجتماعي الإسرائيلي - إلا فيما ندر - بل إن الرقيب الحكومي يتدخل في معظم الأحيان ليسمح لنا أو يمنع عنا ما نريد أن نعرفه عن هذا المجتمع.

فارق المعرفة إذن هو فارق حقيقي وليس متخيلا وهذا ما يضخم قدرة إسرائيل في نظر بعضنا إلى درجة إخراجها من التصرف الإنساني إلى التصرف الأسطوري. وفي دراسة حديثة ترجمها مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية في أبوظبي ظهر أن الإنتاج الإسرائيلي من الكتب يوازي أربعة آلاف كتاب في السنة، في الوقت الذي تنشر فيه مصر - وهي أكبر دولة عربية منتجة للثقافة العربية - حوالي 380 كتابا في العام. والنسبة واضحة التفاوت ويعرفها المتخصصون بل يشتكي منها حتى الناشرون العرب.

وفي المقارنة الثقافية أيضا- ودون تضخيم- نجد أن إسرائيل قد أحيت لغة ميتة، فاللغة العبرية ظلت غير منطوقة لحوالي ألف وثمانمائة عام، إذا استثنينا استخدامها في الصلاة أو في جيوب صغيرة من المؤمنين اليهود مرتبطة بدور العبادة فإن اللغة العبرية اليوم يتكلمها - قراءة وكتابة - زهاء أربعة ملايين يهودي إسرائيلي وما يربو على مئات الآلاف المنتشرين في شتى بقاع العالم، وأصبحت مؤلفاتها تترجم إلى اللغات الحية. وتعالوا نقرأ حال المهاجرين اليهود في كتاب يوسي ميلمان السابق الإشارة إليه حيث يقول: "كان بمقدورك سماع عشرات اللغات مرة واحدة وأغلب الناس (اليهود المهاجرين) لا يفهم بعضهم بعضا عندما يتحدثون، وقلة منهم كانوا يفهمون تعليمات موظفي الحكومة الذين كانوا يتحدثون إليهم بالعبرية".

ويواصل الكاتب قوله: "لقد واجه الجميع (المهاجرون) ذات المعاملة القاسية سواء كانوا اليهود الأوربيين الذين نجا معظمهم من المذبحة (الهولوكوست) أو اليهود الشرقيين، وخضع جميع من عبر بوابات الهجرة إلى فحص طبي إجباري يطلب منهم فيه أن يقوموا بخلع ملابسهم كاملة وتطهيرهم بمادة (دي دي تي)".

ويقول الكاتب إن أطفال إسرائيل عبروا بشكل مقرف عن شعور بعدم الاكتراث تجاه المهاجرين فأطلقوا على من بقي من يهود أوربا الذين بقوا أحياء بعد المذبحة اسم (الصابون) وهي إشارة لاستخدام النازية للزيوت المستخرجة من الجسم البشري في صنع الصابون!!

في الوقت الذي يجمع العرب فيه لغة حية ومتواصلة لقرون عديدة وثقافة متشابهة، فإن القصور في الواقع كان في الوعي بالمتغيرات ومواجهة العصر بأدواته وإيجاد معالجة واقعية وحقيقة بعيدة عن المزايدة والزعيق. وأنقل من جديد عن كتاب ميلمان المنشور أساسا بالعبرية والمترجم إلى العربية فقرتين لهذه المعاني.

الفقرة الأولى تقول: "تجاوز عدد سكان فلسطين في مطلع الثمانينيات من القرن التاسع عشر (أي منذ مائة عام تقريبا) نصف المليون نسمة وقد بلغت نسبة العرب الذين استقروا في قرى صغيرة وعاشوا على زراعة أرضهم حوالي 95% وشكل اليهود الذين عملوا مزارعين لدى مالكي الأرض العرب النسبة المتبقية البالغة 5% فقط". وفي موقع آخر يقول الكاتب نفسه: "لقد فشل قادة المجتمع العربي في فلسطين حتى بعد أن بدأت أساسات المشروع الصهيوني في الظهور في استيعاب عزم الصهيونية ومثابرتها لإنجاز هذا المشروع، فهم ما برحوا يتساءلون في أمل أن ما يشاهدونه إنما هو مجرد زيارة حج يهودية أو ربما سياحة"!!

من مقابلة النصين نجد مدى يقظة الكاتب ووضوحه مع شعبه ليس في هذه النصوص فقط وإنما في الكتاب بأكمله، وهو كتاب من كتب عديدة تنقد المجتمع الإسرائيلي دون مواربة وتظهر نقاط ضعفه الكثيرة. إظهار نقاط الضعف هذه هو جزء من تصور ثقافي وفكري إنساني يعتمد على النقد والتوجيه الصريح، وهو بخلاف السعي العربي الدائم سواء على مستوى الحاكم والمحكومين إلى إخفاء كل الأخطاء وطمرها واتهام كل من يحاول أن ينقد بالخيانة، كما قال أحدهم مرة لي بمرارة: في بلادنا لا يعدمون من أضرم الحريق، بل أول شخص قام بالتبليغ عنه!. إنه نوع من الفشل في فهم ملابسات العصر ومتطلباته وأولها العلانية والوضوح. ولعلي قبل أن أترك هذه النقط المهمة أشير إلى ما أشار إليه الكاتب حول إطلاق الصواريخ من بغداد تجاه إسرائيل إبان حرب تحرير الكويت حيث قال: "أطلق العراق واحدا وأربعين صاروخا ضد إسرائيل كانت نتائجها موت ثلاثة عشر شخصا معظمهم نتيجة إصابتهم بالسكتة القلبية أو الاختناق أو القلق فيما توفي واحد فقط نتيجة الإصابة المباشرة". ولعل بعضنا يذكر كيف اعتقد العديدون في الشارع العربي أن مثل هذه الصواريخ يمكن أن تحقق انتصارا على إسرائيل!! وأعتقد أن بعض من غاب وعيهم ما زال موقنا من ذلك.

تطبيع أم لا تطبيع؟

قلت في بداية الحديث إن التطبيع الثقافي مازال مدار بحث، فهناك وجهة نظر تقول إنه ما إن يتم السلام بين الدول العربية وإسرائيل، ويتم قبولها كدولة من دول المنطقة، فإن من العسير الحديث عن تطبيع سياسي واقتصادي دون التطبيع الثقافي، وتذهب وجهة النظر هذه إلى القول إن التخويف من هيمنة إسرائيلية ثقافية على الثقافة العربية إنما هو تخويف مبالغ فيه غير جاد وغير حقيقي، فاللغة العربية والثقافة العربية أعمق تاريخا وجذورها أكثر رسوخا من أي ثقافة جديدة أو قديمة، وتقارن وجهة النظر هذه مع الثقافات المحيطة منذ زمن طويل كالثقافة الهندية، أو الفارسية، أو التركية أو حتى الأوربية. وفي ظني أن الخوف على الثقافة العربية من هذا المنظور هو كالخوف من الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية هو في معظمه متخيل. فالدارس للاقتصاد الإسرائيلي - وقد قدمت في هذا المجال دراسات عديدة - يرى أن التطور الاقتصادي ليس شاملا وإنما هو "قطاعي" أي في قطاعات محصورة وليس متفوقا على أقل الدول الأوربية تطورا، بل إنه لا يصل في مرتبته إلى العديد من الدول الآسيوية الناهضة. والبعض الآخر يرى- كما قال عبدالكريم غلاب فيما نقل عنه في مجلة الآداب البيروتية عدد يناير هذا العام - "إن الثقافة من المنظور العام مطبعة منذ أن كانت ثقافة. لا أحد يستطيع أن يقف في وجه الثقافة العربية أو الثقافة اليهودية - إن صح أن الثقافة تنتسب جميعها للدين أو اللغة - ما دامت هناك حرية في التفكير والتعبير والتبليغ. إن ابن سهل اليهودي، كان شاعرا عربيا ولم يمتنع أحد من العرب المسلمين عن قراءة شعره أو اعترض على إشاعة شعره لأنه يهودي، وابن ميمون كان فيلسوفا يهوديا عربيا ولم يعترض أحد على قراءة فلسفته وتقدير مقولاته لمجرد أنه يهودي، والذين عرفوا بابن سهل وابن ميمون (كمثالين للمثقفين اليهود) في العصر الحاضر هم من العرب المسلمين، وحين كتب حاييم زعفراني اليهودي المغربي كتابه عن تاريخ يهود المغرب في ألف عام تلقفه المثقفون المغاربة بالترجمة والترحيب والتقدير، واللغة العبرية كانت من مشمولات الثقافة العربية سواء على عهد الأندلس أو اليوم".

وبالطبع لا يذهب عبدالكريم غلاب في أطروحته إلى الدعوة للإسراع في قبول التطبيع لأنه يعترض على الممارسات الإسرائيلية السياسية في الأرض المحتلة اعتراضا قطعيا واضح الدلالة.

ولكن مما لا شك فيه أنه يقلب الأطروحات التي يستند إليها العديد من المشارقة، إن صح التعبير، فهو يؤكد أن لا ضير ولا بأس، كما حدث دائما، أن نأخذ من الآخرين كما يأخذون منا، ولكن اعتراضه سياسي بعكس مقولة الآخرين إنه ما دام هناك تطبيع سياسي فلماذا الوقوف أمام التطبيع الثقافي؟ وهكذا تتحول أولويات كل أو جزء من هؤلاء المثقفين من الكليات إلى الأساسيات، والكليات هنا هي الشعارات التي حملناها على كاهلنا والتي كان لها صدى كبير في نفوس العرب دون أن تحقق في نهاية الأمر أيا من نتائجها المرجوة، في الوقت نفسه فإن الأساسيات التي يدعو إليها مثقفون كنجيب محفوظ وهاني الراهب هي مسايرة العصر وفهم آلياته من حيث تأكيد التعددية وقبول الاختلاف واحترام الرأي الآخر والتأكيد على الحريات الأساسية للمواطن وصون كرامته في حدود قانون متفق عليه ونابع من اتفاق فئات المجتمع الواحد، ولكن هذا الرأي الأخير ليس هو بالغالب فمازالت صيحات الغضب والصراخ هي الأعلى والأكثر شعبية والأسهل تسويقا والأكثر قربا لتعبئة الرأي العام غير أو شبه المستنير.

وحتى في البلدان التي طبعت سياسيا مازال المجال الثقافي مجمدا فقد حدث أن كتب على سالم كتابا عن زيارة إلى إسرائيل وهو المؤلف المسرحي المعروف فقوبل بالنقد الشديد واللاذع والمقاطعة التي مازالت سارية حتى الآن بين زملائه في مصر، هذا حدث لأدونيس عندما أسقطت عنه عضويته في اتحاد الكتاب.

وهناك بالطبع المدرسة الأخرى المناهضة - من منظور سياسي وثقافي للتطبيع - فهي تستند إلى أن السلام الذي وصلنا إليه هو سلام مفروض علينا لا السلام الذي نرجوه، وأن حالة الحرب ستعود من جديد إن لم تكن لأسباب سياسية فلأسباب اقتصادية! ويجد المدافعون عن وجهة النظر هذه العديد من الشواهد التي يقدمونها، بعضها له علاقة بالواقع والمنطق، وبعضها مبني على تصورات بعيدة عن المعرفة. فمنهم من يقول إن المجتمع الإسرائيلي يطبق الديمقراطية في إطاره فقط بينما يمارس القمع الوحشي ضد الآخرين، وهو مجتمع عسكري في الأساس، وكل ذلك حجج. ومنهم من يقول إن المجتمع الإسرائيلي خاضع لسيطرة رجال الدين، وهو قول مبالغ فيه إلى حد كبير. ولكن بالتأكيد لا تنضب الحجج التي يمكن سوقها، فالمجتمع الإسرائيلي بالتأكيد مجتمع مليء بالثغرات والعيوب.

ما ينقصنا في هذا الحوار، في تصوري، هو ليس الحجج العاطفية من هذا الطرف أو ذاك، الغائب هو المنهج والمنطق. فإن قلنا إن السلام القادم هو السلام الذي لا نريده فإننا بذلك نخرج عن المنهج العلمي. فعلينا الاعتراف بأننا لم نستطع في العقود الخمسة الأخيرة أن نحقق طريقنا في السلام. إن كل ما هو معروض أمامنا هو وقف لحالة الحرب والنظر إلى داخلنا، إلى الأوضاع التي نعيش فيها والتي قادتنا إلى هذه الحالة. وأمام توازن القوى المعروف اليوم لا يمكن تحقيق أي تقدم عن طريق غير طريق السلام والمفاوضات. وهذا خيار اعترف الجميع بأنه خيار استراتيجي لا تكتيكي. ما ينقصنا في الجانب الثقافي هو المعرفة الحقة والموضوعية بالآخر، وأقول - إضافة - وببعض الغامض فينا وحولنا. ولعل أول ما نريد معرفته هو الإجابة عن سؤال: لماذا عندما تطرح قضايانا المركزية تجيء الإجابات حادة قاطعة عاطفية ومتعجلة، تريد أن تضع الأمور في الأسود أو الأبيض، معنا أو ضدنا؟

لقد تابعت حوار التطبيع مما نشر وما وصلنا في "العربي" من رسائل القراء وما نشر في منابر عربية أخرى، فوجدت أن أغلبه يميل إلى نفس المنهجية القديمة في الخروج عن الموضوعية - كما هو التفكير - وخلط الأوراق والتعصب للرأي وإطلاق الأحكام دون تمحيص أو دراية أو معرفة. وهل أدلكم على تعميمات مثل تلك التي أشرت إليها لعلي أقتبس لكم نصا من مفكر عربي هو عبدالكريم غلاب حين يتحدث عن التطبيع فيقول: "ثم يجيء البترول العربي ليدركه التطبيع فيصبح بترولا إسرائيليا، يجري في مواسير إسرائيلية تحت الأرض الإسرائيلية، وليعني التطبيع أن تقفل إسرائيل (الحنفية) متى شاءت أو تحطم مجرى النهر البترولي العربي أو ليضرب العمال الإسرائيليون عن تسويق البترول العربي ويخزن دخل البترول العربي في البنوك الإسرائيلية...".. إلخ.

وأكاد أجزم من هذا النص مرتفع العاطفة والمشبع بمواقف مسبقة أن الكاتب غاب عنه أن هناك بترولا في أماكن عديدة من الوطن العربي وإن كان في ذهنه منطقة بعينها. فهل هناك خلط للأوراق أكثر من هذا؟ وهل نرجو في القادم من الأيام أن نلحق بما فعله غيرنا من تقديم دراسات مقنعة، مليئة بالحقائق خالية من الخيال السياسي والمواقف الأيديولوجية؟ إن فعلنا ذلك فلن يضيرنا بعدها طبعنا ثقافيا أو لم نطبع.

بالتأكيد فالتطبيع ليس قدرا، ولكنه طريق علينا أن نسلكه بعيون مفتوحة، معظم خوفنا نابع من قلة المعرفة، معرفتنا بأنفسنا، وهذه كارثة حقيقية، ومعرفتنا بالعدو الذي كنا نحاربه ثم أصبحنا نصالحه دون أن ندرسه جيدا. إن الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز يقول: "إن أوجه الاتفاق بين العرب والإسرائيليين يجب أن تكون حول الحاضر والمستقبل وليس ضروريا أن نتفق حول من هو المذنب ومن كان سبب المأساة؟ إذ يتوجب علينا أن نعتاد العيش مع روايتين مختلفتين توجد في كل منهما حقيقة غير موضوعية.." وأنا لا أدعو إلى إلغاء الذاكرة الماضية كما يريد الكاتب الإسرائيلي ولكن لا أريد لهذه الذاكرة المليئة بكل ثارات الماضي أن تقف عائقا أمام النظر إلى المستقبل.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات