من ينقل إنفلونزا الطيور.. الطيور المهاجرة أم السكك الحديدية? أحمد الشربيني

من ينقل إنفلونزا الطيور.. الطيور المهاجرة أم السكك الحديدية?

في فبراير الماضي, شن فيروس إنفلونزا الطيور هجومه الكبير. وفي ظرف أسابيع قليلة, قفز من حدود أوربا والشرق الأوسط إلى أطراف أوربا الغربية ووسط وغرب إفريقيا. وأينما حل الفيروس القاتل حل معه الرعب والفزع والتشوش.

ويعود جانب مهم من هذا التشوش إلى نقص المعلومات, والسرعة الفائقة لتفشي الوباء, وإخفاء عدة دول لمعلومات مهمة حول تفشي المرض في أراضيها, وأخيرا ضعف الإمكانات العلمية والفنية في بعض الدول التي ضربها الوباء أخيرًا, خاصة في إفريقيا.

انعكس هذا التشوش على تعامل المجتمع الدولي مع الوباء. وهناك تساؤلات كثيرة حول مصدر المرض وسبل التعاون معه. وأبسط مثال على ذلك هو الخلاف حول تحديد مصدر انتقال الوباء. فالحكومات والمنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة تؤكد جميعها أن إنفلونزا الطيور عبرت آسيا على أجنحة الطيور المهاجرة.

لكن علماء آخرين ومدافعين عن البيئة يتخوفون من أن نكون على مشارف حماقة كبرى غير مسئولة وغير مبررة. ويقول رتشارد توماس الباحث في الاتحاد الدولي لحياة الطيور Bird Life International في كمبريدج بالمملكة المتحدة: (لقد قبل الناس بالفعل فكرة أن الطيور المهاجرة تنقل المرض). وهناك مؤشرات عديدة على الأرض تثير الشكوك. وآخر هذه المؤشرات جاء من مصر. فحالات التفشي الكثيفة جدا حدثت في قلب مصر في المحافظات الداخلية المحيطة بالعاصمة, خاصة في القليوبية التي تضم أكبر عدد من مزارع الدواجن. بينما لم تسجل إصابات في المحافظات الحدودية, وهي المحطة الأولى التي تستقبل الطيور المهاجرة.

ما هي إنفلونزا الطيور?

ولكي نجيب على هذه التساؤلات علينا أولا أن نشرح طبيعة إنفلونزا الطيور. فإنفلونزا الطيور مرض حيواني معد تتسبّب فيه فيروسات تصيب الطيور بالدرجة الأولى, وكذلك الخنازير في بعض الأحيان. وتصيب فيروسات إنفلونزا الطيور أنواعاً معيّنة من الحيوانات, غير أنّها تمكّنت في حالات نادرة من اختراق الحواجز القائمة بين الأنواع (قفزت (حاجز النوع)) وإصابة البشر. وتتفرّع فيروسات الإنفلونزا إلى ثلاثة أنماط هي: (A), و(B) و (C). وتؤثّر الفيروسات من النمطين (A) و (B) على صحة البشر. ولكنّ الفيروسات (A) هي وحدها القادرة على إحداث جوائح.

وتكتسي الأنماط الفرعية (H) أهمية أكبر من الناحية الوبائية, فهي تتحكّم في قدرة الفيروس على الاتصال بالخلايا واختراقها من أجل التكاثر داخلها. أما الأنماط الفرعية (N) فهي تتحكّم في تحرير الفيروسات التي تتشكّل داخل الخلايا.

متى يصيب البشر?

هناك تغييرات تطرأ على الفيروس H5N1 ليصبح فيروساً جائحاً. ويمكن للفيروس تحسين قدرته على الانتقال بين البشر من خلال آليتين اثنتين. تتمثّل الآلية الأولى في ظاهرة (الاندماج), التي يتم فيها تبادل مواد جينية بين الفيروس الذي يصيب البشر والفيروس الذي يصيب الطيور, وذلك خلال حالات عدوى متزامنة لدى الإنسان أو الخنزير. ويمكن أن تسفر تلك الظاهرة عن ظهور فيروس جائح له القدرة التامة على الانتقال بين البشر. ومن بوادر ظهوره تزايد مفاجئ في عدد الحالات البشرية وانتشارها بشكل مذهل. أمّا الآلية الثانية فهي (الطفرة التكيّفية), التي تُعد عملية أكثر تدرّجاً والتي تتزايد عن طريقها قدرة الفيروس على الاتصال بالخلايا البشرية مع توالي الإصابات البشرية. ومن شأن الطفرة التكيّفية, التي وُصفت في أول الأمر بمجموعات من الحالات البشرية توحي بانتقال العدوى فيما بينها, إعطاء العالم بعض الوقت لاتخاذ إجراءات مضادة.

ويمكن أن تبدأ الجائحة عندما تُستوفى شروط ثلاثة هي: عندما يظهر نمط فيروسي فرعي جديد من فيروسات الإنفلونزا; وفي حال أصاب ذلك النمط البشر وأدّى إلى حدوث وفيات كثيرة; وإذا ما تمكّن من الانتشار بين البشر بسهولة وعلى نحو مستديم. ويستوفي الفيروس H5N1 الشرطين الأولين تماماً: فهو فيروس لم يعهده الناس من قبل (لم يسبق لفيروسات H5N1 الانتشار على نطاق واسع بين البشر), وقد تمكّن فعلاً من إصابة ما يزيد على 100 شخص أدّى إلى وفاة أكثر من نصفهم. وبالتالي لن تكون لأحد مناعة كافية تحميه إذا ما ظهر فيروس جائح من قبيل الفيروس H5N1.

وقد استُوفيت جميع الشروط اللازمة لظهور جائحة سوى شرط واحد: انتقال الفيروس بين البشر بصورة فعالة ومستديمة. وستظل مخاطر اكتساب الفيروس تلك القدرة قائمة طالما أُصيب البشر بالعدوى. وستتواصل إصابة البشر بالعدوى مادام الفيروس مستمرًا في الانتشار لدى الطيور, وقد يستمر الوضع على ما هو عليه لمدة سنوات عديدة.

هل تتسبّب الطيور المهاجرة في انتشار المرض? تقول منظمة الصحة العالمية إنه لا توجد معلومات وافية عن الدور الذي تؤدّيه الطيور المهاجرة في انتشار فيروس إنفلونزا الطيور الشديد الإمراض, المعروفة أيضا باسم إنفلونزا آفيان.

وتُعد الطيور المائية البريّة المستودع الطبيعي لجميع فيروسات الإنفلونزا من النمط (A). وربما حملت تلك الطيور فيروسات الإنفلونزا طوال قرون عديدة دون إحداث أيّة أضرار ظاهرة. ويُعرف أنّ تلك الطيور تحمل الفيروسين H5 وH7, ولكن في شكلهما (الخفيف) عادة. وتشير كثير من البيّنات المسهبة إلى إمكان تسبّب الطيور المهاجرة في إدخال الشكل الخفيف من الفيروسين H5 وH7 إلى أسراب الدواجن, وبعد ذلك يتحوّل ذلك الشكل إلى شكل شديد الإمراض.

ولم تُعزل الفيروسات الشديدة الإمراض من الطيور المهاجرة, في الماضي, إلاّ في حالات نادرة تعلّقت ببعض الطيور التي عادة ما توجد نافقة قرب سرب من الدواجن المصابة بفاشية. وظلت تلك الملاحظات توحي, لمدة طويلة, بأنّ الطيور المائية البريّة ليست من العوامل المتسبّبة في انتقال تلك الفيروسات.

وبات من المرجّح, استناداً إلى أحداث وقعت في الآونة الأخيرة, أنّ بعض الطيور المهاجرة تسهم مباشرة في نقل الفيروس H5N1 في شكله الشديد الإمراض. ومن المتوقّع أن ينتشر الفيروس إلى مناطق جديدة أخرى.

دليل حي

وتعني نظرية مسئولية الطيور البرية عن نقل إنفلونزا الطيور أن الطيور البرية تحمل فيروس H5N1 دون أن تموت أو تظهر عليها أعراض المرض. وباستثناء اختبار واحد أجري على طائر الغطاس grebe في نوفوسيبيرسك, فإن أحدا حتى الآن لم يعثر على دليل حي, أي على طيور مهاجرة تتمتع بالعافية وتحمل في الوقت نفسه فيروس H5N1. لكننا نعلم يقينا أن البط الداجن يمكنه أن يحمل فيروس H5N1 وينشره دون أن تظهر عليه أعراض المرض, وهو ما قد يعني أن البط البري بوسعه فعل الشيء نفسه - يجري علماء الفيروسات تجاربهم الآن للتثبت من هذا الأمر.

وعلاوة على ذلك, هناك أدلة ظرفية على أن حالات التفشي متساوقة مع طرق هجرة الطيور.

ويقول وارد هاجميجير من جمعية حماية البيئة (ويتلاند إنترناشيونال) إن أفضل تفسير لتفشي فيروس H5N1 في منغوليا هو أنه انتقل بواسطة الطيور المهاجرة المصابة بالعدوى والتي اتجهت شمالا انطلاقا من بحيرة كنغاي. أما حالات التفشي التالية فيمكن تفسيرها برحيل الطيور من بحيرة كنغاي إلى مواطنها في سيبيريا حيث اختلطت مع البط البري الذي يأتي إلى المنطقة شتاء من سائر أنحاء أوربا وآسيا, بما في ذلك شاطئ البحر الأسود وجنوبي سيبيريا, أو ربما نقلت العدوى إليه. ويقول هاجميجير إن الطيور التي فشلت في التزاوج عادت باتجاه الجنوب في شهر يوليو, وهو الوقت نفسه الذي حدثت فيه حالات التفشي في سيبيريا وكازاخستان, وحدثت حالات التفشي في البحر الأسود مع موسم الهجرة الرئيسي في الخريف. وتؤيد الدراسات الجينية هذه الفكرة. فكل حالات التفشي في شرقي آسيا التي أجريت عليها اختبارات منذ العام 2004 سببتها سلالة من فيروس H5N1 تعرف باسم (Z genotype). لكن حالة التفشي في كنغاي, وحالات التفشي التي تلتها إلى الغرب, سببتها سلالة مختلفة قليلا, وهي سلالة هجين (Z genotype) والسلالة التالية لها. أما الفيروس الذي تسبب في كل حالات التفشي في الطيور البرية والداجنة في روسيا فكان قريبا جدا من فيروس كنغاي, بينما مات البجع في رومانيا بسبب فيروس قريب جدا من فيروس نوفوسيبيرسك.

ولو كان المرض انتقل بسبب الطيور الداجنة التي نقلت من الصين, لكان من المفترض أن تحدث على الأقل بعض حالات التفشي في أوربا بسبب سلالة Z genotype التي هيمنت على كل حالات التفشي في الصين. لكن لم يعثر على هذه السلالة في أي من الطيور المصابة في غربي آسيا أو أوربا. لكن خوان لوبروث من منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) في روما يحذر: (إننا لم نتعقب كل شيء, لكن النماذج تفترض أن الطيور البرية تنقل المرض إلى مناطق جديدة).

لكن الإجابة لا تعني أن علينا إبادة كل الطيور المهاجرة - وهو التخوف الكبير لجماعات البيئة. فالمشكلة الحقيقية للناس ليست هي الطيور المهاجرة, لكن الطيور الداجنة المصابة. فمن الجلي أنه في كل مكان تفشى فيه الفيروس, كان سوء إدارة مزارع الطيور الداجنة والتعامل الخاطئ معها هما اللذين ينقلان العدوى على نطاق واسع بمجرد أن يصل الفيروس محمولا على أجنحة الطيور المهاجرة. وكل حالات الإصابات البشرية بإنفلونزا الطيور انتقلت إلى البشر من الدجاج في أفنية منازلهم, وليس من البط المهاجر العابر. ويقول لوبروث: (ماذا يمكن أن نفعل مع الطيور البرية? لا شيء. فإطلاق النار عليها سيبعثرها, ويبعثر معها كل شيء تحمله. أما ماذا نفعل مع الطيور الداجنة? يمكن أن نفعل الكثير).

تحد بيئي

وبالرغم من الاختلافات حول مصدر انتقال الفيروس, فإن ظهور مرض إنفلونزا الطيور كتحد لصحة البشر يعكس بجلاء التغيرات الكبيرة التي تحدث في البيئة.

فإنفلونزا آفيان ليست هي المرض الوحيد ذا الخلفية المتعلقة بالصحة البيئية - هناك عدد غير قليل من الأمراض الجديدة المنقولة ظهر في السنوات الأخيرة - حمى اللاسا Lassa, وسارز, والإيبولا, وحمى ماربورج وأخيرا تهديد وباء إنفلونزا آفيان. والعامل المشترك بين كل هذه الأمراض هو أنها تتطور عندما يتعامل البشر بكثافة زائدة عن الحد مع البيئة الطبيعية.

ونحن نعلم أن الطيور المهاجرة ربما تكون عاملا في تفشي المرض. لكنها ليست سبب إنفلونزا آفيان. وهي على الأرجح ليست العامل الوحيد. فحركة نقل البشر للدواجن, أو الطيور البرية التي تعيش, أو المولودة, في الأسر, بل وحركة البشر أنفسهم, تبدو تهديدا مماثلا أو تهديدا اكبر. كما أن أسواق الطيور الحية, التي يمكن أن تسهل ملايين حالات انتقال العدوى المحتملة, هي أيضا تهديد كبير وإن لم ندرك أهميته إلا أخيرًا.

حول خطوط النقل

تعود بدايات الخلاف العلمي إلى مايو من العام الماضي (2005) عندما عثر على الآلاف من الأوز البري ميتا جراء إصابته بالنوع القاتل من فيروس إنفلونزا الطيور H5N1 في بحيرة كنغاي في وسط الصين.

وهناك تغيّر يطرأ ربما على سلوك الفيروس في مستودعه الطبيعي, أي الطيور المائية البرّية. وكان نفوق أكثر من 6 آلاف طير من الطيور المهاجرة في بحيرة كنغاي بعد إصابتها بفيروس H5N1 الشديد الإمراض ظاهرة غير مألوفة وربما غير مسبوقة, نظرا لأنها المرة الأولى التي يموت فيها هذا العدد الهائل من الطيور البرية بسبب المرض.

وأعقب ذلك حدوث تفش على نطاق أصغر بين الأوز والبجع المهاجر في منغوليا. وتبع ذلك ظهور المرض فجأة بين الطيور الداجنة بالقرب من نوفوسيبيرسك في سيبيريا, قبل أن يتحرك غربا إلى خمس مناطق جديدة في روسيا وكازاخستان في أغسطس الماضي, ثم إلى رومانيا وتركيا في أكتوبر, ثم إلى أوكرانيا في ديسسمبر, والعراق في يناير, قبل أن يشن الفيروس هجومه الكبير في فبراير.

ويؤكد حماة البيئة أن حالات التفشي هذه تبدو على الخريطة وكأنها تتوزع عنقوديا حول خطوط النقل والمواصلات السريعة الرئيسية. ويقولون إن هذا يبين أن تجارة الدواجن, وليست الطيور البرية المهاجرة, هي المسئولة عن نقل العدوى. لكن علماء الفيروسات يخبروننا بحكاية مختلفة.

 

أحمد الشربيني 




 





أينما حل الفيروس القاتل حل معه الرعب والفزع والتشوش





البط المنزلي يحمل الفيروس ولا تظهر عليه أعراضه