تشكّل الشرق الأوسط الحديث

تشكّل الشرق الأوسط الحديث

The Shaping of the modern Middle East

نحن أمام كتاب يحتوي على عدد من المحاضرات لمؤرخ شهير صاغها في ستينيات القرن الماضي، وعدلها في التسعينيات، من دون أن يطرأ تعديل على جوهر القضايا التي آمن بها.

مَن هو برنارد لويس؟ إنه أستاذ للدراسات الشرقية وهو مؤرخ يهودي الأصل عمل في جامعة لندن في بريطانيا ثم في جامعة برنستون في الولايات المتحدة، لقد استقر به الحال في الولايات المتحدة حتى وفاته أخيرًا.

كتب عدة كتب عن العرب واليهود والإسلام، وتدور كتاباته حول كيفية استخدام التاريخ لإثبات أن اليهود جزء أساسي من مكونات الشرق الأوسط الثقافية والحضارية عبر العصور ومنذ أقدم العصور.

تحدّث لويس في كتابه أولاً عن العلاقات بين الشرق الأوسط والغرب، وتأثير الحضارة الغربية في المسلمين ومجتمعات الشرق الأوسط، والمراحل التي اتسمت بالاستجابة الشرق أوسطية، فبدأ أولاً بتحديد مفهوم الشرق الأوسط تاريخيًا وجغرافيًا وثقافيًا، ويؤكد أن المصطلح قد تمت صياغته ونحته في بداية القرن العشرين من قبل البحرية الأمريكية وسرعان ما تلقفه الإنجليز لتحديد المنطقة الاستراتيجية ما بين البحر المتوسط وشبه القارة الهندية، ويبدو أن مفهوم الشرق الأوسط كان ولايزال سياسيًا أكثر منه جغرافيًا، وشاع استخدام هذا المصطلح من قبل القوى الإقليمية والدولية وحتى سكان الشرق الأوسط أنفسهم فوجده الجميع مفيدًا، وهو منطقة واسعة تنطبق على الشرق الأدنى القديم، وغني بحضارته، وهي الأقدم في العالم.

لقد وجد هذا المصطلح معارضة من بعض الأوساط الشرق أوسطية، وتلك التي على حدود هذه المنطقة، وبخاصة أن المفهوم يحمل المعنى السياسي أكثر من الجغرافي، ويحمل شبهة أنه جاء مع المد الاستعماري الغربي إلى هذه المنطقة وصاحبه في النصف الأول من القرن العشرين وبعد ذلك. فقد ووجه المصطلح بمصطلحات أخرى مثل: غرب آسيا وغرب شبه القارة الهندية والعالم العربي، لكن الإعلام الغربي والإسرائيلي كثّف وجوده وتأثيره في النصف الثاني من القرن العشرين ليسود ويترسخ هذا المصطلح، وتقزّمت واختفت أمامه المصطلحات الأخرى. وترادف شيوع مصطلح الشرق الأوسط مع مصطلح الشرق الأدنى للربط بين الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة في التاريخ القديم، وفي التاريخ الحديث والمعاصر، فقد كانت أرضه تحمل حضارة منافسة للرومان واليونانيين، وكذلك للمسيحية الأوربية، وهذا الربط حدث في الفكر والدراسات الأوربية منذ أواخر القرن التاسع عشر.

تحديد مفهوم الشرق الأوسط

إن الغرب وهو يتجه نحو تشكيل جديد للمناطق الخاضعة للدولة العثمانية، في ذلك الوقت، كان عليه أن يحدد مفهومًا للشرق الأوسط، وكان له ما أراد لأنه كان سيد الموقف والقوة المؤثرة، وكما نرى ونسمع اليوم عن صياغات جديدة للشرق الأوسط الكبير والجديد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، القوة العالمية الأساسية المؤثرة في الأوضاع الدولية، وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصًا، وعلى الرغم من ظهور مصطلح الشرق الأوسط واستمرارًا للقلق بشأن موقعه الجغرافي المهم والدقيق، إلا أنه يحدد شخصية وهوية واضحة ومتميزة شُكّلت بخصائص جغرافية وتاريخية قوية، ومنذ أمد بعيد يمتد لمئات وآلاف السنين.

وفي الفصل الثاني من الكتاب يقدم برنارد لويس عرضًا للعلاقات بين الشرق الأوسط والغرب، مركزًا على معنى الشرق الأوسط للغرب، ومعنى الغرب للشرق الأوسط، ودرس تعاقب الأحداث لتدخّل الغرب وسيطرته على المنطقة، وقد أعطى أهمية للطبيعة الجغرافية للشرق الأوسط وموارده الاقتصادية وكذلك لموقعه، وكيف أن هذه المنطقة كانت تشكّل مجالاً حيويًا للقوى الدولية باستمرار لمصالحها.

وركز المؤلف وهو يتحدث عن الأقطار العربية ضمن منطقة الشرق الأوسط على أن معظمها صحراء، حتى المناطق الزراعية إما محاطة بالصحراء أو مهددة بالتصحّر، وأن معظم سكان العالم العربي بدو يسكنون الصحراء أو على حدودها.

وفي الأزمنة الحديثة يقول برنارد لويس: «فقد رعاة الماشية جزءًا مهمًا من مواردهم ومقوماتهم الاقتصادية بالتحديث، وأن اكتشاف النفط في هذه الصحارى أحدث تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة، إن اكتشاف النفط كان مثيرًا في منطقة كانت تفتقر إلى مصادر الطاقة». واستعراض الكتاب للتطورات الاقتصادية في العصور المختلفة يوحي بأن المؤلف كان علميًا وموضوعيًا في معالجتها، بيد أن الأمر الخطير هو ماذا يريد برنارد لويس من طرح هذا الموضوع، إن إشارته بطريقة مباشرة وغير مباشرة إلى الصحراء العربية والبادية وثقافتها وتقاليدها التقليدية هي التي طبعت تاريخ العرب حتى في تاريخهم الحديث على الرغم من التحولات التي حدثت في هذه البلدان في التاريخ المعاصر، ولكن الأخطر من ذلك هو ما يتعلق بتركيزه على الجوانب الحضارية والثقافية للعرب مقارنة بما يتعلق بالثقافة العبرية اليهودية، التي يريد أن يصل إلى خلاصة فيها بأنها الأصل، وأنها أقدم من الثقافة العربية في هذه المنطقة، ومنذ آلاف السنين.

تفسير للفتوحات العربية

ثم إن تركيز برنارد لويس على حياة العرب الصحراوية أدى إلى اتهامهم المبطن بأنهم كانوا سبب عدم وجود الأمن على طرق التجارة الصحراوية داخل وعلى أطراف المنطقة عبر العصور المختلفة. وعندما تحدث برنارد لويس عن الفتوحات العربية الإسلامية لمواجهة الروم والفرس في منطقة الشرق الأوسط ركز على أنها توجهت للأراضي الزراعية ودوافعها في الأساس اقتصادية على حساب الأكاديين والكلدانيين والآراميين واليهود حتى قبل الفتوحات، وهي إشارات إلى الهجرات القبلية العربية مثل الغساسنة والمناذرة ويريد أن يقول إن العرب أصلاً ليسوا سكان هذه المناطق، وإن اليهود وغيرهم أقدم منهم فيها. ويقول المؤلف، ويكرر «إن أعظم الغزوات السامية كانت من العرب المسلمين سكان الصحراء في القرن السابع الميلادي، وإن أعظم غزوات السهول كانت غزوات المغول في القرن الثالث عشر الميلادي التي وضعت حدًا للحضارة الإسلامية في العصور الوسطى». وذكر أن التدهور العربي الإسلامي في الفترة من الغزو المغولي حتى القرن التاسع عشر سببه كذلك العرب والمسلمون ونظام الحكم في الشرق الأوسط، وهنا ضمنًا يقصد المماليك والعثمانيين، ولكن ما يؤخذ عليه هو تجاهل تأثير الغرب الاستعماري في منطقة الشرق الأوسط. إن الغزو المغولي دمر الحضارة الإسلامية وغير من نمط الحياة، ونظم الحكم في المنطقة وبعد ذلك لم تكن هناك غزوات أكثر من الصحراء أو السهول عندما ظهرت الحركة الوهابية في الجزيرة العربية في منتصف القرن الثامن عشر، وحاولت محاكاة أسلافهم بالتوسع، ولكنها وقفت عند الحدود الصحراوية، وواجهت عقبات أساسية من الإمبراطورية العثمانية ومن التدخل الغربي. إن البلدان الزراعية في الشرق الأوسط مثل مصر والعراق طوّرت نظام ملكية الأرض وشجعت وجود حكومات مركزية قوية وفي الوقت نفسه بيروقراطية واستبدادية.

إن أقدم الحضارات جاءت من الشرق الأوسط، وأقدم السجلات المكتوبة التي عرفتها البشرية هي من هذه المنطقة - مصرية أو فينيقية أو بابلية. ويقول المؤلف إن مدنًا كالإسكندرية وكسروان وأنطاكيا والقسطنطينية كانت مراكز للحضارة الهلنستية، ومدنا أخرى تأثرت بهذه الحضارة مثل: القدس ودمشق عندما ظهر الإسلام وأصبح إمبراطورية حضارية. يريد أن يقول لنا إن العصر السابق على الإسلام في البلدان التي فتحها المسلمون ليست جاهلية، بل شهدت عدة حضارات قديمة، ويستنتج من ذلك أن الجاهلية بمفهومها المتخلف وليس اللاديني محصورة في الصحراء العربية بين قبائلها وشعوبها.

منافسة للهيمنة

ويركز الكاتب على قضية المنافسة للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط بين مصر والشام والعراق وتركيا وفارس، وأن الصراع الفارسي العثماني في بدايات القرن السادس عشر الميلادي يعيد ذكرى الصراع البيزنطي الساساني ويحاول المؤلف أن يدخل في موضوع اليهود والثقافة العبرية تدريجيًا بعد عرض تاريخي لكل فسيفساء المنطقة وتضاريسها عبر العصور ليقول: بين جبال طوروس وصحراء سيناء والبحر تقع المنطقة التي تكوّن أربعة كيانات وأقطار جديدة هي سورية ولبنان وإسرائيل والأردن، والتي أسماها اليونانيون والرومان بسورية، وأسماها العرب ببلاد الشام، وأسماها التجار الأوربيون بالمشرق.

ويذهب للقول: إن الفلسطينيين والفينيقيين كانوا أناسًا بحريين هم الأقدم جاءوا من الغرب ثم توجه الباقون إليها من الشرق. وإن الإسرائيليين القدماء كانوا سكان التلال التي تولوا الدفاع عنها ضد المحتلين الذين استهدفوا فلسطين.

هذا في عصر الحضارة اليونانية في التاريخ القديم، وإن التراث الثقافي الأقدم للداخل في المنطقة قد حمل إليها من يهودا. ولنتابع ما يقوله بيرنارد لويس: «إن هناك جماعتين من الناس كانتا نشطتين في الشرق الأوسط القديم عاشتا، وكان لهما تأثير كبير في العالم هما: اليونانيون واليهود، واستمر افراد الجماعتين يعرفون اللغة اليونانية واللغة العبرية، وبهاتين اللغتين القديمتين الحيتين حُفظت أعمال خالدة في الدين والأدب، ونقلوها للتراث البشري، وكانت لهم علاقات بارزة في الشرق الأوسط القديم». إن تأمل النص السابق يوضح أن برنارد لويس يستخدم التاريخ سياسيًا هنا ليوحي لنا بأن التراث اليهودي الثقافي في منطقة الشرق الأوسط كان أساسيًا، وأن لليهود حقًا تاريخيًا في هذه المنطقة.

ويقول المؤلف في كتابه الذي نحاول تسليط الضوء على دوافعه ومغزى استخداماته التاريخية: «منذ ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي كانت هناك ثلاث لغات قد سادت في المنطقة كانت واسطة الاتصال والتراث الثقافي: اليونانية والقبطية والسريانية، وهذه اللغات تعود إلى عائلات لغوية مختلفة وغير متصلة هي: اللغة العربية واللغة العبرية واللغة السريانية ثم اللغة الفارسية واللغة التركية. إن اللغات الثلاث مع أنها مختلفة تمامًا في بنائها فإنها وثيقة الصلة ثقافيًا، فهناك مفردات لغوية عربية في اللغة الفارسية وعربية وفارسية في التركية، وأن الكتابة لدى الفرس والأتراك تشبه الحروف العربية، كما يكتب الأوربيون بالأحرف اللاتينية واليونانية، كلاهما يستعير تعابير موجودة لمفاهيم قديمة وتوجد تعابير جديدة لأشياء مستجدة».

ماذا يريد الكاتب أن يقول؟ يريد القول إن اللغة العبرية اليهودية لها خصوصية ولا شبه بينها وبين اللغات الأخرى في المنطقة وبذلك هناك ثقافة خاصة لليهود لها عمقها التاريخي.

اتهامات بالجملة

ودعونا نذهب مع المؤلف في نص آخر في كتابه هذا عندما يقول «إن العرب قد وجدوا أصلاً فقط في الجزيرة العربية ثم هاجروا، وغزوا البلدان الأخرى في المنطقة، وإن العديد من الأقطار في غرب آسيا وشمال إفريقيا التي تسمى اليوم بالعربية قد سكنتها أمم متنوعة قبل ذلك، كانوا يتكلمون لغات عدة مثل: الآرامية في الهلال الخصيب والقبطية في مصر، والبربرية في شمال إفريقيا! وكنتيجة لنجاح موجات (الاستعمار) الفتح المتعاقبة للمسلمين التي ترتبت على نهوض الإسلام في بلاد العرب (الجزيرة العربية) دمجت هذه البلدان في إمبراطورية جديدة امتدت من المحيط الأطلسي وجبال البرانس في الغرب إلى حدود الصين والهند في الشرق». يمكن استنتاج التالي من النص السابق لبرنارد لويس:

أولاً: أن موطن العرب هو الجزيرة العربية، وأن الأقطار الأخرى التي فتحوها أو هاجروا إليها ليست عربية، وأن هذه الأقطار هي لأمم وشعوب أخرى سيطر عليها العرب واستعمروها!

ثانيًا: استخدم تعبيرًا محددًا هو «استعمار العرب المسلمين هذه المناطق»، فإذا كان العرب المسلمون قد حملوا إلى هذه المناطق حضارة وثقافة وترتب عليها تقدم وعصور زاهرة، فمن الخطأ التاريخي القول عنها إنها استعمار، لقد استخدموا القوة لنشر الدعوة الإسلامية ولكنهم أوجدوا حضارة إسلامية عظيمة اعترف بها الكاتب نفسه في صفحات أخرى.

ونلاحظ تركيزًا شديدًا في الكتاب على الإثنية الثقافية العربية والتركية والفارسية ومن ثم العبرية ومدى العلاقة أو الانقطاع في ما بينها، وكثير مما قاله قد يكون صحيحًا من الناحية التاريخية بيد أن الأغراض التي يرمي إليها فكريًا باستخدام الوقائع التاريخية تركز على المختلف بين تلك الثقافات أكثر من المشترك، ثم إنه يريد أن يخلص في النهاية إلى أن اليهود والثقافة العبرية مكوّن أساسي من ثقافة وتاريخ وتراث منطقة الشرق الأوسط في الأساس، وليست طارئة عليها، لا بل الآخرون من العرب سكان الصحراء والجزيرة العربية هم الطارئون على المناطق والثقافات الأخرى في المنطقة على الرغم من بنائهم حضارة إسلامية زاهرة في العصور الوسطى، ويتمادى المؤلف في زرع الخلاف عندما يصل إلى العصر الحديث ليقول إن لبنان ليس عربيًا في القديم ويختلف عن العرب، وأن الدعوة القومية العربية حمل لواءها المسيحيون في الشام، وهي بتأثير الغرب إذ كان جزءًا من ذلك واقعًا تاريخيًا، فما الغرض من إثارة ذلك والتركيز عليه؟! أليس ذلك استخدامًا سياسيًا للتاريخ؟! ويركز المؤلف بعد ذلك كله على الثقافة اليهودية وانتشارها فهي لم تكن قديمًا موجودة في فلسطين فحسب، بل في العراق أيضًا، ومناطق أخرى في الشرق الأوسط وجد فيها اليهود، كما يركز الباحث على التوزيع الديموجرافي لليهود في الشرق الأوسط من خلال هجراتهم الحديثة خلال القرين السادس عشر والسابع عشر ووجهتهم كما يقول كانت الأرض المقدسة (فلسطين).

ويعرج الكتاب على أحداث التاريخ المعاصر وولادة ونشاط الحركة الصهيونية التي عملت على إقامة الدولة اليهودية، واستكمال مشروع هجرة اليهود إليها، إنه كتاب مثير كتبه مؤرخ يهودي متمكن لابد من قراءته ونقده والتعامل معه بوعي تاريخي عميق.

 

 برنارد لويس