وجوه رمبرانت أشرف أبو اليزيد

وجوه رمبرانت

لا نجدُ في تاريخ الفن من عشقَ وجهَه أكثر من رمبرانت, الذي يحتفل محبوه هذا العام بذكرى ميلادِه الأربعمائة ( 1606 ـ 1669). عشراتٌ من الرسوم الأوليةِ (الإسكتشات), واللوحاتِ الزيتيةِ لصورهِ الذاتية منذ مطلع شبابه وحتى رحيله في منتصف العقد السابع من العمر; لكن أحدَّها لا يشبهُ الآخرَ, فهو يمثلُ في كل منها رمبرانت سواه: الصبي في يفاعتِه, والشاب في عنفوانِه, الرجل في جبروته, والكهل في شيخوخته, والقس في تأمله .. حاسر الرأس حينًا وأحيانا مع ألوان شتى من القبعات والعمائم.

قد يشبهُ هذا العمل المنشور له في معرض العربي (مرسومة سنة 1661 ميلادية) لوحة أخرى رسمها الفنان قبل عام واحد, والمتأمل لهما لا يجد فارقا سوى في الإكسسوارات. هكذا جعلت الوحدة والشيخوخة من الفنان موديلا لذاته, يبدل التعابير بين التصوف هنا, والدهشة هناك, بين الرسائل غير المنتظمة التي يمسكها في يده هنا, والعصا التي يقبض عليها هناك.

ها هو رمبرانت يحاول محاكاة صورة الحواري بولص, في مشهده الأخير, شهيدًا, ويبدو وسط الدكنة مقبض السيف المغروس في صدره. قبل أربع سنوات من هذا العمل, يرسم رمبرانت ذلك القديس بولص (1657) وهو يكتب الرسائل, ساندًا رأسه على يسراه. وكأن هذه اللوحة هنا, تكمل ذلك المشهد الماضي.

رمبرانت المولع بأغطية الرأس يختار عمامة شرقية, لا تشبه قبعة الفنان التي يظهر بها في معظم رسومه لذاته. لقد اكتشف خبراءُ الفن, عبر الأشعة السينية, كيف كان رمبرانت يرسم قبعته البيضاء فوق رأسه, في كل رسومه الشخصية, ليترك لنفسه الفرصة ليلونها بعد ذلك محولا إياها إلى عمائم شرقية.

إن الطاقة التي منحها رمبرانت للوحته, حتى ننظر إلى وجهه على الأخص عبر الإضاءة الغامرة له, الممتدة إلى أوراقه ويد السيف, وإضاءة البقع الثلاثة : الوجه والرسائل ومقبض السيف, لتلخص القصة كاملة, بين السبب والنتيجة, بين البداية والنهاية, ويوجز لنا التفسير أيضا سر النظرة الدامية على عيون رمبرانت وتقوس حاجبيه وشفتيه المزمومتين بالألم. لهذا لم يُعن الفنان بأي تفاصيل خارجية, فليس في الغرفة شيء سوى الجدار, الذي ستعلق عليه لوحة الراحل!

دراسة وجوه رمبرانت هي دراسة لحياته وتلخيص لها, مثلما هي تأمل لحيواتنا. وحين يصبح الوجهُ هو الموضوع, يتحول سحر الرسام إلى إضاءات تاريخية ومجتمعية, إلى حيز روحاني, إلى ما هو أبعد من مجرد رسم الملامح, ليصل إلى تلخيص الكون. هنا يعكس الوجه التواضع والنبل, بارتخاءة عضلات الشفتين رغم ضمهما. وفوق العينين جبهة تلهو فيها التجاعيد, تجاعيد السنين والحكايات معًا, المضمر منها والجلي, مجتهدة للحصول على حدقتين متسعتين, ربما سنشاهد فيها نظرة الفيلسوف, ونهايته أيضا.

ربما نزعم أننا نحفظ وجوه رمبرانت عن ظهر قلب, لكن الأمر يحتاج إلى قراءة بعد أخرى, وتأمل بعد سواه, فكل من صوره الذاتية مشهد لا يتكرر, إنها تشبهه, ولكنها تشبهنا أيضا, حين نرتدي أقنعتنا لنحاور العالم, أو نتحدث باسمه, أو نؤرخ له.

 

أشرف أبو اليزيد 




بورتريه لرمبرانت, يعود لسنه 1639م





صورة ذاتية, كانفاه, (1628م)





خطوط أولية مع وجه رمبرانت (1631م)





صورة شخصية للرسام رمبرانت مجسدا دور القديس بول, كانفاه, 91 × 77 سم, 1661م