الجنرال بين الكراكيب وصيادي المستحيل غازي أبوعقل

الجنرال بين الكراكيب وصيادي المستحيل


هللت أقلام عربية كثيرة بين الخليج والمحيط لانتخاب السيد شيراك رئيسا لفرنسا. واتفق الجميع ـ تقريبا ـ على اعتبار الرئيس الجديد تجسيدا للجنرال ديجول بخاصة في مجال سياسة فرنسا العربية. وقرأنا: (أن العالم العربي سيحتل مكان الصدارة في سياسة الرئيس شيراك الخارجية, وأنه سيفاجىء العالم بمبادرة سلام في الشرق الأوسط). حتى أن عنوان إحدى الافتتاحيات وصف انتخاب شيراك بكلمتين: ديجول عائدا.

وينبغي على كل من يريد إلباس الآخرين أثواب الجنرال ديجول (العربية أو الإفرنجية) أن يعرف رأيه بذلك, لأن الجنرال يقول: لا ديجولية دون ديجول. أما من يتحدث عن (الروابط الوثيقة) بين الدول بمعنى لا ينسجم مع مفهوم المصالح فقط, فإنه مضطر إلى تأمل هذه الحكمة الديجولية: (إن الدولة الجديرة باسمها كدولة ليس لها أصدقاء).

ومن المعروف أن ديجول عندما كان برتبة مقدم ـ ركن عمل خلال عشرين شهرا بين نهاية العام 1929 والعام 1931 رئيسا للمكتب الثاني ـ الأمن ـ والمكتب الثالث ـ العمليات ـ في هيئة أركان جيش الانتداب الفرنسي في بيروت, الذي كان مع روفا باسم جيش المشرق, بعد تخرجه في كلية أركان الحرب, وفشل الماريشال بيتان, الذي كان يحب ديجول, في تعيينه مدرسا في الكلية نفسها, لأن ضباط هيئة التدريس قدموا استقالة جماعية, إذا عين ديجول معهم, فكان أن أرسل إلى المشرق. فكيف كان ينظر إلى " المشرق وإلى سكانه " لأنه لا يستعمل كلمة " شعب " أثناء حديثه عنه .

نقل الجنرال ناشان NACHIN في كتابه (شارل ديجول جنرال فرنسا) عن المقدم ديجول: (المشرق. ها نحن فيه منذ عشر سنوات. غير أن انطباعي كأننا لم نسبر غوره أبدا. وكأن الناس فيه غرباء عنا كما كانوا دائما ومثلما نحن غرباء عنهم, وفي المشرق سكان, كانوا دائما غير راضين عن أي شيء ولا عن أي كان. ولكنهم يخضعون لإرادة الأقوى متى ما عبر هذا الأقوى عن إرادت ه. وفي المشرق أيضا سلطة منتدبة لم تعرف حتى الآن من أي طرف ينبغي عليها الإمساك بانتدابها بما يولد قلقا في المشرق بكامله).

لا يتسع المجال لتحليل الأفكار الواردة في هذه السطور. غير أن المرء لا بد له من أن يذكر " المرحوم" بن جوريون, الذي كان يؤكد أن سكان المنطقة لا يفهمون إلا لغة القوة. فهل اقتبس الفكرة عن المقدم ديجول?

نار الجنرال ورماده

يقدم لنا كتاب آخر عنوانه " النار والرماد" مؤلفه المؤرخ الفرنسي ريمون تورنو R. TOURNOUX أفكارا ديجولية ذات صلة بالعرب. كان ديجول يتحدث إلى واحد من خلصائه إبان الثورة الجزائرية اسمه ليون دلبك, فقال له: "دلبك. أنت تعرف جيدا أنني لو استطعت, أو لو كنا نستطيع, لصنعت الجزائر الفرنسية. ولكن الموضوع تم تجاوزه الآن. يجب علينا العثور على صيغة تسمح لنا بالاحتفاظ بالجزائر في منظومة جماعية, ويجب علينا ألا نخاف من ترديد هذه الكلمات: يجب أن تكون الجزائر مستقلة. ومن ثم يا دلبك, هل ترانا نمتزج بالمسلمين إنهم أناس يختلفون عنا. وهل ترانا نزوج بناتنا إلى العرب?" (النار والرماد ص 248 بالفرنسية).

ويعلن ديجول سخطه على العرب في موضوع حرب الجزائر التي يسميها صندوق الكرب والغم. ويصف العرب بأنهم (كراكيب) لأنهم يمنعونه من تصميم سياسة فرنسية طموح وقيادتها. وذلك في الصفحة الستين بعد المائتين من الكتاب نفسه. وكلمة (كراكيب) غير موجودة في لسان العرب وهي كلمة ليست فصيحة في الفرنسية أيضا وتعني مجموعة الأشياء التي لا قيمة لها، أي الكراكيب في لغتنا الدارجة. ولم أجد أفضل منها لترجمة الكلمة التي وصف بها ديجول العرب: LES FOURBIS ARABES. ولو أن الجنرال انتقى الكلمة التي تأتي في القاموس قبل هذه مباشرة, أي كلمةFOURBE بمعنى مخادع أو ماكر لكنا قدرنا له ظروفه. أما الكراكيب فلماذا?.

وفي الكتاب نفسه ـ النار والرماد ـ هذه الحكاية عن العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. كانت الحكومة الفرنسية (الاشتراكية) تعلم الجنرال المعتزل في قريته عن مجريات الأمور, والاستعدادات الجارية للهجوم على مصر, إلا أنه عندما جرى تنفيذ الهجوم استشاط غضبا وقال: إنهم يريدون سلوكا ديجوليا دون ديجول. وعندما سئل: لو كنت في السلطة ماذا كنت تفعل, أجاب: أنا ديجول, لأنني أمثل الشرعية, ومنذ اللحظة التي أعلن فيها المدعو ناصر تحدي الغرب بتأميم قناة السويس, كنت أعلنت من الإذاعة فورا, وأمام العالم كله: اصغ إلي يا سيد ناصر. لست أعرف بالفعل ما إذا كنت ستؤمم القناة, ولكنني أنا ديجول أرسل فورا فرقتين لمهاجمة مصر, وفي خلال ساعتين يكون المظليون من جنودي قد احتلوا القاهرة ولن توقفهم قوة في العالم.

وفي الثلاثين من أكتوبر 1956, استقبل الجنرال, كما فعل أكثر من مرة، المؤرخ ريمون تورنو مؤلف " النار والرماد ", وكتاب " بيتان وديجول", وكان الفرنسيون قد بدأوا يخططون مع حلفائهم البريطانيين للانسحاب من مصر. ودار الحديث حول الأزمة وحول مستقبل الجزائر وإفريقيا السوداء الفرنسية. وعندما سأله تورنو هل سيأتي دورهما وتخرج فرنسا منهما أجابه الجنرال: المسألة ليست نفسها في المنطقتين. الزنوج (أوادم) لا تحركهم العواطف الجامحة كالعرب.. ثم إن العرب لا شيء. لم نر أبدا عربا قاموا ببناء الطرق والسدود والمصانع. وبعد فما هي حاجتهم إليها لكنهم مهرة في السياسة. لست أزعم بعد رواية هذه (النوادر) الموثقة أنها كانت المحرك الوحيد لسياسة ديجول العربية، ولكنني غير معني بالسياسة، لأن شرح سياسة ديجول تجاه الدول العربية المختلفة يحتاج إلى مجال آخر.

صيادو المستحيل

استكمالا للتنقيب في أفكار الجنرال, ولأن الضد يظهر حسنه الضد, نقرأ رأيه بالإسرائيليين وباليهود, لمضاهاته بما قاله عن العرب.

تفرغ ديجول بعد الحرب العالمية الثانية لكتابة مذكراته. وفي الجزء المُعَنْوَنْ: مذكرات الأمل نقرأ بقلمه: " إن عظمة المشروع القائم على إعادة الشعب اليهودي المالك لزمام نفسه إلى الأرض التي مهرها بتاريخه الأسطوري المدهش, والتي كانت أرضه منذ تسعة عشر قرنا, ليس بوسعها إلا أن تسحرني. وأعتبر عودة ذلك الشعب ليجد وطنا قوميا أمرا مثيرا للرضا من الناحية الإنسانية. وأرى في هذا نوعا من التعويض عن كثير من الآلام التي عانى عبر العصور, والتي وصلت إلى أسوأ مراحلها في المجازر التي ارتكبتها ألمانيا الهتلرية).

لماذا كتب ديجول هذا الكلام العاطفي الذي لا يستند إلى قراءة موضوعية للتاريخ? ولماذا اعتبر اليهود شعبا والعرب سكانا نجد تفسيرا لرأيه هذا في (الموسوعة) التي وضعها عن ديجول الصحفي الفرنسي المعروف جان لاكوتور, وجاءت في قرابة ثلاثة آلاف صفحة. ففي الفصل الثامن عشر كتب لاكوتور: "إنه عرض غني بالمعاني. ذلك أن ديجول بحديثه الواضح واستخدامه كلمة الشعب اليهودي وتذكيره بأنه عاد إلى أرض كان يملكها منذ تسعة عشر قرنا, إنما يتبنى الأطروحات الصهيونية. مع أن عددا من المؤرخين اليهود وغيرهم يشككون بهذه المفاهيم, ويرون الفرق الواضح جغرافيا بين الملكيتين القديمة والحديثة. والنقطة التي يختلف بها ديجول مع الفكرة الصهيونية هي في اعتباره المجازر النازية مسوّغا للتعويض على اليهود بملكية أرض فلسطين".

كتاب لاكوتور مليء بالنوادر التي تفيدنا فيما نحن بصدده. وفي الجزء الأول وعنوانه "ديجول المتمرد" نجد هذه السطور: "منذ العام 1491 تاريخ صدور الكتاب الأبيض البريطاني بشأن تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين, أقامت بريطانيا سياستها معتمدة على القومية العربية. بينما كانت سياسة ديجول مغايرة تماما.. غير أن مجموعة من العوامل أدت إلى تلاقي القوات الديجولية مع المقاتلين اليهود في فلسطين, الذين تطوعوا للقتال ضد النازية. وأول هذه العوامل مزاج ديجول وميله إلى صيادي المستحيل, وبالتالي إلى منشيء المزارع المشاع ـ كيبوتزيم ـ ومنها دعوى الديجولية ضد حكومة فيشي بشأن وضع اليهود, وأخيرا إلى ارتياب رجل الثامن عشر من حزيران بالقومية العربية وما يعتمل في صدره من كراهية للإنجليز".

التاريخ إذن يفسره المزاج, فليكن. فكيف انسجم مزاج ديجول الذي نشأ في بيئة جد محافظة وملكية الميول والعواطف وكاثوليكية المعتقد وتؤمن بالملكية الفردية وتكره المشاع, كيف انسجم هذا المزاج مع أمزجة المشاعيين من صائدي المستحيل?

هذا ما لا يفسره لاكوتور ولو أنه أراد له تفسيرا موضوعيا لعثر عليه بسهولة. ففي جدول المصادر التي اعتمدها لاكوتور لوضع موسوعته عن ديجول, نجد اسم دبلوماسي بريطاني هو برنارد ليدفيدج, نشر في لندن سنة 1928 كتابا عنوانه: (ديجول) قبل صدور كتاب لاكوتور بعامين. وكان ليدفيدج قريبا من الجنرال عندما وصل إلى لندن لاجئا في يونيو 1940, ثم أصبح وزيرا مفوضا في سفارة بريطانيا في باريس خلال العامين 1956 و1969 عندما كان ديجول رئيسا.

نقرأ في كتاب ليدفيدج هذه الواقعة: "كانت أولى المنظمات الأجنبية التي أقامت اتصالا مع الفرنسيين الأحرار في لندن هي منظمة الصهيونيين. ففي الخامس عشر من يوليو من العام 1940 زار ممثل للوكالة اليهودية "ديجول " ليعرض عليه المساعدة في نشر أنباء عن حركة الفرنسيين الأحرار في الولايات المتحدة وفي الشرق الأوسط. مع تقارير تقدمها الوكالة عن الموقف السياسي في الولايات المتحدة. وأبرز الممثل مصالح الوكالة اليهودية في سوريا, وعرض عونا ماليا لتنفيذ عمليات دعاية متكتمة في هذا البلد. وتطورت الاتصالات وصدر عن الفرنسيين الأحرار في السابع من أغسطس وفي الثامن منه, توجيه يأمر بتسمية ضباط ارتباط مع مجموعات المهاجرين اليهود في البلاد المحايدة. وفي التاسع من أغسطس عبر الجنرال ديجول شخصيا عن تعاطفه مع الضحايا اليهود الذين يضطهدهم النازيون, ووعد فور تحرير فرنسا بإعادة المساواة في الحقوق وبالعدالة من أجل تلافي الضرر الذي أصاب اليهود أثناء الاحتلال. وكان عديد من الفرنسيين اليهود قد التحقوا به في لندن منذ بداية حركته" .

الغريب أن جان لاكوتور قد خصص ثلاثة فصول من الجزء الأول من "موسوعته" الديجولية شغلت أكثر من ستين صفحة, لوصول الجنرال إلى لندن في السابع عشر من يونيو وإقامته فيها, وتفاصيل حياته اليومية, ومن كان يزوره, وما هي مفروشات مكتبه, وأين اختارت زوجته منزلا عند اشتداد الغارات الجوية الألمانية. كما حدثنا عن المطاعم التي كان يرتادها وعن رأيه في طباخيها ونسي اجتماع الخامس عشر من يوليو 1940 الذي تحدث عنه ليدفيدج. فلماذا?

والأكثر غرابة أن دار نشر عربية معروفة ترجمت كتاب ليدفيدج ونشرته ولم ترد فيه هذه الفقرة الخاصة باتفاق ديجول والمنظمة الصهيونية. فلماذا أيضا? ومازالت نصوص الاتفاق غير منشورة, والمبالغ التي دفعتها الوكالة لتمويل نشاطات فرنسا الحرة غير معروفة. وستبقى كذلك على ما يبدو إن مشروعا في بداياته مثل مشروع ديجول يومئذ, كان يقارع أصدقاءه قبل أعدائه , بحاجة إلى كل مساعدة أيا كان مصدرها ولسنا نحمل ديجول مسئولية عدم قيام الهيئة العربية العليا لفلسطين مثلا, بالاتصال به في لندن. ولكن لماذا تبقى هذه الاتفاقية طي الكتمان?

لم أسرد هذه الحكايات لشرح سياسات ديجول العربية والصهيونية والمتوسطية. غير أن مسارعة الإعلام العربي إلى وضع خاتم ديجول على كل سياسي انتمى إلى تياره, والتأكيد بأن كل (ديجولي) سيسلك في المنطقة العربية سلوك الجنرال, يؤدي إلى تشويه الواقع. فهل نتمنى أن يكون رأي الرئيس شيراك بالعرب وبالإسرائيليين مماثلا لرأي ديجول? ألا نحس نحن العرب بقليل من الضيق لنعتنا بالكراكيب, وبكثير من الغيرة لعدم اعتبارنا من صيادي المستحيل ? على كثرة الصيادين بيننا. هذا إذا لم نطالب ديجول بأن ينعتنا بـ (شعب النخبة الواثق من نفسه والمحب للسيطرة).. هذه الصفات التي أطلقها على اليهود بعد يونيو 1967 ودفع ثمنها غاليا مع أنه أقسم على أنه تفوه بها عن حسن نية.

الإسلام والنفط

لا بد لكل من يريد فهم الفكر الديجولي, من قراءة كتاب (الرفاق السريين) الذي يضم (التعاليم السرية للجنرال ديجول). من كان هؤلاء الرفاق وكيف كانوا يعملون? يزيح الكتاب الستار عن جانب من شخصية الجنرال كان مجهولا.

فقد كان موقفه من الإسلام موقف رفض لفهم هذا الدين. وهو موقف مستغرب من قائد تاريخي يرى لبلاده رسالة عالمية إلى الإنسانية كلها. فلقد حاول ديجول فهم ألمانيا تاريخا واستراتيجية وفنا عسكريا وكانت أكثر الدول عداء لفرنسا. وفهم من العهد القديم التفسير الأسطوري للتاريخ اليهودي بشكل خاص. وتعمق في دراسة الماركسية وأرجعها إلى أصول فرنسية واستشهد بماركس نفسه على ذلك. كما فهم أمراض الرأسمالية المعاصرة وتنبأ لها بالانهيار. ورأى قبل غيره أوربا من الأورال إلى الأطلسي. أما الإسلام فإنه كان يرفض فهمه. حتى أوصله هذا الرفض إلى ارتكاب واحد من أضخم أخطائه السياسية, اعترف به فيما بعد.

فقد رفض ديجول الرأي القائل ببدء كل اتفاق مع جبهة التحرير الجزائرية بجملة بسم الله الرحمن الرحيم, التي تلزم وحدها كل مسلم. وعلى هذا بوسعنا الاعتقاد بأن ديجول وحده يحمل مسئولية دم المواطنين المسفوك هدرا أثناء الأحداث العنيفة التي تلت وصوله إلى السلطة مرة ثانية. وجاء في كتاب " الرفاق السريون" وإذا نظرنا إلى الواقع فإن أكبر موردي النفط العالميين هم من المسلمين. وهم أعضاء مطيعون, بأشكال مختلفة ـ للاتحاد الإسلامي ـ الذي لا يبخل بالوسائل للحصول على هذه الطاعة.

 

غازي أبوعقل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جاك شيراك