حول الكتابة التاريخية عند المسلمين حسين أحمد أمين
مازلنا في حاجة إلى نظرية نقدية لكتابات التاريخ الإسلامي. فقد غلبت عليها الأهواء والخوف من السلطات. ورغم أنها مرت بفترة مزدهرة بلغت ذروتها مع ابن خلدون إلا أن عصور الانحطاط الفكري قد أثرت كثيراً في نظرتها الموضوعية.
مازلت إلى اليوم أذكر إذ كنت في الثالثة عشرة من العمر، وطلب مني مدرس التاريخ إعداد بحث عن الصراع بين الأمين والمأمون ألقيه على طلبة المدرسة النموذجية الثانوية مجتمعين.. أعددت البحث، وكان هواي فيه مع المأمون ضد الأمين، ثم رأيت أن أقرأه على والدي قبل إلقائه بالمدرسة، فإذا بي أسمع منه يومها درسا لم يبرح ذاكرتي إلى اليوم، عن كيف أن المصادر الرئيسية الوحيدة التي تعرضت لهذا الصراع بين الأخوين العباسيين هي أربعة: تاريخ اليعقوبي (وهو شيعي)، وتاريخ الرسل والملوك للطبري (وهو فارسي)، والأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري (وهو فارسي)، والفخري لابن طباطبا (وهو شيعي). فإذا هي إذن إما فارسية أو شيعية، وإذ كان هوى الفرس والشيعة مع المأمون وضد الأمين، فإن هذا لمما يلزم القارئ والمؤرخ الحديث بالتزام الحذر والحيطة البالغين، وبأن يدركا دائما أن غرض المصادر هو الإساءة إلى سمعة الأمين وإعلاء شأن المأمون، وأن الصورة النهائية لشخص الأمين لا يمكن على أي حال أن تكون بمثل هذا السوء أو التشويه الذي يبدو عليه في تلك المصادر.
ثم ضرب لي أبي يومها أمثلة أخرى: كالحرب بين علي ومعاوية، وتاريخ الدولة الأموية كله، وهما ما لم يتعرض لهما من المصادر القديمة سوى مؤرخين كتبوا في ظل دولة العباسيين الذين أسقطوا حكم الأمويين، أو مؤرخين من الشيعة الناقمين على بني أمية.. وكذا تأريخ عز الدين بن الأثير في كتابيه "الباهر" و "الكامل" لعهد صلاح الدين الأيوبي، إذ يجب أن نذكر جيدا ولاء هذا المؤرخ لدولة الأتابكة التي أطاح صلاح الدين بها.. أما فيما يتعلق بتراجم شخصيات التاريخ الإسلامي، فقد يكفي أن نذكر في هذا الصدد الظلم الفادح في التراجم التي وصلتنا عن الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن أبيه وعبيد الله بن زياد- وجميعهم من أعظم الإداريين في تاريخ البشرية- لا لشيء إلا لأن ميول كتابها كانت إما شيعية أو عباسية..
كنه الإرادة الإلهية
إلى والدي إذن يرجع الفضل في أن غرس في منذ سن مبكرة النظرة النقدية إلى مصادر التاريخ الإسلامي، وعلمني أهمية " العنعنة" أو سلاسل الرواة (التي كثيراً ما نسمع المتفرنجين اليوم بيننا يسخرون منها في حديثهم عن التراث العربي) في تمحيص صحة الروايات، وضرورة التدقيق لمعرفة هوى المؤرخ وسيرته، والعصر الذي كان يكتب فيه، والخليفة أو الوالي الذي كان يخدمه أو تصله جوائزه أو رواتبه، فما شرعت جادا في دراسة التاريخ الإسلامي بعد هذا بسنوات، إلا كنت قد تعلمت أن ألتزم التزاما صارما بتلك المعايير ومناهج البحث وطرائق النقد والتمحيص.
غير أني ما قطعت شوطا في قراءة المؤرخين المسلمين القدماء، حتى تعلمت أن أكن لهم احتراما وتقديرا عميقين، مقرونين بشيء من الدهشة، وأن أصل إلى الاعتقاد بأنه ما من أحد من مؤرخي العالم الغربي- ربما سوى ثيوسيديدس وتاسيتوس وجيبون- يفوق في موضوعيته ودقته وجديته مؤرخين مثل الواقدي والبلاذري والطبري ومسكويه والمقريزي والجبرتي.
لقد أنكر البعض على المؤرخين المسلمين القدامى في كتابتهم لتاريخ العالم الإسلامي بعد وفاة النبي اكتفاءهم بسرد الأحداث دون عناية بتعليق، والإقدام على تسجيلها دون وجهة نظر مسبقة.. وقد كان وراء منهاجهم هذا في الكتابة، ووراء ذلك القدر المذهل من الموضوعية الذي تتمتع به مؤلفاتهم، اعتبارهم التاريخ المظهر الخارجي لإرادة الله في عالمنا هذا، واعتقادهم أنه بالإمكان التوصل إلى كنه هذه الإرادة باستقراء ظواهرها. ومن ثم فقد رأوا واجبا عليهم تسجيل هذه الظواهر في صدق، والإحجام عن الهوى في الانتقاء.. فهم هنا أشبه بالمحقق في شأن من الشؤون، أو قضية من القضايا، يجمع ما بوسعه جمعه من المعلومات والحقائق، دون أن يدري أيها سيكون ذا صلة بالكشف عما يريد كشفه. ولا يعني هذا أنهم كانوا لا ينتقون، (إذ من ذا الذي بوسعه أن يسجل كل صغيرة وكبيرة بصدد أي أمر من الأمور؟)، كما لا يعني أنهم جميعا كانوا يتعففون عن مراعاة هوى الحكام، أو مقتضيات المذاهب التي يتبعونها. غير أن المؤكد أن المؤرخين المسلمين في العصور الوسطى ألزموا أنفسهم بقسط من الموضوعية يندر أن تجده في غيرهم، وأن ورعهم كان له الفضل الأول في ذلك.
لقد بدأ الكثيرون منهم- كالواقدي والطبري- حياتهم بالكتابة في التفسير أو الحديث أو السيرة. وإذ تحولوا إلى كتابة التاريخ التزموا فيها بالمنهج والدقة والورع والمعايير أنفسها التي أخذوا أنفسهم بها في تعرضهم للحديث والسيرة وتفسير القرآن. فإن كان الورع دفع غيرهم من المؤرخين إلى الكذب والتلفيق عن حسن نية، فقد كان مفهم الورع لدى المؤرخين المسلمين هو التزام الصدق والأمانة قدر الإمكان، وهما ما قد يسميان في زمننا هذا بالروح العلمية.
نشأة الكتابة التاريخية عند المسلمين
ويقودنا هذا إلى الحديث عن نشأة الكتابة التاريخية عند المسلمين: ما انقضت فترة وجيزة على وفاة الرسول، حتى كان العرب قد انطلقوا من بيدائهم انطلاق الجني العملاق من قمقمه، فإذا هم بعد انصرام قرن من الزمان قد امتد سلطانهم من نهر جيحون في آسيا الوسطى إلى أقصى شمال إفريقيا عند المحيط الأطلسي، وباتوا يحكمون شعوبا شديدة التباين في عاداتها وأخلاقها وبيئاتها وحضاراتها عن أهل شبه الجزيرة، وأسسوا مدنا جديدة أو سكنوا مدنا قائمة.
تزخر بسكان هم الآن في حاجة إلى شريعة أكثر تعقيداً وأوفى تفصيلا من تلك التي كانت كافية لأن تحكم مجتمعا في بساطة مجتمع مكة والمدينة، خاصة وقد واجه المسلمون ظروفا لم يتحدث القرآن عنها، أو تحدث عنها ولم يورد بصددها غير مبادئ عامة دون التفاصيل.
إزاء هذا التوسع الجغرافي الهائل، وإزاء ضغط الظروف التاريخية الجديدة دائبة التغير، واختلاف الزمان والمكان، تلمس المسلمون وفقهاؤهم الدليل الهادي وقد كان من الطبيعي أن تقودهم تقواهم إلى تلمس الدليل عند المصدر عينه الذي نزل الوحي عليه وبلغ رسالة السماء. فكان أن شرع الجيل التالي للصحابة، جيل التابعين، يجمع روايات أقوال النبي وأفعاله، واتخذ من هذه السنّة مصدراً ثانيا للشريعة، لا يعلوه غير القرآن. وقد افترض أنصار الالتزام بالسنة أن العناية الإلهية إنما كانت توجه كل عمل أتى به النبي، وكل كلمة صدرت عنه منذ بعثه الله رسولا إلى قومه إلى أن مات. ومن ثم فقد رأوا أن أحكام السنة ملزمة في الحالات التي لم يرد بصددها حكم قرآني.
وربما كان من أهم ما دفع الفقهاء إلى جمع الحديث والروايات المتعلقة بسيرة النبي وأفعاله، واتخاذ السنة مصدرا للشريعة، تلك الرغبة العظيمة لدى جمهور الأتقياء ممن لم يعاصروا النبي في معرفة كل ما تحدث به أو بدر عنه حتى يكيفوا حياتهم وسلوكهم على هديه، وتلك الخشية من الوقوع فيما يخالف أحكام الدين، واستحداث ما قد لا يتفق وإرادة الله. وقد شاع بين الناس حديث الرسول (الذي أورده النسائي): " شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". فكان كلما طلع عليهم أحد الفقهاء برأي قالوا له: "أهو شيء سمعته عن رسول الله أم هو رأي ارتأيته؟" فأدرك الفقهاء أنه ما من فرصة أمام الرأي لأن يصادف القبول لدى جمهور المؤمنين ما لم يستند إلى سنة متواترة، أو يزعم أن له أصلا في الحديث.
علم الرجال وكتب السيرة النبوية
ومن هنا أدى علم الحديث إلى نشأة علم الرجال، أي العناية بدراسة سيرة رواة الحديث، والتحقق من تاريخي ميلادهم ووفاتهم، وسفرهم ومقامهم وسلوكهم الشخصي، من أجل التأكد من ورعهم، ومن أنهم ثقات يؤخذ عنهم، ومن الاتصال الزمني بينهم وبين من نقلوا الحديث عنهم، ومن إمكان التقاء هذا بذاك في مكان معين في زمن معين.
علماء الحديث والرجال إذن هما الخطوتان الأوليان من خطوات ثلاث في سبيل نشأة الكتابة التاريخية عند المسلمين، فأما الخطوة الثالثة المكملة واللازمة لهما فهي كتابة السيرة النبوية من أجل الإحاطة بأفعال الرسول.
وهنا ينبغي التنبيه إلى أمر جد مهم: وهو أن الصدق والموضوعية كانا أوفر في مؤلفات كتاب السيرة الأوائل الأقرب إلى زمن النبي، كعروة بن الزبير بن العوام (643- 712 م)، وأبان بن عثمان بن عفان (642- 723 م)، وموسى بن عقبة (توفي عام 758 م)، وحديث المعجزات فيها أقل، والصراحة أكبر. وقد ضاعت مع الأسف هذه المؤلفات فلم يصلنا منها غير فقرات أوردتها كتب ابن إسحاق والواقدي وابن سعد والطبري وغيرهم. وترجع سمة الصدق والصراحة هذه في كتابات الأوائل إلى أسباب أهمها: أن القيم والمعايير والأذواق في عصرهم المقارب لعصر النبي لم يكن قد طرأ بعد عليها تغيير كبير، وأن حديث الصحابة ومعاصري الرسول عن أحداث زمانهم وأفعال النبي وأقواله كانت لا تزال حية في أذهان التابعين. أضف إلى ذلك أن إعجابهم الشديد بشخصية النبي وحرصهم على الإحاطة بكل ما صدر عنه من أقوال وأفعال، وبكل صغيرة وكبيرة تتعلق به، ومن أجل إرساء دعائم الفقه والشريعة ومعرفة حكم الدين في أدق تفصيلات الحياة اليومية، كل ذلك دفعهم إلى تسجيل كل ما يسمعون عنه، لا ينتقون ولا يتخيرون، ولا يستشعرون الحرج إزاء تدوين هذه الواقعة أو تلك. فكل ما صدر عن النبي خليق بالتوقير والدراسة، وإن كان هناك من الأفعال ما يصعب فهم بواعثه، أو لا يتفق مع العرف الشائع، فإن المشكلة إنما هي في قصور فكرهم عن إدراك المغزى الذي قد تكشف الأيام عنه، والحكمة التي قد تتضح لأجيال تالية. وكان هذا دون أدنى ميل منهم إلى انتهاج نهج النصارى مع المسيح عليه السلام، ودون أن تغيب عن أذهانهم فكرة أن محمدا إنما هو بشر مثلهم، يوحى إليه. فكان موقفهم إذن من السيرة النبوية متفقا مع موقف رجال الحديث، ثم المؤرخين المسلمين بعدهم من علم التاريخ.
ازدهار الكتابة التاريخية عند المسلمين
على هذا الأساس إذن ارتفع صرح الكتابة التاريخية عند المسلمين. وقد كان من بين أعلامها الأوائل محمد بن جرير الطبري (839- 923 م) الذي بدأ محدثا فمفسرا للقرآن فمؤرخا. وبالرغم من أننا اليوم نحل تفسيره مكانة أعلى بكثير من مكانة تاريخه، فلا مفر من الإقرار بأنه قام في " تاريخ الرسل والملوك" بعمل مشابه لما قام به البخاري ومسلم في الحديث، وهو اختيار المادة التاريخية الصحيحة من مجموع المواد التي تقدمها كتب الأولين. وقد أسبغ على كتابه هذا تدقيق المتكلمين والفقهاء، مما أكسبه مكانة مرموقة في الأوساط الفكرية السنية في الإسلام، وجعل له أثرا عميقا هائلا في المؤرخين التاليين له الذين اعتبروه مثلا يحتذى في الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه كتب التاريخ.
ومع ذلك فقد كان هناك المجددون أيضاً. فقد تحول المسعودي مثلا (توفي عام 956 م) عن الحوليات التي أرخ فيها الطبري للحوادث سنة بعد سنة، إلى سردها في رواية واحدة متواصلة، مستغنيا عن الإسناد، بل وعن ذكر المصادر إلا فيما ندر. وقد حقق المسعودي واليعقوبي تحرير الكتابة التاريخية من قالبها الديني، وجعلاها علما مستقلا. ثم خطا مسكويه (توفي عام 1030 م) خطوة أوسع في هذا السبيل، وهو الذي شهد له الكافة بأن مؤهلاته لكتابة التاريخ كانت أعظم من مؤهلات الطبري. فإذ كان مسكويه قد عمل مدة طويلة في خدمة ركن الدولة وعضد الدولة، أضحت له ميزة كبيرة وفرتها معرفته الشخصية بمشاهير رجال عصره، وقدرته على الحصول على المعلومات من مصادرها الأصلية. أضف إلى ذلك أنه كان ملما بمناهج الإدارة وأساليب الحرب، مما يسر له وصف الأحداث وصف عارف، والحكم على التصرفات والسياسات حكم واقف على دقائقها. وبينما نجد الطبري مقلا في ذكر اقتصاديات الدولة، نجد مسكويه يفيض ويدقق ويوضح ذلك الجانب الحيوي من التاريخ السياسي.
وقد بلغت الكتابة التاريخية عند المسلمين ذروتها بمقدمة ابن خلدون (1332- 1406 م) فبالرغم من أن تأريخه لدول العالم الإسلامي- عدا شمال إفريقيا- يعتمد اعتمادا كبيرا على من سبقه من المؤرخين، خاصة الطبري وابن الأثير، فإن مقدمة الكتاب أحلت صاحبها مكانة سامية في تاريخ الفكر الإنساني، وهي التي وصفها المؤرخ البريطاني أر نولد توينبي بقوله: " إن ابن خلدون وضع فيها فلسفة وقاعدة للتاريخ لا نشك في أنها أعظم عمل من نوعه قام به عقل بشري في أي زمان ومكان ". وقد عالج ابن خلدون فيها ما نسميه الآن " الظواهر الاجتماعية "، وما يسميه هو "أحوال الاجتماع الإنساني "، راميا إلى الكشف عن القوانين التي تخضع لها هذه الظواهر في نشأتها وتطورها. وهي قوانين لم يعن أحد من قبل ابن خلدون بالكشف عنها، ولا درسها عالم قبله كما تدرس ظواهر الفلك والطبيعة والكيمياء ووظائف الأعضاء وما إلى ذلك من العلوم، فقد كان المعتقد أن ظواهر الاجتماع خارجة عن نطاق القوانين، وخاضعة لأهواء القادة وتوجيهات المشرعين ودعاة الإصلاح. فجاء ابن خلدون مبينا أنها لا تسير حسب المصادفات والأهواء، ولا حسب ما يريده لها الأفراد، وإنما تسير في نشأتها وتطورها حسب قوانين ثابتة مطردة، كالقوانين الخاضع لها القمر في تزايده وتناقصه، والنهار والليل في اختلافهما باختلاف الفصول.
قرون الانحطاط الفكري
غير أنه بمضي السنين، وبازدياد تحرر المؤرخين المسلمين من تأثير الفقهاء ورقابتهم، وانفصال الكتابة التاريخية عن علوم الدين، أثار المؤرخون عداوة الفقهاء وريبتهم، وهما عداوة وريبة تحولتا إلى حرب مريرة على المؤرخين في عصور الانحطاط الفكري في الدولة الإسلامية. وقد أسفرت هذه الحرب عن انتصار الفقهاء، وعن اضطرار المؤرخين إلى تبني موقف من أحداث الماضي شبيه بموقف الفقهاء منها، وأضحى الهدف من الكتابات التاريخية هو الهدف الذي حدده الفقهاء للمؤرخين، ألا وهو أن يكون علم التاريخ وأدب التراجم وسيلة من وسائل غرس القيم الدينية، والمبادئ الأخلاقية الرفيعة، والمثل العليا. لا تسجيل الحقائق بأكبر قدر مستطاع من الموضوعية بعد تمحيص ما تجمع منها لدى المؤرخ من أجل معرفة كنه الإرادة الإلهية.
وكان أن بدأت الأيدي تمتد إلى التاريخ والتراجم والسيرة النبوية ذاتها لطمس بعض الحقائق، أو اختراع القصص من أجل التخفيف من تأثير معين أو إزالته، أو خلق تأثير معين وتقويته، على أساس من التشكك في قيمة الحقيقة ما لم تكن تخدم غرضا أخلاقيا أو دينيا. ومن هنا بدأت تتكون نظرة المسلمين الرومانسية إلى تاريخهم وأبطال ماضيهم وأضحت للحقيقة التاريخية مكانة تقل في الأهمية بكثير عن هدف الوعظ وبيان نماذج السلوك التي ينبغي على المتقين أن يحذوا حذوها أو يتجنبوها. ومثل هذه النظرة إلى التاريخ وشخصياته لا شك في أنها لا يمكن أن تخدم الفهم السليم لمجريات الأمور والأحداث التاريخية.
ثم جاء الغزو العثماني للأقطار العربية بما صحبه من موات فكري، فانصرفت غالبية المسلمين عن القراءة إلا في كتب الأدعية والحديث والشعر والحكايات الشعبية، وأدارت للمؤلفات التاريخية ظهرها حتى نسيت ماضيها أو كادت، وحتى أهمل العلماء والمشايخ الكتابة في هذا الميدان - ، إلى أن ظهر الجبرتي في مستهل القرن الماضي بكتابه الخالد " عجائب الآثار " فأعطى دفعة جديدة للكتابة التاريخية عند السلمين.