لوحات غادة الكندري وجوه جريئة وألوان صادمة يحيى سويلم

لوحات غادة الكندري وجوه جريئة وألوان صادمة

في هذا المعرض خصصت الفنانة لوحاتها لأفراد أسرتها ومن يحيط بها من أقارب وأصدقاء, لقد تأملت كل من حولها من شخصيات, وأنشأت لهم أدوارًا على سطح لوحتها بكل ما يعلو سحناتهم من ملامح مميزة وتعابير مختلفة.

في معرض غادة الكندري مجموعة من الوجوه بأحجام ولوحات تحشد فيها مجموعات من الأشخاص, وهي أكبر من حجمها منفذة بمادة الأكريلك على القماش المشدود, ولا يمكن المشاهد المتجول بين اللوحات إلا أن يعيش حالة بصرية من البحلقة في عيون شخوصها المرسومة, والتي تؤكد في وجوهها على عيون محدقة في اتجاه أمامي لناظر اللوحات حتى يختلط عليك الأمر.

بعد وهلة, مَن ينظر للآخر, أنت كمشاهد للوحة أم العكس هو الصحيح? تحمل هذه الوجوه تعبيرات مختلفة لحالات انفعالية, ولنقل هذا الإحساس مباشرة للمشاهد, تتوسل البقع اللونية الصادمة, التي تحدثها شطحات فرشاتها في مناطق المكياج الأنثوي من الوجه. وتلجأ أيضًا لتوحيد شكل الشعر لتبدو وجوهًا تعتمر شعرًا مستعارًا (باروكة) جميعها بتصفيفة واحدة.

أحبّت غادة أن تقول لي - وهي نادرة القول وهذا جيد - بأن هذه اللوحات الأقرب إلى نفسها, ومارست إنتاجها بسلاسة وراحة بال, إنها أعمال لمجرد اللعب والمتعة الجمالية الخالصة.

ولا مانع من ذلك اللعب إن أوجد فعلاً جماليًا.

يقول سيلر: (إن الإنسان وحده, هو الذي يلهو ويلعب, وفي لهوه ولعبه أعمق المعاني الإنسانية).

وعندما تشرع الفنانة غادة الكندري في إقامة معرض شخصي جديد لأعمالها, فإنها تثير لدي العديد من الشجون وتداعي الأفكار والخواطر.

نحن نعيش في مجتمعات لها مشاكلها, والمرأة على وجه الخصوص لها مشاكلها ومسئولياتها, بالإضافة إلى هذا الكم الهائل من الضغوط التي تمارس عليها, فهي محكومة بتقاليد وقوانين الأسرة الاجتماعية المقيدة لها, بل والمهددة دائمًا بانتزاع حريتها, مع أن الأصل في ثقافتنا أن المرأة غير مضطهدة, وهي صاحبة رأي, وقد أعطتها الحضارة الإسلامية الكثير الكثير, خلاف ما كانت عليه الحضارات الأخرى, فقد تجنى المجتمع الإغريقي كثيرًا على المرأة, ولم يسمح لها بأي عمل أو استقلال اقتصادي, أو أي مشاركة في الحياة العامة, وعليها أن تأتمر بأمر الرجل.

المرأة والغبن الاجتماعي

في نوفمبر عام 1995, أصابتني الدهشة عندما التقيت الفنانة الأمريكية سوزان كرايل (1942) أثناء حضورها للكويت لعرض سلسلة لوحاتها (نيران الحرب) حول حرائق النفط, وهي أستاذة في كلية هنتر في مدينة نيويورك, ولها أعمال منتشرة في الكثير من متاحف الولايات المتحدة خاصة في المتروبوليتان وجاجنهيم بنيويورك, ومجموعة فيليبسي بواشنطن, ومتحف بروكلين للفنون وبورتلاند...إلخ, ومع هذا تعاني وتشتكي مر الشكوى الغبن وضغوط المجتمع وأعرافه المستبدة في الولايات المتحدة والمكبّلة لطموحات المرأة المبدعة, وانحيازه الدائم للرجل.

..نعم, فلقد خسرت البشرية بسبب التعطيل الطويل لحقوق المرأة الإبداعية ومساهماتها الحضارية بهدر دورها وشل قدراتها, وبالرغم من أن دور المرأة العربية الإبداعي يبدو هامشيًا في معظم الأحيان, فإنها أثبتت قدرتها وعزمها في خوض غمار الفنون بمختلف مجالاتها, من تصوير ونحت وجرافيك وخزف...إلخ.

وبرزت عشرات الأسماء لفنانات عربيات بدأن نشاطهن مبكرًا في ثلاثينيات القرن الماضي, وأسسن لحركة تشكيلية فنية أثمرت خلال مسيرة طويلة من الإصرار والمثابرة تحقيق إنجازات إبداعية لافتة.

وقد لحقت المرأة في الكويت بالركب أخيرًا, عندما نشطت حركة الاتصال في الأربعينيات من القرن الماضي بين الكويت والدول العربية وخاصة القاهرة وبيروت وبغداد, إلى أن تحققت نهضة تعليمية وثقافية متقدمة, تعاظم شأنها مع الأيام بإنشاء نظام تعليمي حديث, فساهمت المدارس النظامية بمناهجها الحديثة في استقطاب أصحاب القدرات الفنية والخبرات التربوية للتدريس بها, والمشاركة في إعداد أجيال مبشّرة من الفتيات.

وظلت مساهمة المدرسة النظامية (دائرة المعارف) في رعاية وتنظيم المعارض الفنية التي كان لها دور فعال ومهم في اكتشاف ودفع القدرات الإبداعية لكثير من الفتيات, إلى أن لاحت أول فرصة في أول معرض فني عام لتشارك به فنانات كويتيات مثل حصة مهلهل وفتوح الجاسم وأخريات في (معرض البطولة العربية) عام 1958 المقام بصالة ثانوية الشويخ بمناسبة انعقاد مؤتمر الأدباء العرب.

أفكار تنويرية

وكان هذا إيذانًا بتبني فكرة جديدة من رجل التنوير الثقافي الأستاذ عبدالعزيز حسين مدير المعارف في ذلك الوقت, فبعد أن ظل النشاط الفني بالكويت محدودًا بين جدران المدارس, أو كاد يظل كذلك لسنوات عدة, آن له أن ينطلق عندما شرعت دائرة المعارف في إقامة المسابقات, وتبني نشر الثقافة الفنية على نطاق عام, فنظمت لفكرة معرض الربيع الأول عام 1959 على أن يعقد سنويًا في شهر أبريل من كل عام, ومن خلال هذه المعارض, برزت بصورة قوية طلائع لمجموعة كبيرة من الفنانات الكويتيات باتجاهات فنية جريئة نذكر منهن: شريفة النصف, منيرة بورسلي, ضياء الغانم, سعاد الغربللي, حياة لنقاوي, نجيبة عبدالاله, سامية السيد عمر, نسرين وفوزية عبدالله, موضي الحجي, شيخة سنان, سرعان ما أصبحن نواة للمشاركة في التجمعات الفنية لجمعية الفنون التشكيلية ومنتسبي المرسم الحر للفنانين المتفرغين, ويوما بعد يوم ازدادت أعداد المنخرطين في النشاط التشكيلي والمشاركة في المعارض الفنية الجماعية, التي تنظمها مؤسسات الدولة الثقافية والجاليرهات الخاصة, وكثيرات منهن أقمن معارض شخصية ناجحة تستحق التقدير والإشادة, فعلى سبيل الذكر لا الحصر, عرفنا الفنانة منيرة القاضي, ومع الأسف لا يعرفها الكثيرون في بلادنا, بالرغم من أنها تعتبر واحدة من أبرز فناني العرب في فن الحفر والطباعة ETCHING, وقد سجلت نجاحًا وشهرة لا يستهان بهما في بريطانيا, وعرفها المجتمع الفني اللندني لسنوات عدة في الستينيات حتى أوائل السبعينيات, وأعمالها في متاحف نيويورك ولندن وجنوب إفريقيا ويوغسلافيا وبعض الأفراد في الكويت, صبيحة بشارة التي أبدعت في النحت والتصوير, وسامية السيد عمر التي درست في أكاديمية سان فرناندو بإسبانيا, وسعاد العيسى وموضي الحجي وثريا البقصمي, إلا أن ممارسة الفن التشكيلي لا تخرج عن دائرة التجارب الذاتية في معظم الأحيان, وقد توارى بعضهن لما تعرضن له من عوائق وصعوبات المجتمع والحياة عمومًا.

ومع تزايد الحضور التشكيلي النشط للمرأة في الكويت في التسعينيات, وفي غمرة تدفق لسيل جارف من التجارب الفنية النسائية العشوائية غير المرشدة, تظهر لنا الفنانة غادة عبدالرزاق الكندري, بطرحها الفني الجاد, وبأسلوب تعبيري مميز ينم على تمتعها بموهبة فنية بدت واضحة منذ معرضها الأول بقاعة بوشهري في عام 1994, ويسجل الفنان سامي محمد النحات المعروف في تقديمه (...هذه الموهبة نلمحها في أولى خطوات (غادة) في عالم التشكيل, عندما رأيت أعمالها أدركت أنها فنانة سوف تكون لها بصماتها الخاصة في المستقبل...إذا لم تنقطع), ومع الأيام تأكد ما لغادة من شجاعة وإصرار على المضي في مسيرتها وتجربتها الإبداعية, أنجزت حتى الآن خمسة معارض فردية سعت من خلالها إلى تقديم أعمال محمّلة بقيم فنية عالية, وبطرح إنساني راق, والتعبير بجرأة وحرية.

احتكاك بالعالم

ولدت غادة في الهند عام 1969, وتنقلت في كثير من بلاد العالم بحكم عمل والدها سفيرًا بالخارجية الكويتية, أحبت الفن منذ صباها, وتذكر والدتها أن غادة منذ صغرها وهي دائمًا تهجع إلى ركن أو زاوية من البيت وتظل غارقة في الرسم بالساعات الطويلة دون حركة, فلا نشعر بوجودها في المنزل, ظلت على هذه العادة حتى الآن, وتقول (إنني في هذا الوقت الوجيز, أجد أنني رسمت ولوّنت الكثير الكثير, فالحمدلله لدي طاقة كبيرة على ذلك), وقد أكسبتها هذه العادة سلاسة في إنتاج آلاف الرسوم والتخطيطات بالقلم الأسود, أثارت دهشة كل من يطلع عليها تقديرًا وإعجابًا, وخصصت لهذه الرسوم معرضها الرابع بدار الفنون عندما عرض 30 رسمًا, وفقط ثلاث لوحات زيتية, وكتب الناقد خالد عبدالمغني معلقًا (بدت فيها أكثر تلقائية في الكشف عن أفكارها, وعن نظرتها تجاه محيطها الاجتماعي).

ولم يكن نجاح غادة وليد مصادفة, بل لما لها من شجاعة وإصرار على تجربتها الفنية منذ تخرجها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1992, فأنجزت حتى الآن ستة معارض شخصية على التوالي:

عام 1994, 1997 بقاعة بوشهري وعام 1999 بقاعة أحمد العدواني بالمجلس الوطني للثقافة والفنون, 2001 جاليري دار الفنون, 2002 مجمع (مركز الحياة) بمنطقة الشويخ و2005 بجاليري أوربا بباريس. وبتأمل أعمال الفنانة في مراحلها ومعارضها نلحظ تمكنها في التأليف والتكوين.

فعناصرها متوازنة في حبكة ذات دلالة تعبيرية وعلى الرغم من عدم تقيدها بالقواعد الأكاديمية فإن الأحاسيس الجمالية واللغة التشكيلية التي تتقنها تغنيها عن ذلك.

وهي تتعامل مع شخوصها تبعًا لكل موقف يتحدد وجوده وعلاقته بالآخرين من داخل بناء اللوحة.

وفي معرضها عام 2002 الذي خصصته للتعبير عن تراث المجتمع وأطوار أحداثه ومعالمه البارزة, تناولت النقاط والعلامات الواضحة في مسيرة الحياة الاجتماعية من موضوعات تدور حول الحياة اليومية للمرأة والبنات الصغار وألعاب الطفولة البريئة, وقدمتها في مجموعة من اللوحات على مساحات كبيرة من القماش المشدود تصل أحيانًا إلى (3*2 متر) وقام بمساعدتها بإعداد المعرض وفكرته وإخراجه أخوها الذي توقع عليه اللوم أحيانًا بأن هذا المعرض سبب لها إرهاقًا ولكنني أرى أنه قدم لها نصيحة رائعة ساعدتها في إنجاز إبداعي يحسب لها وللحركة التشكيلية في الكويت.

هذه اللوحات الجدارية وجدت فيها غادة انطلاقة وشحذًا لكثير من الأفكار استطاعت أن تؤكد خصوصيتها الفنية في تناول جديد وتأثير هائل بدا مغايرًا لما هو سائد في التناول الفني للموروث الشعبي مما جعلها تتبوأ الصدارة على كثير من الفنانين الكويتيين المعروفين الذين قضوا معظم حياتهم في تناول التراث ومحاولات التطوير للتعبير عنه بأساليب وتقنيات عديدة.

معرض جماعي

وعندما فكّر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في إقامة معرض للفنون التشكيلية بالقاهرة سعيًا للتعريف بها ونشرها عربيًا, تم اختيار أعمال غادة مما تبقى من أعمال هذا المعرض (خمس لوحات) الذي لم تمض أيام على انتهائه, لتمثل مجال التصوير إلى جانب أعمال الخزف لجميلة جوهر ومنحوتات سامي محمد البرونزية ورضا سالم في التصوير الفوتوغرافي والخط العربي لفريد العلي, وقد لاقى المعرض نجاحًا جماهيريًا ونال رضا كبار فناني مصر أمثال زينب السجيني وآدم حنين وصالح رضا وعبدالغني الوشاحي وحسام غربية وعدلي رزق الله وعبدالمعبود شحاتة وغيرهم, وكانت غادة على وجه الخصوص محط أنظار الجميع فأشادت بها الفنانة الكبيرة زينب السجيني (1930) صاحبة التجربة الإبداعية المتميزة وكانت فرحتها غامرة عندما تفاجأت بصغر عمرها, أما النحات الكبير آدم حنين فقد أدهشته طزاجة لوحاتها, مؤكدًا على قيمة هذه الخصوصية في الفن التشكيلي, ويقول الفنان الكبير د.صالح رضا في مقاله النقدي بمجلة (العربي): (إن الفنانة غادة قادرة على الرسم (الأكاديمي) تركت لنفسها الحرية في التعبير المجازي للتسطيح اللوني, فلم يعد هناك ظلال ونور في رسمها, ولكنها اعتمدت على صراحة اللون, واعتمدت على الوجه في إيجاد بعض التعبيرات, وتحويله من السطح إلى الأبعاد الروحانية).

ومما لا شك فيه أن غادة تحتفي بالجسد الإنساني ومعرفتها التشريحية عززت الرسوخ والثقل في أجسادها الإنسانية المرسومة, وهي منحازة بعض الشيء إلى عالم المرأة الظاهر والباطن, فانتسابها وقربها إلى هذا العالم يعطيها قدرة على الملاحظة والدراسة لحالة المرأة الوجدانية وإمكانية تصوير مشاعرها, ولكن نلاحظ وضعها المحاذير لنفسها ومراعاتها للقيم التي تفرضها بصرامة تقاليد المجتمع, وأكاد أجزم أن لغادة أعمالاً مخبأة أو تحجم عن تناولها في لوحات بسبب التنشئة الاجتماعية بدورها المؤثر والخوف من الإسقاطات القمعية التقليدية أو الاتهام بالخصوصية الذاتية.

إن امتلاك غادة لأدواتها الفنية ودلالتها الواعدة, لتبعث التفاؤل بعطائها, ويبشر بأنها ستصبح بإذن الله علامة بارزة على خريطة الإبداع العربي.

 

يحيى سويلم 




غادة الكندري: طاقة الفن والتلقائية في التعبير





عازف العود 2004 .. أكريلك على قماش





لعبة الحصان 2004 .. أكريلك على قماش





غازلة الثوب 2003 .. أكريلك على قماش





أحاديث البنات 2003.. أكريلك على قماش





بعد إعداد الطعام 2003 .. أكريلك على قماش





اللاعب الشهير بيليه 2003.. أكريلك على قماش