على الرغم من تناول تجربة الفنان التشكيلي السوري المقيم في (برلين)
مروان قصاب باشي مختلف أغراض ومواضيع التصوير المعاصر, فإن الوجه الإنساني المتماهي
بتضاريس الأرض, والمشغول بتبقيع لوني متواتر وكثيف, شكّل المعلم الأبرز والأهم, في
هذه التجربة التي تجاوز عمرها الخمسين عامًا.
ولد الفنان مروان قصاب باشي في دمشق عام 1934, انتسب إلى كلية الآداب
في جامعة دمشق ما بين عامي 1955 - 1957, وإلى المدرسة العليا للفنون الجميلة في
برلين ما بين عامي 1957 - 1963. عقب تخرجه وحتى العام 1970 وزع وقته بين العمل في
مصنع للجلود ببرلين نهارًا وممارسة الرسم ليلاً. في عام 1977 عاد إلى المدرسة التي
تخرج فيها أستاذًا زائرًا, وأستاذًا دائما للرسم في عام 1980. يعيش الآن متفرغًا
للرسم في برلين, وفي الوقت نفسه, يتردد, بين الحين والآخر, إلى دمشق.
قبل مغادرته إلى برلين منتصف خمسينيات القرن الماضي, والاستقرار
الدائم فيها, أنجز الفنان مروان قصاب باشي في دمشق, مجموعة كبيرة من الأعمال
الفنيّة الموزعة على الرسم والتصوير والنحت. نالت أعماله جوائز عدة منها, جائزة
النحت الأولى في معرض الربيع بدمشق عام 1956, وجائزة كارل هوفر للرسم عام 1966,
وجائزة فريدتيلر للرسم عام 2002, وجائزة المنتدى الثقافي اللبناني للإبداع العربي
عام 2005.
وضع الروائي العربي عبدالرحمن منيف كتابًا حول تجربته عام 1996 حمل
عنوان (مروان قصاب باشي, رحلة الحياة والفن).
في دمشق, أعلنت موهبة مروان عن نفسها, وفي برلين شبّت وترعرعت ونضجت,
وهذه الأخيرة, وزعتها على أنحاء العالم تحت اسم (مروان), وهي التي أعادته إلى دمشق,
ممثلة بالمركز الثقافي الألماني (معهد جوته), عبر المعرض الاستعادي الذي شهره (خان
أسعد باشا) في (سوق البتروريّة) بدمشق (أبريل 2005) والذي ضم 34 لوحة زيتيّة, ولوحة
واحدة مائية, و102 دراسة خطيّة منفذة بالأبيض والأسود دعاها (المتتاليات), إضافة
إلى مجموعة من الرسائل المتبادلة بينه وبين صديقه الروائي عبدالرحمن منيف, وبعض
الدراسات العفوية والوثائق الأخرى. أعمال المعرض, تعود إلى مرحلة ممتدة ما بين عامي
1947 و2002, ما يجعل منها وثيقة مهمة لتجربته الفنية المتشعبة, بالرغم من غياب
أعمال مهمة عنها.
حيرة الانتماء
بدأت تجربة الفنان مروان قصاب باشي واقعيّة الملامح, ثم واقعيّة
مختزلة مشوبة بروح الانطباعيّة تارة, وبتعبيريّة سورياليّة, تارة أخرى, كما حملت
تأثيرات واضحة, من الاتجاه الفني الواقعي السوريالي التزييني, الذي اشتغل عليه
الفنانان الأخوان (أدهم ونعيم إسماعيل) وكانت تربطه بهما صداقة وزمالة, وربما سكنه
الهاجس نفسه الذي سكنهما آنذاك (خمسينيات القرن الماضي) وهو تحقيق فن معاصر, بملامح
عربيّة إسلامية. في هذه المرحلة, تململت تجربة الفنان قصاب باشي, وعاشت حالة من
البحث والتجريب, تأرجحت خلالها, بين غالبية المدارس والاتجاهات الفنيّة, بدءًا
بالواقعيّة المبسطة, فالانطباعيّة, فالدادائية, وصولاً إلى نوع من التجريدية
التعبيرية التي اشتغل عليها عدد كبير من المصورين الألمان, ومنها انبثقت مرحلة
الوجوه التي شهدت بدورها, تحولات عديدة, توجتها مرحلة الوجه المتماهي بجغرافية
الأرض, وهي المرحلة الأهم والأبرز, في تجربته الفنيّة.
مرحلة الوجوه
بدأ اهتمام مروان قصاب باشي بالإنسان موضوعًا رئيسيًا لأعماله, منتصف
ستينيات القرن الماضي بلوحة حملت عنوان (امرأة وعصفور) نفذها عام 1956, وفيها يصوّر
سيدة يقف على ذراعها عصفور, يبدو منها رأسها وجذعها, فوق خلفيّة بنفسجية مشوية
بتوشيحات برتقالية, وقد عالج المرأة والخلفية, بأقل ما يمكن من ألوان الأزرق
والبنفسجي, مؤكدًا على الرأس الذي بالكاد أشار إلى ملامحه. لقد بدا الفنان قصاب
باشي في هذا العمل, شديد التقشف في الألوان, وكذلك في الخط (الرسم) الذي بالكاد حدد
هيكليّة المرأة.
بعدها دخل على لعبة التكوين والقطوعات, فربط بين اليد وجزء من الوجه,
أو بين الوجه وجزء من اليد ومساحات هندسيّة صماء. ثم بدأ يربط الوجه بجملة من
الرموز والإشارات (عظام, أشلاء, أخشاب) كما في لوحتيه الخاصتين بالشاعر العراقي
(بدر شاكر السياب). بعدها انتقل إلى الجسد الإنساني بكامله, فعالجه بصيغة تتماهى
فيها السوريالية بالكاريكاتير, حيث تعمد التأكيد على وضعيات غريبة, وبالغ بحجم
الرأس, وغيّب شخصًا خلف شخص, وعالج الأكف بأسلوب رمزي ضمنه إشارات ومعاني خاصة (كما
في لوحته خدوج وسلسلة حملت عنوان - بدون عنوان - والعناق, ولقاء).
وبالتدريج, بدأت الشخوص هذه, تغيب عن لوحته, لمصلحة الرأس الذي شغل
كامل مساحة اللوحة. في البداية, أخذه بكامله, ثم اقتصر على منطقة العينين والأنف
والفم والذقن, ثم اختصره إلى عين وأنف وفم, داخلاً وخارجًا, عليه بطريقة (الزووم)
وبمعالجة فنية اقتصرت في البداية, على لون واحد, ثم على لونين ومشتقاتها, ثم غزت
الألوان بكل أطيافها ودرجاتها, هذا الوجه, ليتحول إلى مايشبه الأرض المفعمة بالحياة
والحركة وقوة التعبير الداخلي. وتمثل هذه المرحلة, سلسلة الرءوس المنفذة ما بين
عامي 1972 - 1978.
الطبيعة الصامتة
على حين غرة, غادر مروان وجوهه الشبيهة بالأرض, إلى موضوع جديد هو
(الطبيعة الصامتة) الذي مزج فيه بين الخواص التشكيليّة والتعبيريّة للمرحلة
التجريديّة - التعبيريّة, ومرحلة الوجوه, حيث ثراء اللون, وانفعال اللمسة, ورهافة
الخطوط, وعفوية المعالجة المفعمة بالإحساس والشفافية والتلقائية. وبعد الطبيعة
الصامتة, انتقل إلى موضوع (الدمية) التي نفذ لها مجموعة من اللوحات, لا تبتعد
كثيرًا, كمعالجة, عما رأيناه في الوجوه والطبيعة الصامتة. فقد استمر فيها,مهرجان
الألوان الحارة والباردة, المنضدة في جسد اللوحة, برهافة وعفوية نادرتين.
وفي عام 1983, عاد مروان مرة أخرى إلى وجوهه, إنما برؤية جديدة,
ومعالجة شديدة التلخيص والاختزال, وقف فيها, في البرزخ الفاصل بين التشخيص
والتجريد. في هذه الأعمال, تحوّل الوجه لديه إلى شكل طولاني, عالجه بالأسلوب
التبقيعي نفسه, ولإبراز هيكليته العامة, وتأكيد تكوينه, دمج البقع في الخلفية, أو
رصفها بلون مضاد, لتتحول اللوحة إلى ما يشبه السجادة المشغولة بحرية من يمارس طقسًا
صوفيًا خاصًا, تتبدل حالته الباردة والدافئة, السعيدة والكئيبة, المنطلقة
والمنطوية, لكن أداة ممارسة هذا الطقس, هي هي: لمسة لونية أفقيّة وشاقويّة, صغيرة
وكبيرة, غامقة وفاتحة. لمسة متروكة في معمار اللوحة, بكثير من العفويّة والخبرة,
ومن هنا تحديدًا, تأتي أهمية تجربة الفنان مروان قصاب باشي التي اتخذت من الوجه
الإنساني, وسيلتها الرئيسة, للتعبير عن حالة القلق التي يعيشها صاحبها, تجاه ما
يجري حوله, بلغة شديدة التكثيف والتباين, بالرغم من وحدة النص التشكيلي, وتكرار
مفرداته!!.
إن يصحبِ الروحَ عقلي, بعد
مَظعنِها |
|
للموتِ, عني فأجدِرْ أن ترى
عجَبا |
وإنْ مضَتْ في الهواءِ الرّحبِ
هالكةً |
|
هلاكَ جِسميَ في تُرْبي,
فواشجبا! |
(أبو العلاء المعري)