الفكر الإستراتيجي العربي أمين هويدي

الاستراتيجية مفهوم دائم التطور. من إدارة المعركة إلى محاولة الانتصار دون معركة. ومن السباق الرهيب للتسليح حتى الاتفاقيات التي تحد منه. وفي كل حالة فإن هذا الفكر دائم التكيف مع مختلف الظروف فأين مكانة الفكر الاستراتيجي العربي من آفاق المستقبل؟.

كانت الاستراتيجية في مفهوم القرن التاسع عشر - الذي شهد تطوراً هائلا في وسائل إطلاق النيران نتيجة لاختراع المدفعية والمدافع الرشاشة، وكذلك في خفة الحركة نتيجة لاستخدام السكك الحديدية لحشد القوات الكبيرة على مسافات بعيدة - هي فن استخدام المعارك في تحقيق الأهداف السياسية. وقد ذهب كارل فون كلاويزوتيز في كتابه "في الحرب- "On War إلى أن طريق الانتصار في المعارك هو طريق الدم، وكان في مفهومه أن النصر لا يمكن الحصول عليه إلا بالمعركة، يعني كان المفهوم السائد هو استخدام القوة في حالة الحركة للقضاء على العدو وتدمير قواته الأساسية.

الانتصار دون معركة

وقد التزم جميع الاستراتيجيين بهذا المفهوم حتى قدم بازل ليدل هارت كتابه "الاستراتيجية- "Strategy والذي اعترض فيه على تعاليم كلاويزوتيز اعتراضًا كاملاً إذ ذكر أن قمة الاستراتيجية هي الحصول على النصر بتجنب المعركة وإن اضطررنا إلى ذلك فيكون الهدف الدائم هو الحد من الدماء والخسائر، وذلك باستخدام استراتيجية الاقتراب غير المباشر Strategy Of indirect approach بالعمل على الوصول إلى ما أسماه الموقف الحاسم خلف العدو الذي يجعل لنا اليد الطولى على مائدة المفاوضات والذي يضمن لنا في الوقت نفسه خوض معركة ناجحة إذا سارت الأمور إلى حتمية استئناف القتال، وإذا كان الموقف الحاسم الذي وصلنا إليه خلف العدو قريبا من الجبهة تكون النتيجة أسرع، وإذا كان هذا الموقف بعيدًا عن الجبهة في منطقة خطوط المواصلات أو بالقرب من القواعد المهمة للعدو تكون النتيجة أحسم. يعني كان المفهوم الجديد هو التقليل من خسائر الحرب وتهذيب سلوكها باستخدام القوة عن طريق المناورات البارعة، الأمر الذي أجاد استخدامه نابليون بونابرت في معاركه الخالدة، ولكن الذي وضع النظريات المحددة كان ليدل هارت بلاشك بعد أن استعان بأفكار "سن- تزو "Sun- tzo القائد الصيني العظيم الذي عاش قبل الميلاد بمائة عام. وقد اعتنقت إسرائيل هذه الاستراتيجية في حروبها معنا ابتداء من حرب 1948، ومع الأسف الشديد فإن استراتيجيتها تلك لم تنل حظها من الفكر الاستراتيجي العربي حتى يمكن مواجهتها باستراتيجية مضادة، وقد رأيت الاهتمام بهذا الموضوع في كتابي الأخير "الفرص الضائعة " الذي يوزع على نطاق واسع في كل أنحاء العالم عدا مصر.

إلا أن نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت تطورًا خطير في المفاهيم الاستراتيجية بعد ضرب هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية في أغسطس/ آب عام 1945 وبعد تمكن الاتحاد السوفييتي من الوصول إلى حالة التعادل النووي Nuclear Parity عام 1949 بامتلاكه الأسرار النووية، وأصبح يملأ مخازنه هو الآخر بقنابله الفتاكة. وقد نظر الجانبان إلى ما في أيديهما من سلاح فتاك نظرة غريبة في أول الأمر، إذ تعامل الجانبان مع السلاح الجديد على أنه سلاح عادي أكثر فتكا، وفي ظل هذا المفهوم استمرت الأسس الاستراتيجية عن استخدام المعارك كوسيلة لكسب الحرب سائدة، ولكن سرعان ما اكتشف الجانبان أن السلاح الجديد لا يمكن استخدامه إلا إذا دمر العالم نتيجة لقوة انفجاره وما يسببه من تدمير كاسح ونتيجة للإشعاعات المميتة التي تستمر لفترات طويلة تصل ربما إلى عشرات الأعوام. وكانت المفاجأة الكبرى للجانبين أنهما امتلكا سلاحا رهيبا لا يمكن استخدامه، فهو سلاح سياسي يعيش العالم في ظله تحت مظلة الرعب النووي المتبادل وأصبح الشعب الأمريكي رهينة في يد الكرملين، وأصبح الشعب السوفييتي رهينة في يد البيت الأبيض، وكان من اللازم أن تعيش القوتان العظميان- في ذلك الوقت- مع بعضهما البعض كعقربين في أنبوب واحد إذا لدغ أحدهما الآخر، فإن هذا الآخر سيلدغه قبل أن يموت على رأي "هوفمان" الأمريكي الذي كان من أوائل من كتبوا في ذلك، إلى جانب آخرين من أشهرهم هنري كيسنجر الذي كان لا يزال في ذلك الوقت أستاذا مغمورًا، في هارفارد سرعان ما دفعته أفكاره الخلاقة إلى دوائر الشهرة.

سلاح لا يمكن استخدامه

ووجه الفكر الاستراتيجي بمعضلة حقيقية وهو يواجه ولأول مرة سلاحا تحت اليد يستحيل استخدامه، واتجه الاستراتيجيون إلى حقلين مختلفين في الدراسة والتطبيق، أحدهما على المستوى العالمي، والآخر على المستوى الإقليمي، فعلى المستوى العالمي عالج المفكرون الاستراتيجيون الموقف باستراتيجية نووية عمودها الفقري هو الردع المتبادل وهو فن استخدام وسائل القتال لمنع القتال أو هو فن عدم القتال، واخترع العلماء والمهندسون أسلحة فتاكة في سباق مروع وكلما امتلأت المخازن بأسلحة الموت هذه زاد ضمان السلام وتعذر القتال، وساد الاستقرار. وعن طريق نظريات كثيرة معقدة كنظريات الردع الشامل أو الردع المتدرج أو الحربين ونصف أو الحرب ونصف ساد العالم الصناعي نوع من أنواع السلام الواقعي الذي يعني التعايش مع التناقضات الحتمية ومحاولة القضاء عليها باستخدام كل وسائل الصراع عدا استخدام القوات النووية أو التقليدية خوفا من أن تتطور الحرب التقليدية إلى حرب نووية لأن أحدا لا يمكنه التحكم في التصعيد إذا أطلقت الطلقة الأولى.

أما على المستويات الإقليمية فكانت الحروب مباحة ومسموحا بها حسب النظريات نفسها المعروفة وعلى أساس مبادئ الحرب الثابتة، وأصبحت الحروب الإقليمية وسيلة لحفظ الاستقرار على المستوى العالمي باستخدام الأسلحة التقليدية بالوكالة، فمصالح القوتين العظميين يمكن تحقيقها بطريقة غير مباشرة بالوكالة في عهد الاستقطاب الذي عشناه، وأصبحت الحروب التقليدية المحلية حروبا محلية عالمية تتحقق عن طريقها مصالح الدول المحلية المتقاتلة بطريق مباشر، ومصالح الدول العظمى بطريق غير مباشر وهي خارج الملعب، وأصبح التحكم في موازين القوى الإقليمية هو وسيلة الدول العظمى المصدرة للسلاح إلى التحكم على المستوى الإقليمي، وكان الإطار الذي يتم فيه السيطرة على مجريات الأمور لمنع التصادم المباشر بين القوتين العظميين تحكمه قاعدتان رئيسيتان:

* كل دولة إقليمية يمكنها إطلاق الطلقة الأولى في المكان الذي تريده وفي الوقت الذي تريده وبالطريقة التي تفضلها، ولكن بعد ذلك لا يمكن لهذه الدولة أن تنهي القتال في المكان الذي تريده أو في الوقت الذي تريده أو بالطريقة التي تريدها عن طريق التحكم في تصدير السلاح حجما ونوعا.

* إذا اضطرت الظروف إحدى القوتين العظميين التدخل في إحدى المناطق الإقليمية، فإن الدولة العظمى الأخرى تحترم هذا التدخل ولا تدفع بقواتها إلى المنطقة الحرجة خوفا من الصدام المباشر، بل تتدخل بوسائل أخرى عن طريق كسب الرأي العام أو الإمداد بالسلاح أو من خلال المحافل الدولية.

حدود السباق الرهيب

وبالرغم من سير الأمور وتطورها إلى سباق تسلح رهيب بين الاختراق Pentration والاعتراض Interception، إلا أن الفكر الاستراتيجي اتجه إلى محاولة الحد من هذا السباق الرهيب عن طريق اتفاقيات الحد من الأسلحة خلال مفاوضات طويلة ومعقدة ومرهقة، وعن طريق عدم الجدية في حل الأزمات الإقليمية والاكتفاء بإدارتها وتغيير أشكالها لتتلاءم ومصالح الدولتين العظميين، ولكن عن طريق هذا السباق وزيادة نفقات الدفاع زيادة رهيبة حدت من الإنفاق في المجالات الأخرى، انتهى الاتحاد السوفييتي كدولة وعقيدة وتراجع الاقتصاد الأمريكي تراجعا كبيرا إلى الوراء، وأصبح العالم فجأة وقد تخفف من الصراع بين الدول والعقائد على المستوى العالمي واختفى الأعداء التقليديون بحيث أصبح تحديد العدو في الصراع العالمي مشكلة حقيقية، فمن هو العدو العالمي لحلف الأطلنطي الآن؟ هل هو حلف وارسو كما كان الحال من قبل؟ إطلاقا، فحلف وارسو قد انتهى وزال من الوجود وتحلل الاتحاد السوفييتي نفسه إلى 15 دولة تسعى كلها إلى الاندماج في الغرب واتباع اقتصاد السوق. ولم تعد الشيوعية تحديا للرأسمالية بعد تحطيمها بيد أبنائها. لقد اختفى العدو بل أصبح صديقا مع ملاحظة أن للأصدقاء أحيانًا متاعبهم الثقيلة.

انتهاء الحرب الباردة بهذه الصورة واجه الفكر الاستراتيجي بمشكلة حقيقية لدرجة أن أغلب المعاهد الاستراتيجية المتخصصة في العالم تعكف الآن على تطوير نفسها لمواجهة العالم الجديد أحادي الأقطاب لدرجة أن إدارة معهد الدراسات الاستراتيجية بلندن The International Institute for Strategic Studies عقدت اجتماعا غير عادي لبحث التغيرات في برامج المعهد واهتماماته، ذلك لأن المعهد المهم أنشيء عام 1958 في وقت الحرب الباردة حينما كان يتهدد العالم الرعب النووي المتبادل، وركز المعهد اهتماماته في ذلك الوقت على الصراع بين الشرق والغرب، ولكن وبعد أكثر من ثلاثين عاما تضاءل هذا الخطر بعد تحلل الاتحاد السوفييتي وسقوط الشيوعية، ووجد المعهد نفسه في مأزق رأى مواجهته بتغيير الغرض من إنشائه ليصبح دراسة المشاكل الأمنية العالمية ذات الصبغة السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والاجتماعية الخاصة بالبيئة. ولعلنا لاحظنا أنهم يريدون توسيع أفق المجالات التي يقتحمها المعهد تبعا لاحتياجات العالم المتغير.

تحديات الفكر الاستراتيجي

وعلى المستوى الإقليمي خاصة في منطقة الشرق الأوسط يواجه الفكر الاستراتيجي عدة تحديات نتيجة للمتغيرات الكثيرة والسريعة في المنطقة أهمها:

1- على المستوى العالمي:

(أ) انتهاء سياسة الاستقطاب وتأثير ذلك على الاتجاهات السياسية للدول الإقليمية والحد من قدرتها على المناورة.

(ب) الاتجاه إلى تحديد عمليات نقل السلاح والتكنولوجيا وزيادة السيطرة عليهما لضمان التحكم في موازين القوى بطريقة اختيارية.

(ج) استخدام الشرعية الدولية استخداما انتقائيا لتكسير وتدمير ترسانات الأسلحة المحلية، بل ولعلنا لاحظنا أن المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة أعطت الرئيس الأمريكي الحق في تكليف الأجهزة المختصة بخطف المتهمين المراد محاكمتهم أمام القضاء الأمريكي في أي دولة يراها.

2- على المستوى الإقليمي:

(أ) عدم إمكان تنفيذ ميثاق الجامعة العربية أو اتفاقية الوحدة الاقتصادية والدفاع المشترك لعام 1950 أو إعلان دمشق عام 1991.

(ب) وجود القوات الأمريكية وبعض قوات الدول الغربية الأخرى في أماكن متعددة بموجب اتفاقيات موقعة وجار تنفيذها.

(ج) عزلة النظام العراقي والتهديدات الموجهة إلى وحدة كيانه.

(د) النقط الساخنة في أكثر البلاد العربية واستمرارها وتهديدها لكيان بعض الدول.

(ه) زيادة المشاكل الداخلية النائية والانغلاق الفكري في مواجهتها.

(و) مشاكل المياه والحدود والبيئة.

(ز) احتمال الوصول إلى تسويات للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والصراع العربي- الإسرائيلي.

(ح) القيود المفروضة على استخدام القوة في حل الصراعات الإقليمية.

(ط) المشاكل المترتبة على فجوات الغذاء.. إلخ.

مشاكل الفكر الاستراتيجي العربي

والفكر الاستراتيجي العربي مطالب بمواجهة المشاكل مواجهة عملية وعليه اقتراح الحلول العملية التي تتناسب مع الواقع والاهتمام ليس فقط بماذا نفعل، ولكن بكيف نفعل ما نريده أيضا عن طريق الاحتمالات المتعددة والخطط العملية. الفكر الاستراتيجي العربي عليه أن يتصور العالم الذي سوف نعيش فيه حتى نهاية القرن مثلا، وعليه أن يتصور كيف نبني السلام في منطقتنا وما دور القوة في ظل القيود المفروضة على استخدامها وكيف نواجه المشاكل العرقية التي تهدد كياناتنا مع تذكر أن ما كنا نقوله بالأمس غير صالح ليعلن اليوم، فالظروف اختلفت والمشاكل تنوعت والتحديات الداخلية أصبحت في مستوى التهديدات الخارجية وربما تفوقها، ورياح التغيير تشمل كل شيء، وعلى الفكر الاستراتيجي العربي مسايرتها وإلا انفصل عن الواقع وأصبح مجرد طلقات طائشة في الهواء.