أسوان رمز سنوات النضال أمين هويدي

أسوان رمز سنوات النضال

رجعت توا من أسوان الجميلة الهادئة المشمسة, التي تلقي بنفسها في شموخ على شاطئ النيل, وسكانها الطيبون يسعون في الأرض وهم يرون أن كل شيء حولهم قد تغير إلا أخلاقهم السمحة الكريمة الأصيلة, التي ورثوها ليحتفظوا بها ويغرسوها في أجيالهم جيلاً بعد جيل.

رأيت أسوان عام 1940, أي منذ 65 عامًا حينما ذهبت إليها وأنا في أول حياتي العسكرية كضابط في إحدى وحدات القوات المسلحة للدفاع عن خزان أسوان أثناء الحرب العالمية الثانية ! الذي كان قد بني عام 1902. كان دفاعنا ضد أي تهديدات من البحر والبر والجو, وكنت مكلفًا بالقيام بدوريات نيلية من أسوان والشلال, كانت أسوان في تلك الفترة قرية صغيرة يعيش أهلها على حافة الحضارة الجديدة, كان ينقصها كل شيء, أسوان الآن مدينة كبيرة ذات شوارع منسقة ومبانٍ حديثة وفنادق رائعة, أشهرها فندقا كتاراكت القديم والجديد, تغص بالسائحين من كل بلاد العالم ليزوروا معالمها التاريخية العديدة, وليبحروا في النيل وسط جزره البركانية الصغيرة, وقد يمضون لياليهم في الفنادق النيلية ليبحروا بها جنوبًا إلى معبد أبو سنبل, وشمالاً إلى الأقصر, وربما إلى القاهرة, من جمالها قرر أغاخان الكبير أن يدفن فيها على جبل الشاطئ الغربي للنيل, ودفنت معه زوجته الجميلة البيجوم, وأغاخان كان كبير طائفة الإسماعيلية, وكان أبناء الطائفة يهبونه في عيد ميلاده وزنه ذهبًا, ويقال إنه لهذا السبب كان يحرص على أن يكون من الوزن الثقيل.

وكان من الطبيعي أن تكون زيارتي الأولى هذه المرة أيضًا إلى السد العالي, بل وربما تكون زيارتي إلى أسوان لرؤيته, إذ أرى فيه مجسّداً إرادة زعيم وعظمة شعب, فقد خاضت مصر من أجله حربًا عرفت في التاريخ باسم (حرب العدوان الثلاثي), وكانت الثلاثية هي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل, والتي انتهت بتأميم قناة السويس, وإلغاء القاعدة العسكرية البريطانية في القناة, وتمصير البنوك والشركات, فالأغراض الكبيرة للدول النامية لا يمكن أن تتحقق إلا بتضحيات كبيرة, وكان بناء السد غرضًا كبيرًا, إذ يمد مصر باحتياجاتها من المياه سواء وقت فيضان النيل أو انحساره, كما يمدها بالكهرباء, التي استخدمتها في بناء قاعدتها الصناعية, وتعمل بحيرة السد العالي كخزان يخزن المياه الفائضة بطول 500 كيلومتر, منها 350 كيلومترا داخل الحدود المصرية, والباقي يمتد في أراضي السودان الشقيق, وهو يعد من أكثر المشروعات ربحية, فقد تكلف بناؤه 450 مليون جنيه مصري, وبلغ عائده في 10 سنوات 10 مليارات جنيه, أي 20 مرة من تكلفته.

رمز الصداقة

وهناك رمز الصداقة العربية السوفييتية الذي يدل على مشاعر الوفاء, التي تعبر بها مصر للاتحاد السوفييتي الذي ساعد وقت العسر, وهو قطعة فنية رائعة بُني على شكل زهرة اللوتس الفرعونية, التي كانت شعار مصر الجنوبية, لأن الشمال كان شعاره ورقة البردي قبل أن يوحد الملك مينا القطرين, وهو مكوّن من ورقات خمس داخل بحيرة صناعية: الورقة الأولى كفان ليدين ممدودتين تدعوان لنزول المطر وآية قرآنية, بسم الله الرحمن الرحيم {وجعلنا من الماء كل شيء حي} وصورة الزعيم جمال عبدالناصر باني السد, وصورة السادات الذي افتتحه بعد موت الزعيم, الورقة الثانية تصور نزول الماء على هيئة شلال تصب في ترعة تسقي نخلة تمثل الزراعة وتدير (توربينا) وبجوارها هلب يرمزان للصناعة, والورقة الثالثة توضح أن السد بني بالعلم والمعرفة, أما الورقة الثالثة ومعها الرابعة فيمثلان قرص الشمس, نصفه على ورقة والنصف الآخرعلى ورقة أحدهما يمسكه رجل, والآخر امرأة للدلالة على أن كل عظيم وراءه امرأة, واتحاد الرجل والمرأة لتحقيق التقدم, والورقة الخامسة ترمز إلى الزوجة التي تحب رجلها ومعها صغير يقطف سنبلة قمح دلالة على الخير.

وعلى الورقة الأولى جملة بإمضاء عبدالناصر: (إن سنوات طويلة من العمل المشترك قد أقامت صرحًا للصداقة العربية السوفييتية لا تقل عن صرح السد العالي قيمة ولا رمزًا), وإذا صعدت بالمصعد إلى قمة الرمز, سوف ترى بحيرة عبدالناصر وهي تمتد جنوبًا على مدى البصر, ويجري النيل إلى أبو سمبل حتى الحدود المشتركة بين مصر والسودان, ثم بعيدًا إلى منابعه في القارة السوداء.

وفي قلعة كبار الزوار الملحقة برمز الصداقة والوفاء, استمعنا إلى قصة بناء السد بصوت عبدالناصر وأثناء ذلك تطلعت إلى حوائط الغرفة, فلم أجد صورة واحدة للرجل الذي بنى السد, وخاض معاركه, وكذلك لم يكن هناك صورة للوزير المهندس محمد صدقي سليمان الذي أشرف على عملية البناء والذي كان بعد ذلك رئيسًا لوزراء مصر.

أبو سمبل ينتقل

على ذكر معبد أبو سمبل, كان مكانه في شمال موقعه الحالي بمئات الكيلومترات, وكانت مياه البحيرة ستغرقه بعد بناء السد, فتقرر نقله إلى موقعه الحالي جنوبًا لمسافة مئات الكيلومترات, قطع التمثال آلاف القطع ووضع على كل قطعة حجر رقمًا ثم نقلت الأحجار بالمراكب جنوبًا إلى الموقع الحالي, وأعيد إقامة التمثال برص أحجاره (طوبة على طوبة) إلى أن عاد بالشكل نفسه والموقع والاتجاه الذي بناه قدماء المصريين, مساعدات اليونسكو لإتمام هذا العمل العظيم لا يمكن أن تنسى.

وشريط الذكريات يمر أمامي, حانت لحظة تحويل مجرى النهر العظيم الذي أطلق عليه القدماء (حابى) وحضرت الاحتفال الذي أقيم لذلك في سرادق كبيرة بأسوان, إذ كنت سفيرًا في ذلك الوقت في العراق, خطب عبدالناصر ونيكيتا خرشوف وعبدالسلام عارف وسط تهليل الأهالي والعمال والحاضرين, ثم انتقلنا إلى ميناء (برنيس) في البحر الأحمر لنمضي ليلتين هناك, اليوم الأول اصطدنا سمكًا كثيرًا أكلناه ليلاً, وفي الصباح عقد مؤتمر على ظهر المركب حضره الرئيس عبدالناصر, ونحن معه ونيكيتا خرشوف ومعه وزير خارجيته جروميكو ووزير دفاعه جريشكو, كما حضر الرئيس الجزائري وقتئذ أحمد بن بيلا, والرئيس العراقي عبدالسلام عارف, ودار حوار تاريخي كان ساخنًا في بعض أوقاته.

بن بيلا يحاول التحدث بالعربية, ولم يكن يتقنها في ذلك الوقت, وعبدالناصر يطلب منه التحدث بالفرنسية, لأن هناك ترجمة فورية, ولكن بن بيلا يرفض ويتعثر, وعزت عليه نفسه فبكى, عبدالسلام عارف يتحدث عن الوحدة العربية مما أثار خرشوف الذي تحدث عن وحدة الطبقة العاملة, ثم تحدث عن سلبيات الدين, وعبدالناصر يرد بأن العيب ليس في الدين ولكن في رجال الكنيسة مثل راسبوتين, وكيف أنه عندما وقع العدوان الثلاثي على مصر, ذهب إلى الأزهر واعتلى المنبر ليخطب خطبته الشهيرة التي أنهاها (سنحارب, سنحارب, سنحارب).

الحمار هو الضحية

ولننتقل الآن من التاريخ إلى الجغرافيا, هناك محطة السكة الحديد تصل الشمال بالجنوب اسمها محطة السد العالي, وبجوارها ميناء بالاسم نفسه. كان الاسم في الماضي ميناء الشلال ومنه ينتقل الأشخاص والبضائع إلى السودان ومنه, وتدافعت الذكريات منذ 65 عامًا, أبحرت مع وحدتي من هذا الميناء إلى وادي حلفا بالسودان الذي كان يخضع آنئذ للحكم الثنائي المصري والبريطاني, وعسكرت وحدتي بجوار وابور الثلج خارج المدينة, كان واجبنا الدفاع عن واحة سليمة غرب النيل ضد قوات الدوتشي بنيتو موسوليني المحتشدة هناك, بعد فترة كلفت بحضور فرقة تعليمية في القاهرة, ومن حسن حظي كلف الضابط أحمد إسماعيل علي - الذي رقى إلى رتبة المشير ليقود القوات المسلحة المصرية أثناء حرب 1973 - بحضور فرقة أخرى في التوقيت نفسه. كانت الإقامة في السفينة التي ستنقلنا من حلفا إلى أسوان فوق طاقة ما في جيوبنا من مال, فاتفقنا على شراء بعض الطعام من القرى المجاورة ليعده لنا طباخ الوحدة لنستعين به في إقامة لمدة أيام ثلاثة, وقمت بالمأمورية, وأثناء طريق العودة بعربة كنت أقودها, صدمت حمارًا وقتلته. كان الحمار هو الشيء الوحيد بالصحراء الواسعة!!! كيف قتلته?! لا أدري. كان الحمار أول من أقتله في حياتي العسكرية ودفعت التعويض اللازم لشيخ القبيلة, ذكريات أخرى كثيرة عن الميناء يضيق المجال عن ذكرها.

زرت شركتي الحديد والصلب, وكيما, وكانتا قد أنشئتا في الخمسينيات بعد قيام ثورة 1952, الأولى لاستغلال مناجم الحديد بأسوان والثانية لإنتاج الأسمدة. شركة الحديد والصلب أقفلت أبوابها منذ فترة لأسباب لا داعي لذكرها, شركة كيما قل إنتاجها لأسباب بعضها معروف للجميع, وأسباب أخرى معروفة أيضا, ولكن لا داعي للخوض فيها, وباقي الأسباب مجهولة, وعلى أي حال, فالشركة في طريقها إلى الخصخصة, هناك مصانع للجرانيت لأن جبال أسوان غنية به.

ليس هناك أحلى ولا أجمل من كورنيش أسوان, الفنادق العائمة في النيل بالعشرات, وكذلك المقاهي التي يقدم فيها أنواع مختلفة من الساخن والبارد, هناك مشروب (الدوم) ومشروب (حلومر) و(العرقسوس) و(التمر هندي) و(الكركديه), وفي رأيي أنها أجمل وأفيد وألذ من (الكوكا) و(البيبسي) و(السفن أب) ويؤيد ذلك إقبال السائحين والسائحات على تلك المشروبات المصرية خاصة في المقاهي الشعبية على جانبي بعض الشوارع, والتي تقدم أيضًا الفول المدمس والطعمية أو الفلافل بلهجة أهل الإسكندرية أو الكباب بلهجة أهل الريف.

والرحلة النيلية بمركب صغير شراعي أو آلي, لا تنسى, فالزوارق تنساب بين الجزر البركانية الصغيرة, التي تنتشر هنا وهناك, جزيرة النباتات التي يصعدون إليها بسلم صخري درجاته متعددة, منعني (عمري الافتراضي) من صعودها, بالرغم من إمساكي بالعصا التي أتوكأ عليها, ولكن ليس لي بها مآرب أخرى, وهناك معبد فيلة المقام على إحدى الجزر, صعدت إليه على درجاته بمساعدات مشكورة من أصحاب الهمة والمروءة, وأنا أردد (ألا ليت الشباب يعود يومًا) وبالقطع فقد ولى الشباب ولن يعود.

تُرابُ جسومُنا, وهي الترابُ, إذا ولّى عن الآلِ اغترابُ
تُراعُ, إذا تُحَسُّ إلى ثراها, إياباً, وهو مَنصِبُها القُرابُ


(أبو العلاء المعري)

 

أمين هويدي