سِرُّ الخليقةِ وصنعةُ الطبيعةِ يوسف زيدان

سِرُّ الخليقةِ وصنعةُ الطبيعةِ

في مكتبات العالم, سبعون مخطوطة من هذا الكتاب العربي العجيب, الذي لا نبالغ إذا وصفناه بأنَّه أكثر كتب التراث العربي طرافة وعجائبية!

عنوان الكتاب: سرُّ الخليقة عنوان آخر, ورد في بعض مخطوطاته: كتاب العلل.. وفي خريف سنة 2003 كنت في زيارة علمية للسويد, فقضيت أياما عدة بمدينة (أوبسالا) حيث أقدم جامعة في الدول الإسكندنافية وشمال أوربا, إذ تأسست (جامعة أوبسالا) سنة 1477 ميلادية, وتطورت مع الأيام وازدادت مكتبتها ثراء, حتى صارت اليوم تضم خمسة ملايين كتاب, وعدة آلاف من المخطوطات المكتوبة بلغات شتى, منها 540 مخطوطة عربية.. وكنت متشوقاً لرؤية مخطوطة (سر الخليقة) المحفوظة هناك, نظراً لأهميتها بين النسخ الخطية السبعين, ولقِدَمها, فهي مخطوطة (ألفية) جاء بآخرها أنها كُتبت سنة 322 هجرية = 933 ميلادية.. ونظرت في المخطوطة, فإذا فيها:

بلينوس الحكيم

إنِّي كنت يتيماً من أهل طوانة (تيانا) لا شيء لي, وكان في بلدي تمثال من حجر متلوِّن بألوان شتى, وقد أقيم على عمود من زجاج مكتوب عليه بالكتاب (الخط) الأول: أنا هرمس المثلث بالحكمة, عملت هذه الآية جهاراً, وحجبتها بحكمتي لئلا يصل إليها إلا حكيم مثلي! ومكتوب على صدر ذلك العمود, باللسان (اللغة) الأول: مَنْ أراد أن يعلم سرائر الخليقة وصنعة الطبيعة, فلينظر تحت رجلي! فلم يأبه الناس لما يقول, وكانوا ينظرون تحت قدميه, فلا يرون شيئاً. وكنتُ ضعيف الطبيعة لصغري, فلما قويت طبيعتي, وقرأت ما كان مكتوباً على صدر التمثال, فطنت لما يقول, فجئت فحفرت تحت العمود, فإذا أنا بسرب (سرداب) مملوء ظلمة لا يدخله نور الشمس, وإن طلعت عليه تحركت فيه رياح لا تفتر, فلم أجد إلى الدخول إليه سبيلاً, لظلمته, ولم يثبت لي فيه ضوء لكثرة رياحه.. فوضعت نوراً في إناءٍ صافٍ, ثم دخلت السَّرَبَ, فإذا أنا بشيخ قاعد على كرسي من ذهب, وفي يده لوح من زبرجد أخضر, مكتوب في اللوح: هذه صنعة الطبيعة. وبين يديه كتاب مكتوب فيه: هذا سرُّ الخليقة وعلم علل الأشياء. فأخذت الكتاب واللوح مطمئناً, ثم خرجت من السَّرَب فتعلمت من الكتاب علم سرائر الخليقة, وأدركت من اللوح صنعة الطبيعة, وتعلمت علم علل الأشياء, وارتفع اسمي بالحكمة وعملت الطلسمات والعجائب..

فبركة

ظاهر في الفقرة السابقة, أن كاتبها الأصلي كان يتمتع بخيال روائي جامح, استخدمه لتبرير ظهور كتابه هذا على الناس! وقد ذكرت المخطوطة, بل المخطوطات السبعون للكتاب, أن مؤلفه هو بلينوس (بلنياس, أبولونيوس) وأن مترجمه إلى اللغة العربية هو (ساجيوس) القس, الذي كان يعيش في نابلس.

وقد انتبه المستشرقون الأوربيون إلى هذا النَّص العجيب, منذ القرن الثامن عشر الميلادي, وقامت بينهم خلافاتٌ طويلةٌ حول الكتاب والمؤلف والمترجم! فبعضهم يرى أنه أحد نصوص الفلسفة الهرمسية القديمة, المنسوبة إلى الحكيم (هرمس) المعروف بهرمس المثلث العظمة, وهو الذي ظهر عند المصريين القدماء باسم (أخنوخ) وعند اليهود والمسلمين باسم (إدريس) وعند أهل اليونان القدامى وأهل الإسكندرية, باسم هرمس. وبعضهم يرى أنه واحد من كتب الفيلسوف الفيثاغوري القديم (أبولونيوس) الذي فُقدت كلُّ كتبه اليونانية ولم يبق منها إلا الترجمات العربية التي قام بها حنين بن إسحاق وغيره من المترجمين العرب في القرن الثالث الهجري = التاسع الميلادي, وأن المؤلف كان يعيش ببلدة (تيانا) واشتهر هناك بالاشتغال بالعلوم الخفية وإتيان الخوارق. وبعضهم يرى أنَّ الكتاب من وحي الفلسفة التي سادت في مدينة الإسكندرية قديماً, وأنَّه كان مترجماً من اليونانية إلى السريانية, فقام القسُّ النابلسي (ساجيوس) بنقله إلى اللغة العربية, ليصبح مذ ذاك واحداً من أهم المصادر الفلسفية والطبية والكيميائية عند المسلمين.. وبعضهم يرى في الكتاب موسوعة علمية وفقاً لمعايير العلم القديم, تم جمعها من مصادر عدة وكتبٍ شتى, أقدم عهداً, بعضها معروف لنا بعناوينه ولم تصلنا نصوصه, وبعضها لم يصل نصه ولا عنوانه!

وأراني أميل, بعد كل هذا, إلى تقرير أن هذا الكتاب الذي سنعرض فيما يلي لبعض محتوياته, ما هو إلا واحد من الكتب العربية التي ظهرت في القرن الرابع الهجري, بتأثير (الحكمة المتعالية) التي انجذب إليها بعض فلاسفة الإسلام آنذاك.. وما هذه الشخصيات (هرمس, بلينوس, ساجيوس) إلا أسماء مختلقة وأشخاص وهميون, أراد مؤلف الكتاب (المجهول) أن يستتر وراءهم وينسب إليهم كتابه, خشية معارضة أهل زمانه.

طرائف الكتاب

تصبو مخطوطة (سر الخليقة) لتفسير كلِّ شيء في الوجود! فهي تعرض خلال صفحاتها التي تقارب الخمسائة, لصفات الإله وبدء تكوُّن العالم وطبيعة الأفلاك السماوية وحركة النجوم ودوران الفلك وعلة المطر والرعد والبرق والسحاب, وطبيعة المعادن, والأملاح وأثر النار فيها, وأجناس النبات والحيوان والطير والأسماك, وتخص الإنسان بمقالة طويلة تستعرض طبيعته والسبب في أن أعضاءه مخلوقة على هذا النحو بالذات, دون غيره, والعلة في اختلاف لون البشرة بين البشر.. وقد سار المؤلف في ذلك كله, على نهج تعليمي يعتمد على إيراد الأسئلة ثم يعقبها بالإجابات, فمن أسئلته: لم ذابت الأشياء في النار, لم صار للشجر أغصان متفرقة, لم صار في النبات ماء أبيض مثل اللبن, لم صار للطير مناقير, لم صار الطير يبيض, لم لَمْ يصر للطير أسنان ولا أضراس, لم صارت خلقة الإنسان مستوية وصار رأسه مدوراً, لم صار الإنسان مثقَّباً, لم صار الرحم في المرأة?

ولايفوت المؤلف (المجهول) قبل تقديم إجاباته على تلك الأسئلة الكثيرة, وغيرها, أن يستحلف القارئ ويأخذ عليه المواثيق, بألا يذيع هذه الحكمة ولاينشرها في غير أهلها. انظر إليه حيث يقول في مقدمة الكتاب: والآن, أقسم وأُحلِّف من سقط إليه هذا الكتاب, من ولدي وقرابتي وذوي جنسي من أولاد الحكماء, أن يحفظوه مثل حفظ أنفسهم ولا يدفعوه إلى غريب أبدا, والحلف واليمين هو بالله ثم بالله الذي لا إله إلا هو, باعث الرسل, الذي ابتدع البدائع وفلق الفلق وخلق الخلق بعزته وقدرته وجبروته وعظمته وربوبيته, العزيز الذي لايدرك.. والله شاهد على من خالف وصيَّتي وضيَّع أمري.

ويستطيع أي مؤرِّخ للأديان, أن يحكم على الفور بشرقية كاتب هذه الفقرة, وبانتمائه إلى الثقافة الإسلامية تحديداً, وهي الثقافة التي يهيمن عليها التوحيد (الله الذي لا إله إلا هو ) وعناية الله بالعالم (باعث الرسل) والصفات الإلهية (العزة والقدرة والجبروت والعظمة والربوبية ).. فهذه كلها, مفاهيم إسلامية خالصة, تؤكِّد أن النص لم ينبع من ثقافة يونانية قديمة, أو شرقية يهودية / مسيحية, وإنما من روح إسلامية خالصة محلاة برحيق الحكمة القديمة.. ومن ثم, فما هرمس وبلينوس وساجيوس إلا شخوص وهمية استتر خلفها المؤلف المجهول للكتاب.

وتتجلَّى طرافة هذه المخطوطة, فيما يقدمه مؤلفها من إجابات عن الأسئلة الطريفة سالفة الذِّكر. فمن ذلك: لِمَ لَمْ تخرج للصبي لحية? لأنه ليست له نطفة. لِمَ لَمْ تكن له نطفة? لقلة الحرِّ فيه. لِمَ قَلَّ الحرُّ فيه? لكثرة الرطوبة. لِمَ خرجت اللحية? لعلة النطفة. لم كانت النطفة? لشدة الحرارة وتمام قوتها. والعلة في ذلك, أنَّ النطفة إنما تكوَّنت من انقلاب الدم, وإنما انقلب الدم فصار نطفة لشدة سخونة الحرِّ وكثرة الحركة, فابيضَّت.

وهكذا يفسِّر المؤلف كل الظواهر, استناداً إلى نظرية الطبائع الأربعة (الحرارة, البرودة اليبوسة, الرطوبة) التي تقوم على الأصول الأربعة للموجودات (النار, الماء, التراب, الهواء) وهي الفكرة التي سيطرت على عقول العلماء والفلاسفة قديماً, وراحوا يفسِّرون كلَّ شيء وفقاً لها.. غير أنَّ مؤلف الكتاب يتطرَّق إلى معالجة نقاط دقيقة بروحٍ تأملية لاتخلو من طرافة تفكير. يقول: لم صار الرحم في المرأة? العلة في ذلك أننا نقول: إن المرأة هي رجل, والرجل هو امرأة! والعلة التي خالفت بينهما, ما أنث المؤنث وذكَّر المذكر. والرحم في المرأة هو الذكر في الرجل, وذلك لأنَّه عصبٌ مجتمعٌ طبيعته البرد واليبس, الذي هو في طبع المرأة.. ولأن المرأة رطبة رخصة, ظهر الثدي, لرطوبتها مع كثرة الرخوصة.. وكما قلتُ في نطاف الذكور, كذلك أقول على نطاف الإناث, لأن الجوهر كان جوهراً واحداً, وإنما تباينا بكثرة الحركات وبشدة تمامها, فلذلك قلت إن أرحام الإناث هي ذكورهن, ولكنها انقلبت.. إلخ. ويختتم المؤلف كتابه, بقوله: قد فرغنا من كتاب العلل, الذي سماه بلينوس (الجامع للأشياء) وأنا الذي ترجمت كتاب العلل الذي وصفه بلينوس الحكيم صاحب الطلسمات والعجائب, وكشفت ماكان مستوراً في كتابه من أسرار علم علل الأشياء.. على ما كان مكتوباً في المصحف الذي كان بين يدي هرمس في السرب المظلم.. فاكتموه, فإن هرمس أبانا في الحكمة, ومعلمنا في علم الخلقة, كتمه.. ولمعرفته بالعلم, ستره. فاستروه ياولدي كما ستره أبوكم, ولا تظهروا عليه من ليس له بأهل, ولا يشارككم في علمكم غيركم من السفهاء.. فتمسكوا بكتابي والزموا وصيَّتي ما حييتم, تكونوا رؤساء أهل زمانكم.

عيوبي, إنْ سألتَ بها, كثيرٌ, وأيُّ النّاس ليسَ له عُيوبُ?
وللإنسان ظاهرُ ما يراهُ, وليس عليه ما تُخفي الغيوبُ
يجرّونَ الذيولَ على المخازي, وقد مُلئتْ من الغِشّ الجُيوبُ
وكيفَ يصولُ في الأيام ليثٌ, إذا وَهَتِ المخالِبُ والنُّيوبُ?


(أبو العلاء المعري)

 

يوسف زيدان 




صفحتا المقدمة من المخطوطة المحفوظة بجامعة أوبسالا (السويد)





غلاف المخطوطة, وصفحتها الأخيرة, المدون عليها تاريخ النسخ