حول مسألة الديون عامر ذياب التميمي

الإقراض الذي بدأ اختراعًا إنسانيا فيه كثير من الابتكار.. هل أدّى التوسع في استخدامه- بغير ترشيد- إلى أن يصير حلقة شريرة تفضي خلالها الاستدانة إلى مزيد من الاستدانة، ويكاد الإفراط فيه أن يؤدي إلى التفريط في أمور جوهرية؟ أسئلة يفجرها هذا المقال، ولا يتركها بدون إجابات.

برزت خلال السنوات الأخيرة معضلات حقيقية ومهمة نتيجة للتوسع في أعمال الإقراض، وتعرض العديد من المؤسسات المالية والبنوك إلى هزات كبرى بسبب عدم قدرة الكثير من مدينيها على سداد التزاماتهم تجاهها سواء كانت تلك الالتزامات فوائد على القروض أو أقساطا لأصل الدين.. ومن أهم السمات في الأزمة الخاصة بالديون أن المدينين متنوعون، حيث هناك الحكومات والشركات المالية والشركات العقارية وشركات الخدمات والشركات الصناعية والأفراد.. إلخ.. ثم إن الديون ذات أشكال متنوعة فهناك قروض محلية أي تمنح ضمن إطار البلد الواحد، وهناك قروض تمنح من أطراف أجنبية وتسمى بالقروض الخارجية.. بالإضافة إلى ذلك فإن الديون يمكن أن تكون على شكل قروض مباشرة من المؤسسة الدائنة للمدين، أو تكون على شكل سندات يمكن تداولها في الأسواق الثانوية ..

زيادة الاستهلاك هدف

ولقد فاقم من معضلة الديون أن الاقتصاديات الرأسمالية الحديثة أخذت خلال السنوات القليلة الماضية من القرن العشرين تشجع استخدام أدوات الدين لتسهيل عمليات التوسع في الاستثمار أو لزيادة الاستهلاك.. ومما يؤكد هذه الظاهرة أن أدوات الدين أصبحت سلعة يتم الترويج لها من قبل المؤسسات المصرفية والمالية وتستخدم وسائل الإعلام من إذاعة وتليفزيون وصحافة في أعمال الدعاية ولجذب المستثمرين والمستهلكين للاقتراض وزيادة إنفاقهم الرأسمالي أو الاستهلاكي.. ولا شك أن هناك مصالح رأسمالية متشابكة يهمها استمرار التوسع حتى لو كان ذلك فوق طاقة البشر والمؤسسات والبلدان.. فمثلا يهتم الصناعيون- بزيادة رقعة أسواق سلعهم أو مخرجات مصانعهم من خلال تشجيع المستهلكين على المزيد من الإنفاق وإذا لم تسمح إمكانات هؤلاء المستهلكين يوفر لهم المال على شكل قروض استهلاكية لتحقيق الهدف المنشود وهو زيادة الاستهلاك.

حلقة محكمة للإقراض

والمؤسسات المالية يهمها أن تتمكن المؤسسات الصناعية والخدمية والعقارية من تسويق سلعها وخدماتها لكي تتمكن من أداء خدمة الديون التي استخدمت في الاستثمار من قبل تلك المؤسسات .. ولكي يتحقق ذلك لا بد من توفير القروض الاستهلاكية للمنتفعين من استهلاك تلك السلع والخدمات .. فمثلا إذا كانت هناك مؤسسة عقارية قامت بتثمير أموالها وزادت على ذلك أموالا بنسبة أكبر على شكل قروض من مؤسسات مالية ومصرفية. فإنها لا بد أن تسوق الوحدات السكنية أو المكتبية أو المتاجر إذا أرادت أن تتمكن من أداء خدمة الديون.. وفي حالة الفشل فإنها قد تكون معرضة للإفلاس، ويعني الإفلاس فقدان المؤسسات الدائنة حقوقها المتمثلة في القروض.. ولذلك تتفتق الأذهان عن أدوات إقراض الراغبين بشراء المساكن والمكاتب لكي يتم خلق سوق قادرة على استيعاب تلك الوحدات العقارية، ومن ثم يستطيع المستثمرون جني تدفق نقدي لمواجهة الالتزامات.

تقاليد أمريكية

تختلف ظاهرة الديون من بلد إلى آخر وتمتد الظاهرة وتتفاقم أو تنكمش حسب العادات والقيم الاجتماعية السائدة في المجتمع.. لكن العادات التي تحكم ظاهرة الديون ليست ثابتة، بل هي قابلة للتغيير، وهذا التغيير في القيم والنظرة نحو الديون مرهون بالتغيرات الاقتصادية إلى حد كبير.. الولايات المتحدة تعتبر من البلدان التي استمرأ الجميع فيها استخدام أدوات الدين بشكل ليس له نظير في أي من الدول الأخرى أو في المراحل المختلفة من تاريخ البشرية المعروف لدينا.. وقد تطورت الأساليب والأدوات المستخدمة للديون ولم ينج من دائرة الإقراض إلا القليل من الأفراد والمؤسسات.. وهناك بيانات فلكية عن حجم الدين في النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة يمكن أن تدوخ منه بعض الرءوس، ويقدر هذا الدين الذي يمثل التزامات الحكومة والمؤسسات بجميع أنواعها، والأفراد بما يربو على ثمانية ترليونات دولار أمريكي (الترليون يساوي، الألف بليون) وهو بذلك يتجاوز حجم الدخل القومي الإجمالي السنوي الذي يبلغ حاليا خمسة ترليونات دولار أو أكثر قليلاً ..

ومن العوامل المهمة في مسألة الديون في الولايات المتحدة تزايد الطلب على القروض بكل أنواعها من قبل الحكومة الفيدرالية الأمريكية، وحكومات الولايات وبلديات المدن الرئيسية.. ويعود هذا التكالب على الاقتراض إلى الزيادات الكبيرة في الإنفاق في الوقت الذي تعجز فيه الإيرادات عن الوفاء بالتزامات الإنفاق.. هذا في الوقت الذي تحاول فيه الحكومات إرضاء الناخبين عن طريق تخفيض الضرائب بشتى أنواعها مثل ضرائب الدخل والأرباح الرأسمالية والعقارية والمبيعات، أو على الأقل عدم زيادتها.. ولا يفوتني التنويه بأن عددًا من المدن الأمريكية الكبرى مرت خلال العقود الأخيرة بأزمات كبيرة كادت تؤدي إلى إفلاسها.. ومن أساليب الاستدانة طرح السندات المتنوعة وبمدد متفاوتة وبأسعار فوائد ثابتة أو متغيرة، وهذه السندات تُخلق لها أسواق ثانوية للتداول، ويتم تصنيفها من حيث الجودة والتي تعتمد على قدرة الجهات المدينة على سداد الفوائد وأقساط الأصل إلى درجة تكونت ومنذ أمد طويل في الولايات المتحدة مؤسسات تعني بالتصنيف المذكور مثل " Moody وبحيث تترتب السندات من الأفضل AAA إلى آخر المنظومة .. ولذلك فإن التصنيف يساعد المقترض على تحسين المقدرة على الاقتراض وكلما كان التصنيف رفيعًا كانت القدرة على الاستدانة أكبر.. ومن المفارقات أن من نتائج تأمل هيكلية الدين فى الاقتصاد الأمريكي أن الجهات والأشخاص الذين لا يتعاملون بأدوات الدين يواجهون صعوبات عندما يطالبون - لأسباب متعددة- بتحديد الكفاءة الائتمانية أو ما يطلق عليه باللغة الإنجليزية "Credit Worthness" .. فهم نظرًا لعدم وجود سجلات للاقتراض أو الاستدانة من قبلهم أو من قبل مؤسساتهم، لا تستطيع المؤسسات المتخصصة بتحديد المصداقية الائتمانية أن تمنحهم الشهادات المطلوبة، عكس أولئك الذين يتعاملون بالقروض بشكل دوري..

فمثلا إذا أراد فرد أن يقوم بشراء جهاز تليفزيون مستخدما لأول مرة أسلوب الدفع بالأقساط الشهرية فإنه قد يواجه صعوبات في الحصول على الموافقة، بالرغم من عدم وجود ديون مستحقة عليه، عكس فرد آخر يمكن أن يكون مدينا من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ولكن هناك سجلا يبين أداءه ومن ثم يستطيع الحصول على شهادة الائتمان ..

تمنُّع، وغوايات

مقابل المؤسسات التي أرهقت بالديون في الولايات المتحدة كانت هناك مؤسسات لا تستدين إطلاقا وتعتمد على مواردها المالية الذاتية وحقوق مساهميها في توسعها الرأسمالي.. هذه الشركات كانت تغري الكثير من البنوك والمؤسسات المالية لمنحها القروض والتسهيلات قصيرة الأجل وطويلة الأجل، وبالرغم من أن إدارات تلك الشركات تتحفظ كثيراً على الاقتراض فإن المؤسسات الدائنة كانت لا تمل من محاولات إغوائها كي تستخدم أدوات الدين.. ومن أسباب تلك المحاولات الدءوب كون الشركات المعنية تتمتع بإمكانات مالية واسعة وأصول جيدة ولا توجد لديها التزامات كبيرة تجاه الغير، وأهم من ذلك كونها تحقق تدفقا نقديا منتظما وكافيا لمواجهة أي التزامات لخدمة الدين.

ويحضرني في هذا المقام أن شركة في بداية السبعينيات كان اسمها " شركة الصداقة للأيس كريم The Friendly Ice Company وهي شركة أمريكية اعتمدت على كفاءة إدارتها وعلى إمكانات مساهميها وتدفقاتها النقدية، وحققت توسعا ونجاحا مهمين.. هذه الشركة صارت محط أنظار العديد من البنوك التي لم تتوان عن الاتصال بأصحابها من أجل إقناعهم بشرف التمويل إلا أن أصحابها ظلوا يصرون لفترة طويلة، على عدم الوقوع في فخ الاستدانة.

ألمانيا مختلفة، واليابان أيضا

لا تخلو الاقتصاديات الأخرى من أدوات الدين.. لكن حجم الدين وامتداداته تختلف من مجتمع إلى آخر .. فمثلا في ألمانيا يظل استخدام الدين محدودا ومرهونا بقدرات المؤسسة على مواجهة التزاماتها.

كما أن الأفراد أو المستهلكين في ألمانيا لا يحبذون استخدام أدوات الدين الاستهلاكية لتمويل شراء السيارات أو السلع المعمرة، يضاف إلى ذلك أن استخدام بطاقات الائتمان يقتصر على بعض الأنشطة الاستهلاكية مثل السفر والسياحة واستئجار السيارات.. كذلك الحال في اليابان حيث يميل اليابانيون إلى الحرص على عدم التوسع في الإنفاق عندما تكون الإمكانات محدودة.. لكن الكثير من الشركات تستخدم الاقتراض كوسيلة للتوسع، وإن ظلت نسب الاقتراض أقل من تلك الموجودة في الولايات المتحدة .. في اليابان تستخدم الأصول العقارية باهظة الثمن كضمانات للقروض من قبل العديد من الشركات الصناعية ..

ديون بلا ترشيد

وما دمنا قد ذكرنا مسألة نسبة الاقتراض فلا بد من توضيح هذه الجزئية في قضية الديون.. في أعمال تقييم المؤسسات وأدائها تحتسب قيمة القروض لدى مؤسسة معينة وتنسب هذه القيمة لإجمالي الأصول وكلما كانت النسبة منخفضة، كانت المؤسسة أو الشركة مليئة وتستطيع مواجهة التزاماتها .. وهناك حسبة أخرى لقياس " الملاءة المالية" مثل احتساب معامل الديون إلى حقوق المساهمين وكلما كان هذا المعامل مرتفعًا، وهو يسمى معامل ال " Gearing Ratio" كانت الشركة أو المؤسسة منكشفة وتتحمل أعباء فوق قدراتها الذاتية .. وفي الولايات المتحدة تصل معدلات " Gearing" إلى مستويات خيالية مثل أن يكون الدين يعادل 80% أو 90% من تركيبة التمويل وتكون حقوق المساهمين 20% أو 10% بمعنى أن المعامل المذكور يتراوح بين 1:4 أو 9 : 1..

يصف عدد كبير من الاقتصاديين عقد الثمانينيات بأنه عقد التوسع غير المدروس في الاقتصاديات الكبيرة .. ولقد واكب هذا التوسع استخدام غير رشيد لأدوات الدين، خصوصا في الولايات المتحدة .. فمثلا قام المستثمرون باقتناء عدد كبير من الشركات من خلال الاقتراض لتمويل صفقات الشراء ورهن أصول الشركات المقتناة مقابل تلك الديون وأطلق على صفقات الاقتناء بعمليات الشراء بالاستدانة "Leveraged buy-out" وفلسفة هذا الأسلوب للاقتناء هي أن الجهة الشارية تعتمد على تحويل ملكية المؤسسة إلى جهة خاصة محدودة بعد أن كانت مملوكة لعدد كبير من حملة الأسهم بافتراض أن المؤسسة لديها عدد من الأصول التي يمكن بيعها بعد عملية الاقتناء لمواجهة التزامات الديون التي استخدمت في تلك العملية .. غير أن نتائج الدراسات التي أجريت حول جدوى تلك العمليات أثبتت أن التوقعات كانت أكثر من وردية وواجه الملاك الجدد الكثير من الصعوبات في تسييل الأصول في أكثر من حالة مما عرض أوضاعهم للكثير من المخاطر بعد أن حان سداد تلك القروض الضخمة ... ومن الأمثلة قيام مؤسسة KKR باقتناء شركة Nabisco وهي شركة لصناعة المواد الغذائية والسجائر بأكثر من 26 بليون دولار أمريكي في عام 1987 ومعظم الأموال التي جمعت لتلك العملية كانت مصادرها القروض الاعتيادية أو سندات الدين التي صدرت لصالح العملية المذكورة...

آثار جانبية واسعة الانتشار

لقد كان لاستمرار الاستدانة والتوسع من خلالها آثار كبيرة على أوضاع العديد من المؤسسات في الولايات المتحدة، وقد انتقلت العدوى إلى عدد من الدول الأوربية، وإن كان ذلك بشكل ضيق.. ومن أهم سمات التوسع المذكور أنه تم في عمليات اقتناء لأصول قائمة أو موجودة، ولم يحدث في أعمال إنتاجية جديدة، ولذلك كان من أهم نتائجه تضخم في قيم الأصول المذكورة، ولم ينتج عن تلك الأعمال زيادة في فرص العمل، بل في أحيان كثيرة حدث تقلص في الوظائف بسبب أعمال إعادة الهيكلة لتلك المؤسسات التي تغير ملاكها من خلال عمليات الاقتناء. المؤسسات المالية والمصرفية لم تقتصر في أعمالها على أسواقها المحلية بل إنها تخطت الحدود وأخذت تبحث عن جهات مقترضة في أكثر من بلد وأكثر من قارة وهكذا تراكمت الديون على العديد من الدول النامية والدول التي كانت تنتمي للمعسكر الاشتراكي (سابقا) في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي.. ومعظم تلك الديون كانت تئول لصالح البنوك الرئيسية في الولايات المتحدة وأوربا الغربية واليابان وتوابعها في الدول النامية.. ومن نتائج استشراء داء الديون في العالم الثالث أن بلغت مديونية الدول الأقل نموا في هذا العالم الثالث أكثر من 1.4 ترليون دولار في نهاية عام 1991.. وقد نتج عن هذه الوضعية أن أصبحت هذه الدول المدينة مصدرة لرءوس الأموال بعد أن كانت مستقبلة لها، وهذا التصدير يتم من خلال خدمة الديون المذكورة على شكل دفع فوائدها أو تسديد الأقساط السنوية لأصل الديون.. وهكذا نشأت أزمة الديون في الدول النامية.

لم تقتصر نتائج المديونيات الخارجية في دول العالم الثالث وعدد من الدول الأوربية الشرقية على أنها أصبحت دولا مصدرة للمال بل إن أوضاعها الاقتصادية اهتزت وأصبحت تعاني من تدهور في أرصدة حساباتها المقومة بالعملات الحرة وتدنت أسعار صرف عملاتها الوطنية، وازدادت حدة التضخم. في أسعار السلع والخدمات، كل تلك العوامل أدت إلى تدهور في مستويات المعيشة مما بذر ظروفا لحالة من عدم الاستقرار السياسي ..

الشمال الدائن والجنوب المدين

ولقد جابهت معظم دول العالم الثالث أوضاعا اقتصادية جعلتها في وضع لا يمكنها من خدمة ديونها الخارجية حيث توقفت عن دفع فوائد الديون ناهيك عن أقساط القروض.. لذلك أصبحت ظاهرة الاجتماعات بين كل دولة وكل من نادي باريس، للمؤسسات الرسمية الدائنة، ونادي لندن، للمؤسسات التجارية الدائنة مثل البنوك، أصبحت تلك الظاهرة تكريسا لعلاقات اقتصادية جديدة بين الشمال والجنوب حيث يعاني الجنوب من تراكم لديون خارجية كبيرة.. وبالإضافة لدور الناديين المذكورين في باريس ولندن كان هناك دور صندوق النقد الدولي.. ولكي تتمكن أي دولة مدينة من أن تتنفس الصعداء وتحصل على تسهيلات في الدفع أو على قروض جديدة تمكنها من تسوية حساباتها الجارية أو تمويل أنشطة أو تجارة أساسية، لا بد أن تحصل على شهادة ملاءة من صندوق النقد الدولي.. وهناك العديد من الاشتراطات والمعايير التي يجب الالتزام بها من قبل الدولة المدينة قبل الحصول على تلك الشهادة، ومن أهمها الالتزام الكامل بوصفة الصندوق، التي تلزم الدولة المدينة بضرورة تبني سياسات اقتصادية تؤدي في نهاية المطاف إلى توفير حصيلة من الأموال المقدمة بالعملات الحرة لمواجهة التزامات الديون الخارجية. ومن أهم هذه السياسات ضرورة تخفيض الإنفاق العام إلى معدلات منخفضة قياسا بالناتج المحلي الإجمالي، مثلا 3% أو 4%.. إلخ... وضرورة الحد من التضخم عن طريق زيادة أسعار الفوائد على التسهيلات الائتمانية المحلية، وضبط برامج الدعم الحكومية للسلع الأساسية والخدمات أو إلغاؤها.. ومن أهم بنود الوصفة تخفيض عدد العاملين في أجهزة الحكومة، ومؤسسات القطاع العام وأهم من ذلك بيع مؤسسات القطاع العام هذه إلى القطاع الخاص من خلال برامج التخصيص، وإطلاق حرية العمل الاقتصادي..

تكاليف اجتماعية وسياسية باهظة

هناك أيضا اشتراطات لتعويم سعر صرف العملة الوطنية بما يتناسب مع قيمة تلك العملة في الأسواق الحرة.. وقد ينتج عن هذا التعويم ارتفاع في معدلات التضخم حيث إن معظم الدول النامية المدينة تستورد أغلبية السلع الأساسية والكمالية وتتواضع فيها القدرات الإنتاجية الصناعية أو الزراعية لمواجهة احتياجاتها.. وبالرغم من أن عددا من تلك الاشتراطات يدعم عملية الإصلاح الاقتصادي، إلا أن هناك تكاليف اجتماعية وسياسية قد لا تكون تلك الدول مستعدة لمواجهتها، وقد تعرض استقرارها لامتحان حقيقي. أبعد من ذلك أن الديون تجعل من الدول المدينة رهينة لشروط خارجية تفقدها حرية القرار.

من جانب الدول الدائنة أصبحت الديون للدول النامية وغيرها مسألة شائكة ومعقدة حيث يتعثر التحصيل وتعجز الدول المدينة عن تسديد خدمة الديون.. وذلك العجز يضع عبئا على المؤسسات المالية في الدول الدائنة ويحتم عليها أخذ مخصصات مقابل الديون غير المخدومة مما يقلص من الاحتياطيات المالية ويخفض من قيمة حقوق المساهمين في تلك المؤسسات وقد تضطر إلى إعلان خسائر في بعض السنوات نتيجة لحسم المخصصات من الأرباح .. ولقد أدت تلك الديون الصعبة إلى ظهور مشكلات كبرى في الأنظمة المصرفية في العديد من الدول المتقدمة حيث خلقت حقائق جديدة واضطرت أمامها السلطات النقدية إلى مراجعة شروط الائتمان ومعدلات السيولة والملاءة وعلاقة حقوق المساهمين بحقوق الآخرين في تلك المؤسسات.

وقد طرحت مجموعة من الحلول لأزمة المديونية الخارجية وبوركت تلك الحلول من قبل البنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي، ومن تلك الحلول قيام الدائنين بتحويل حقوق الدين إلى حقوق ملكية في عدد من الدول المدينة ضمن برامج التخصيص .. بيد أن مثل هذا السيناريو يحتم على البنوك أن تبحث عن مشترين لديونها المرشحة للتحويل لحقوق ملكية حيث تشترط القوانين عدم مساهمتها في حقوق الملكية وعدم تحبيذها الانغماس في إدارة مؤسسات في قطاعات مختلفة وليس لديها حقائق كافية عن طبيعة أعمالها ونتائج أدائها، وعدم ملاءمة تلك الأعمال مع النشاط المصرفي.. لذلك ظهرت الأسواق الثانوية لشراء الديون حيث تقيّم ديون كل بلد وأحيانا ديون كل قطاع في بلد معين بأسعار معلومة تعتمد على الأداء الاقتصادي والسمعة المالية للبلد المدين، وقد تراوحت تلك الأسعار من سنت مقابل كل دولار إلى دولار لكل دولار..

وهناك أسعار تعرضها البلدان المدينة وأسعار يعرضها المشترون لكل دين... فمثلا عرضت حكومة السودان في بداية هذا العام ديونها بسعر 40 سنتا مقابل كل دولار بينما اقترح المشترون سنتا واحدا فقط مقابل كل دولار.. وهذا مثال صارخ يبين الفرق بين تقييم المشترين وتقييم البلاد المدينة.. بينما تعرض بولندا ديونها بسعر 20 سنتا للدولار في حين يطرح المشترون تسعة عشر سنتا ونصف السنت مقابل كل دولار من الديون، والفرق هنا بسيط ومناسب للوصول إلى الاتفاق بين الطرفين ...

ولا شك أن العوامل الاقتصادية والسياسية تفرض نفسها على الأسواق الثانوية وتساعد على تحديد عوامل التقويم والتي على أساسها تتم عمليات المبادلات في الديون. كما أن توصل البلد المدين إلى اتفاقات مع الجهات الدائنة مثل نادي باريس ونادي لندن يساعد على تحسين وتعزيز أسعار ديونه في تلك الأسواق الثانوية.. ويقال إن معظم المتعاملين في شراء الديون هم من مواطني البلدان المدينة ذاتها الذين يملكون أصولا كبيرة خارج أوطانهم ويجدون في شراء الديون فرصا للحصول على ملكية أسهم ومساهمات مهمة في العديد من القطاعات الاقتصادية في بلدانهم الأصلية.

الانكماش والمرارة

أزمات الديون المتعددة، سواء على مستوى الإقراض المحلي أو الوطني أو على مستوى الإقراض الدولي خلقت قيما ومواقف جديدة لدى البنوك والمؤسسات المالية وقد اتسمت المواقف في الوقت الراهن بالحذر والتوجس من كل جهة تطلب الاقتراض.. وبالرغم من أن ذلك يعكس تطورا نوعيا في العمل المصرفي، إلا أنه في الوقت ذاته يؤدي إلى تعطيل عمليات التوسع الاستثماري في مختلف القطاعات ومن ثم يزيد من حالة الركود الاقتصادي ... ففي الولايات المتحدة في الوقت الحاضر تتدنى أسعار الفائدة إلى معدلات قياسية حيث لا تزيد أسعار الفائدة المحسوبة كسعر خصم من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي المحسوبة على الأموال المقترضة للمؤسسات المالية على 3.5 في المائة، وبذلك يمكن أن تتراوح أسعار الفائدة المحسوبة على المقترضين الجيدين "Prime Rate" من 4.5: 5 في المائة، ومع ذلك فإن البنوك لا تزال مترددة في توفير القروض لعملائها، إلا بعد تمحيص في قدراتهم على مواجهة الالتزامات.. وهذا يعكس تغيرا كبيرا عما كان يحدث في السبعينيات والثمانينيات عندما كانت القروض تسير دون حساب ومن غير تردد. وفي الولايات المتحدة، مثلما أوضحنا، فإن آلة النمو كانت تتمثل بالقدرة على الاقتراض وتوظيف الأموال في مختلف القطاعات الاقتصادية، وعندما تجف مصادر الاقتراض تتعطل عجلة النمو... كما أن الأسواق المالية سوف تتأثر بهذه الوضعية حيث يعتمد الكثير من المتعاملين على أدوات الدين تمويل صفقات شراء الأسهم.. وهذا الواقع ليس مقصورا على الولايات المتحدة بل يشمل اليابان، وألمانيا، بريطانيا وغيرها من بلدان رأسمالية.

مرارة الديون لم تكن مقصورة على الدول الصناعية، بل تذوقتها بلدان عديدة على مستوى التعاملات المحلية، وأبرز مثال لذلك ما حدث في الكويت نتيجة لأزمة سوق المناخ .. وهذه الأزمة تعتبر تعبيراً عن التوسع غير المدروس في استخدامات تلك الأدوات المالية، بدون خلق أصول حقيقية مقابلها.. ولقد ظلت الكويت تعاني من تلك الأزمة وما زالت، وقد دفع المال العام غاليا لمعالجة آثار الأزمة المذكورة، واهتزت أوضاع النظام المصرفي والمالي في البلاد، وما زلنا نعاني من آثارها ..

ولا بد من الترشيد

خلاصة القول إن الديون هي اختراع إنساني فيه الكثير من الابتكار، وهذا الاختراع قديم قدم الإنسان، لكنه تطور وزاد استخدامه اتساعا.. بيد أنه تظل هناك أساسيات للتعامل مع الديون وهي أن الجهة القادرة على توفيرها، لا بد أن تكون واعية بالظروف الاقتصادية العامة، وتستطيع أن تتعرف على إمكانات المدين وقدراته على خلق التدفق النقدي الذي يمكنه من مواجهة الالتزامات .. وهذا يتطلب دراسة متأنية لأعمال المدين أو الجهة المقترضة، والتأكد من السمعة الائتمانية من خلال الأداء.. كذلك على الجهة الراغبة في الاقتراض أن توازن بين حقوق المساهمين، وحقوق الدائنين بحيث لا تطغى الديون على حقوق الملكية وتسقطها عند الإعسار .. قضية الديون ستظل أساسية في أي عمل اقتصادي ولكن التعامل معها يتطلب الحذر والعلم ويتطلب ترشيد استخدامات مواردها، وإلا فإن القياس سيضيع..