علاقة جديدة بين الذات والآخر أم إعادة إنتاج تبعيتها للآخر؟

علاقة جديدة بين الذات والآخر أم إعادة إنتاج تبعيتها للآخر؟

يقول فهمي هويدي, في مقال تحت عنوان حين تصبح السياسة لغزا: لم نفهم أيضا (ويشير الكاتب هنا إلى كل ما يحدث في مصر الآن والذي لا نفهمه) لماذا دخلت مصر في فلك الدول الفرنكوفونية, رغم أنها لم تكن يوما ما من الدول الناطقة بالفرنسية (للعلم: الجزائر ليست عضوا في المنظمة), الوفد, 27/7/2001.

مما يشير حقا إلى التباس المفهوم رغم وضوح المصطلح الذي يعني حرفيا: ناطق بالفرنسية. وهذا يطرح سؤالا حول حدود هذا المفهوم بين المعنى الحرفي والثقافة والسياسة. فالفرنكوفونية تغزو اليوم الكثير من الكتابات, الصحفية والأكاديمية أو الآداب المكتوبة والعلمية. تنشر كتب عن البلاغات الفرنكوفونية أو الآداب المكتوبة بالفرنسية خارج فرنسا, كما تتغير مقررات أقسام اللغة الفرنسية وآدابها لتحتوي هذا المجال, تكتب الرسائل في الموضوع, كما تقام المؤتمرات والندوات حوله, تهتم المراكز الثقافية الفرنسية بجوانبه الفنية الخاصة بتعليم الفرنسية للأجانب وتنشر مقالات وكتب لتقديم الخطوط العامة للفرنكوفونية وتفاصيلها المختلفة للجمهور, الذي مازال يتساءل: هل هو أمام ظاهرة شديدة الثراء الثقافي والتفتح على الآخر, أم يقع في فخ استعمار جديد? ويتساءل الأكثر وعيا سياسيا: هل تعتبر الفرنكوفونية بديلا للهيمنة الأمريكية أم غلافا أيديولوجيا لمصالح اقتصادية?

ظهرت الكلمة في نهايات القرن التاسع عشر, في كتابات أونزيم ريكلو وهو عالم في الجغرافيا ابتكر طريقة جديدة لتصنيف الشعوب حسب اللغة التي تتحدث بها في الحياة الأسرية وفي العلاقات الاجتماعية. ثم نسيت الكلمة ولم تظهر من جديد إلا في عدد خاص من مجلة إسبري (Esprit) الفرنسية, حول موضوع (الفرنسية في العالم) نشر في 1962 وجمع كتابا من جنسيات وتخصصات مختلفة, من صحفيين وسياسيين ومثقفين, ومن ضمنهم الرئيس والشاعر سنجور والأمير نورودوم سيهانوك. في هذا العدد تغنى ليوبولد سيدار سنجور بهذه الأداة الرائعة التي وجدت على أنقاض النظام الاستيطاني: اللغة الفرنسية. وكان الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة متحمسا آخر لمفهوم اللغة المشتركة جامعة للشعوب الناطقة بها, فكان اقتراحه في 1965 بـ (كومنولث فرنسي), يحترم سيادة كل من المشتركين.

لم تقع هذه النداءات في آذان صماء! ولم تغب عن المسئولين السياسيين أهمية وفائدة تلك النداءات بالتوحيد أو المشاركة من خلال اللغة. فتعاقبت المؤتمرات والندوات الخاصة باللغة الفرنسية في العالم وسرعان ما ظهر البعد السياسي للموضوع. ففيما بين 1965 و1969 كانت تبرز الصيغة اللغوية والتربوية, إذ تم في فبراير 1965 التوقيع على برنامج تعاون في مجال التعليم بين فرنسا والكيبك الكندية, وفي 1966 أنشأ الرئيس جورج بومبيدو, رئيس الوزراء في حكومة شارل ديجول, اللجنة العليا للغة الفرنسية, ثم في 1967 أنشئ (المجلس الدولي للغة الفرنسية) واجتمعت في لوكسمبورج (الجمعية الدولية للبرلمانيين المتحدثين باللغة الفرنسية). ثم في تصعيد سريع, عقد في نياميه المؤتمر الأول للدول الفرنكوفونية (1969) بحضور الوزير والكاتب أندريه مالرو, وفي 1970 شهد المؤتمر الثاني لهذه الدول في نياميه ولادة (وكالة التعاون الثقافي والفني) للدول الفرنكوفونية والموافقة على لائحتها. بعد ذلك تعاقبت المناسبات المختلفة التي كانت تمزج بين الثقافي والسياسي تحت غطاء أهمية اللغة الفرنسية ودورها الإنساني/ الثقافي البراق لدى الشعوب. فيعلن الرئيس فرانسوا ميتران أنه (عاشق) لموضوع الفرنكوفونية في 1981, فور فوزه برئاسة الجمهورية الفرنسية بينما يدعو جاك لانج, وزير الثقافة آنذاك, الى عقد علاقات ثقافية قوية بين جميع الدول الأوربية ودول البحر الأبيض المتوسط, الفرنكوفونية واللاتينية, لمناهضة الإمبريالية المالية التي تكشط الهويات, هل نسي هنا السيد الوزير أو تناسى ما حدث للهوية الجزائرية تحت الاستيطان الفرنسي?!

لن أدخل هنا في تفاصيل التاريخ غير المعلن للفرنكوفونية الذي كشفه ببراعة محمد حسنين هيكل في مقاله المهم, شديد الدقة والتوثيق, المنشور في مجلة وجهات نظر, عدد 28, مايو 2001, وسوف اكتفي بدلالة الترويج لهذه الدعوة في مصر اليوم, بالمعنى الذي يخصني, أي العلاقة بالآخر بأبعادها المركبة, الثقافية والأيديولوجية, الاجتماعية والنفسية, وسأحاول أن أربط هذه العلاقة بسياق الأزمة التي تندرج فيها, هذه الأزمة المهددة لهويتنا عبر المراحل المبتورة لنهضتنا العربية, التي انطلقت منذ قرنين بالتقريب ولم تكتمل أبدا.

أصبحت مصر عضوا في (وكالة التعاون الثقافي والفني) للدول الفرنكوفونية في ديسمبر 1983, مما آثار دهشة الجميع وربما فضح البعد السياسي للمشروع, وكثيرا ما تتردد في الكتابات الفرنسية جملة بطرس بطرس غالي المشهورة: (تهمنا اللغة الفرنسية لأنها لسان قوم محايد). وتحاول السلطة المصرية أن تقوم بدور فعال في الاتصالات والمؤتمرات الجارية. ففي فبراير 1985, استضافت القاهرة أول مؤتمر لوزراء إعلام الدول العضوة في الوكالة. ولنا أن نتساءل: لماذا كل هذا الجهد?

كما قال فهمي هويدي في المقال المشار إليه سابقا, لم تكن مصر أبدا من الدول الفرنكوفونية. فهناك تاريخ قديم للعلاقات بين مصر وفرنسا التي انتقلت من علاقات تجارية في الأساس إلى محاولة الغزو الفاشل لنابليون بونابارت, ثم تصبح مصر رهينة بين الطموحات البريطانية والفرنسية في المنطقة, حسمت بالنسبة لمصر في الوقوع تحت الاحتلال البريطاني, بينما استمرت فرنسا في ممارستها لدور ثقافي ومحاولة جذب الصفوة المصرية إلى لغتها, ثقافتها.. وتؤثر بشكل غير مباشر ـ وأحيانا مباشر ـ في انزلاق هذه الصفوة تحت هيمنتها.

الكل يعرف مدى حضور فرنسا ونوعيته في الحياة الاجتماعية المصرية, وأتذكر بشكل خاص كيف نشأت في أسرة إقطاعية تتحدث الفرنسية في المنزل, وتكون مرجعياتها التاريخية والثقافية فرنسية, أذهب إلى مدرسة فرنسية وأدرس العربية مثل الإنجليزية كلغة أجنبية, أتعلم مثل تلاميذ بلاد المغرب والهند الصينية أن جدودى هم الجاليون وأنهي دراستي بثانوية عامة ـ أو بكالوريا ـ فرنسية وأتصور حتى السنة التاسعة أو العاشرة من عمري أن العربية هي لغة الشعب في الخارج, وخدم البيت في الداخل!

كانت الفرنسية بالتأكيد فيما قبل 1952 لغة صفوة تمثل ثقافة تابعة, رغم أن البعض من الوطنيين المصريين لجأ إلى فرنسا التي قدمت له المأوى أو السند الأيديولوجي.. ساهمت هذه الثقافة مع ذلك في خلق ثقافة مشوهة, أو على الأقل مزدوجة بين هدف وطني: تحرير مصر من الاستعمار البريطاني ومرجعية ثقافية فرنسية: مركزها باريس بموضاتها في الملبس والمسكن والسلوك والكتب والملاهي وأنظمة القيم.. وبعض القشور من الإيمان بالديمقراطية!

وفي 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر كانت القطيعة. كانت قد تغيرت أنظمة التعليم وتمصرت المدارس الأجنبية, واستبدلت بالصفوة المتفرنسة أنماط جديدة من البرجوازية المتوسطة والصغيرة. كان يبدو في هذه الفترة أن الهيكل الطبقي في مصر قد تغير, وحدث ذلك بالفعل, إلا أنه مع عدم تجذر الثورة, وإلغاء القليل من الحقوق الديمقراطية التي اكتسبت على مدى الصراع الوطني ضد الاستعمار البريطاني والكفاح الاجتماعي من أجل مستوى أفضل من الحياة للكادحين, كانت الثورة المضادة تجمع أسلحتها لتقود البلاد نحو سياسة (الانفتاح) والدخول التدريجي في سياسات السوق الرأسمالي. وبعد فترة الفتور التي أصابت اللغات الأجنبية نراها تعود بقوة وهيمنة لم نعرفهما من قبل بهذا القدر من الانتشار منذ الحضانة حتى الجامعة, حيث تضاف إلى الجامعات الأجنبية, الأقسام الفرنسية لكليات الإعلام والحقوق, وتتحول اللغة الأجنبية إلى المثل الأعلى للتعليم.

وبالطبع لست ضد معرفة اللغات الأجنبية, ولكني أختلف تماما مع السياق والدلالات التي تحكمها في مصر اليوم. أي في غياب مشروع قومي وعلمي يحفز على تعليم اللغة الأجنبية كأداة للمعرفة وللتفتح على الآخر بما يمثله من تشابه واختلاف مع خبرتنا الإنسانية والثقافية, يتحول تعليم اللغة الأجنبية إلى مجرد سلاح في سوق العمل وعلامة للوجاهة الاجتماعية, أو كما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو, إلى (رأسمال رمزي) يكرس هيمنة الفئات العليا الجديد والنظام الاجتماعي التابع, حيث يتربع على رأسه رجال الأعمال ووكلاؤهم وأصحاب كل أنواع الصفقات في الخارج وفي الداخل.

ولا تنفصل حركة الفرنكوفونية عن هذا الإطار.

أدركت السلطات الفرنسية بعد ضياع مستوطناتها أن عليها إيجاد طرق أخرى للاستمرار في الهيمنة عليها. فكانت الفرنكوفونية, رغم كل الكلام الذي يغلفها من دعوة للأخوة والتفتح على الآخر واحترام سيادة وخصوصية كل مشارك في أنظمتها المختلفة, سلاحا قديما/ جديدا لاحتواء الآخر. قديما لأن فرنسا استخدمت دائما لغتها وثقافتها في احتلال البلاد, وجديدا بسبب استخدامها المؤسسي للفرنكوفونية, كأداة لاستعمار جديد. وفي العقد الأخير الذي شهد سقوط نظام الاتحاد السوفييتي وانفراد أمريكا بالسيطرة على العالم تشعبت الدعوة الفرنكوفونية ووجدت صدى لكل من رأى فيها بديلا غير شيوعي لأمريكا ووقاحتها على الساحة العالمية, كما رأى البعض الآخر أنها ربما تكون بديلا للعولمة وتهديداتها بتهميش الآخر, إفقاره, أو حتى نفيه!

أما مصر, فتتحول إلى مشاهد لا يرى شيئا في الصراع غير المتكافئ بين الإنجليزية والفرنسية, وتحاول أن تستفيد بفتات هنا وهناك! فبينما تتكون في المؤسسات الأجنبية صفوة وكوادر تجيد اللغات الأجنبية و(الحوار) مع (الآخر) أي أسياد العالم الجدد, يحاول, يائسا, جمهور غير قليل أن يتعلم الإنجليزية و/أو الفرنسية, آملا في تحسين فرصه في سوق عمل تابع, حيث أصبح المثل الأعلى للإنسان الكامل هو السكرتير متعدد اللغات في مؤسسة أجنبية!

منذ الحضانة يتعلم الطفل أن الشاي اسمه بالإنجليزية (تي) أو بالفرنسية (تيه) ونسمع أن أما احتجت لأن حضانة أبنائها تعلمهم العربية في الأساس. فهي لا تدفع المبالغ الضخمة المطلوبة منها كي يتعلم أبناؤها اللغة العربية! وعلينا بحق أن نقلق على مستقبل هذا البلد, على هوية حكامه وهوية ناسه, بينما القهر اليومي مازال ينهك شعبه.

لا نستطيع أن ننفي أن فرنسا تقوم حقا بجهود لتكتسب حضورا ثقافيا في مصر, في التعليم أولا, حيث تقيم أدوات أفضل لتعليم اللغة الفرنسية للأجانب انتشرت من المركز الثقافي الفرنسي إلى بعض أقسامنا الجامعية, وفي الحياة الثقافية ثانيا, حيث تهتم بالسينما المصرية وبالمسرح بإلقاء الشعر العربي والفرنسي وترجمته, بدعوة الكتاب إلى فرنسا, بالمساهمة في ترجمة نصوصهم, وأخيرا بمحاولة جذب جمهور أوسع في تظاهرة (الفرنسيون يعشقون القاهرة). لكن هنا أيضا لا تنال مصر إلا فتاتا لا تستفيد منه إلا فئة ضيقة لمن يعرفون أصلا الفرنسية, وحتى بالنسبة لهؤلاء فالثقافة الموسمية والمهرجانية (لكن ألم تنتشر هذه في أوساطنا أيضا?), لا تبني باحثا ولا مفكرا, كما لا تخلق فنانا, حتى إذا تجنبنا البعد الأكثر خطورة, وهو أنها تدمر كل بذور الثقافة الوطنية وتنشر قيما وسلوكا لا تبني في الأساس بل تشوه الهوية وتهتك الجذور.

لقد تغيرت اليوم العلاقة التقليدية بين فرنسا ومصر, رغم استمرارها في طريق التبعية للآخر, التي كانت تربط عضويا بين صفوة مصرية إقطاعية وباريس, مركزا للحضارة وللثقافة, سلوكا وفكرا, فنونا وآدابا, وفي إطار السياسة ما بعد الاستيطانية لفرنسا والسياسة الانفتاحية لمصر, تربط بين البلدين مشاريع اقتصادية مثل بناء المترو, تحديث بعض المستشفيات, وإقامة بعض المشاريع الثقافية كتلك التي أشرنا إليها سابقا.

ولنا أن نتساءل هل الفرنكوفونية غطاء أيديولوجي لانتشار هذه العلاقة الاستعمارية الجديدة? ونشهد الآن إعادة إنتاج علاقة غير متكافئة بين ذات مضطربة ومغربة, فاقدة للأسس اللغوية والتاريخية والعلمية التي تبني ثقافة وطنية ومستنيرة حقا, لتلهث وراء آخر ثقافي, دون أن تلحق بثقافته العميقة, القائمة على المبادئ الإنسانية للنهضة الفرنسية ونشرت في العالم نصوصها الثورية والتنويرية, قد نسيتها هي الأخرى لتعطي لنا فتاتا من الأوهام الثقافية والتنويرية! ولنا أن نتساءل: ألا نسقط في صلب العولمة ونحن نعتقد أننا نقاوم الهيمنة الأمريكية باللجوء إلى دعوة الفرنكوفونية? ففرنسا هي كائن وشعب أعطى للعالم العميق من الثقافة والكثير من الأمثلة للمعارك الاجتماعية, هذه الأسلحة السياسية والفكرية التي تبني ثقافة نقدية, فبدلا من الانزلاق وراء أوهام ثقافية ألم يكن من الجدير أن نمارس بدورنا سلاح النقد, نقد الذات ونقد الآخر, ونقد هذه العلاقة بيننا وبين الآخر التي تجعلنا دائما في وضع الأضعف والتابع!

 

أمينة رشيد