موقع اللغة والثقافة العربية في مواجهة الفرنكوفونية

موقع اللغة والثقافة العربية في مواجهة الفرنكوفونية

أي موقع هذا الذي تتبوأه, أو يجب أن تتبوأه, الثقافة العربية إزاء الحركة الفرنكوفونية التي لا تزال تَنْضُر وتستعلي في الأرض? وما تلك العلل التي كانت وراء نشوب هذا الصراع الحضاري المرير بين الثقافة العربية من حيث هي هوية وأصالة وقيمة حضارية, والثقافة الفرنكوفونية من حيث هي غزو ثقافي دخيل قُصاراها تدمير الثقافة العربية وكل القيم الروحية والدينية والتاريخية المرتبطة بها? وهل يمكن النهوض بشيء ما, ولو على هون ما, من أجل تأسيس شيء من الموازنة بين الهجمة الفرنكوفونية الشرسة, والثقافة العربية التي تبدو وكأنها تتراجع, أو كأن جذوتها لا تزال تخبو من حيث كان يجب أن تذكُو, أو كأن هذه الثقافة العربية إما أنها لا تزال تفقد الثقة في نفسها, وإما أن القائمين عليها, والناضحين عنها, لهم الثقة الزائدة في أنفسهم بحيث كأنهم ينظرون إلى هذا الصراع من موقع قوة, ومن وضع استعلائي, وهم, إن كانوا حقا كذلك, مخطئون? وماذا يمكن أن تأتي الثقافة العربية لكي تقف الند للند للثقافة الفرنكوفونية للتصدي لها فتساور سبيلها, وتضيق عليها أفقها...?

ذلك, وإن موضوعا مثل هذا في بعده الحضاري, ومظهره الاجتماعي, ومرماه السياسي, وعمقه القومي الوجودي, لجدير بأن يتطلب منا حيطة شديدة أثناء التناول, وحذرا قلقا لدى المعالجة, وذلك حتى لا نقع تحت طائلة العاطفة, ونذعن لسلطان الذاتية. لقد كانت غاية الإدارة الاستعمارية أن تطمس الشخصية الوطنية, وتعمي على عناصر هويتها العربية الإسلامية... فالاستعمار الفرنسي في الجزائر لم يكن سياسيا واقتصاديا فحسب, ولكنه كان ثقافيا لغويا, حتى لا نقول: دينيا أيضا..

ولذلك جاء الاستعمار الفرنسي, أثناء ثورة فاتح نوفمبر 1954, إلى الأدباء والمفكرين باللغة العربية فقتل منهم خلقا كثيرا (ولعل ذلك السلوك العنصري كان من طلائع هذه الفرنكوفونية المتعصبة), فإن منهم لما قتل عنوة, وإن منهم لما اختُطف سرا فلا أحد يعلم بالمصير المحتوم الذي لقيه, ولم يكن جزاء المختطفين, على كل حال, إلا النكال ثم الإعدام الفظيع, وممن منوا بذلك من كتّاب العربية في الجزائر الصحفي والقاص والمسرحي والروائي أحمد رضا حوحو, والشاعر عبدالكريم العقون, والشاعر الربيع بوشامة, والمفكر الإسلامي التبسي... وأما عن قتل حفظة القرآن والمستنيرين من الشباب فحدث ولا حرج..

وأما بخصوص المصطلح الذي طرح محورا لهذه الإشكالية, في مجلة (العربي) فإن المثقفين في المغرب العربي اغتدوا يميزون بين مصطلحين اثنين, في الحقيقة مختلفين, أحدهما مجرد مصطلح لغوي, وهو (الفرنكوفونية) في حين أن المصطلح الآخر يدل على شبكة من القيم المادية والشكلية التي يعني بعضها حُب فرنسا والتعلق بها, ويعني بعضها الدفاع عن لغتها, كما يعني بعضها الآخر التمسك بحضارتها وثقافتها, والحرص على تبني تقاليد عيشها, وهو مصطلح (الفرنكوفيلية). فالفرنكوفوني هو مجرد العارف باللغة الفرنسية فقط, وليس ينبغي أن يصنف بالضرورة, من أجل ذلك, في طبقة الناضحين عنها, والمتعلقين بها إلى حد الهوس, بل إلى درجة الحلول في أهلها. فهو بذلك غير مليم, ومعرفة اللغات الأجنبية من التقاليد العربية الإسلامية ولا أحد من العقلاء ينكر على أحد أن يتعلم لغة أجنبية ليستفيد منها ويفيد, على حين أن (الفرنكوفيلي), كما تدل على حقيقة معناه المعاجم الفرنسية المعاصرة, هو كل متفان في حُب فرنسا, معجب بتقاليد العيش لدى أهلها. ذلك بأن هناك من الناس في المغرب العربي من قد يحب فرنسا وثقافتها وحضارتها وتقاليدها أكثر مما يحب وطنه ونفسه, حتى لا أقول: أكثر مما يحب الله! وهذا مرض ثقافي حضاري يجب أن يدان.

ولعل من السداد أن تنهض معالجة هذه المسألة على شيء من هذا التمييز الدقيق بين هذين المفهومين: أحدهما لغوي محض, والآخر حضاري صرف, فلا على المرء أن يتعلم الفرنسية كما يتعلم أي لغة, أو حتى لغات, أخرى عالمية. أما أن يتعلم هذه الفرنسية من أجل أن يتنكر لكل قيمه الوطنية والتاريخية, ويرفض عبقرية شعبه, وكفاءة أهله, ولكي يتخذ منها أداة لتدمير اللغة العربية, بل ربما لرفض جميع اللغات (فعهدنا بالفرنكوفيليين لا يتقنون في الغالب إلا اللغة الفرنسية وحدها), فتلك سيرة ما يكون لنا لنسكت عنها, لأنها تفضي إلى تمزيق الشخصية الوطنية دون بلوغ أية نتيجة حضارية حقيقية من وراء التعلق بهذه الثقافة الأجنبية والدفاع عن وجودها في بلاد المغرب عموما, وفي الجزائر خصوصا.

تعميم العامية

إن الفرنكوفيلية نزعة أجنبية من غاياتها تدمير الثقاقة العربية ومعها كل المقومات الحضارية الوطنية, فهي جزء من العولمة, أو قل إنها عولمة مصغّرة مبكرة كانت, ولا تزال, تسعى, فيما يتاح لها من قوة وسلطان, أن تقضي على الوجود العربي في بلاد المغرب خصوصا.

وكان أولئك الكتّابُ الفرنكوفيليون, كما سلفت الإشارة, كأنهم يستحون, في تلك المرحلة, أن يطالبوا بإحلال الفرنسية محل العربية, فكانوا يتلطفون لطلبهم بالمناداة بإحلال العامية محل العربية حتى يخلو المجال للغتهم الفرنسية فتبيض وتصفر, وتنقر ما تنقر, إذ كانوا يعلمون أن أي عامية لا يمكن أن يحصل بها التقدم, ولا تكون سبيلا إلى التطور, بل ربما لم تكن مدعاة إلا لتقويض الوحدة الوطنية.

وكانت نزعة تعليم العامية الجزائرية في المدارس الثانوية والجامعة, وهي لغة الناس اليومية في أسواقهم وتعاملاتهم المبتذلة, مما أشاعه الفرنسيون في أواخر عهدهم بالجزائر. فكان التلميذ الجزائري في مرحلة التعليم الثانوي, من أبناء النبلاء والأكابر (لأن المدرسة الفرنسية في الجزائر لم تكن مفتوحة في وجوه كل الاطفال الجزائريين من الفقراء والمحرومين) يذهب إلى المدرسة ليتعلم بجانب الفرنسية شيئا كانوا يطلقون عليه (اللغة الدارجة) . وقد نشط المستشرقون, على ذلك العهد, نشاطا عجيبا فتألق في هذا السخف السيد بيريس, ومجموعة من الأساتذة اليهود, فألفوا كتبا غريبة في قواعد العامية الجزائرية, ولجوا في عبثهم فعاثوا بذلك عثواً كبيراً, فكان ذلك السلوك من أسخف واشنع ما ارتكبه الفرنسيون في الجزائر بعد فظائع القتل والتعذيب.

ولقد كانوا يعلمون أن الفصحى هي لغة القرآن العظيم, وهي الحاملة, إذن لمشعل العقيدة الإسلامية, وهي لغة الخوارزمي وابن خلدون والفارابي وابن سينا وابن الهيثم, والجاحظ والمتنبي... فالفصحى هي القادرة على أن تحمل فكراً وفلسفة وديناً وحضارة وتراثاً إنسانياً عظيماً, وما عداها فمجرد مغالطة وفضول.

وعلى أن ذلك زمن وانقضى... وتلك أفكار لم يعد أحد من أعداء العربية يرددها اليوم لوقوع الجرأة على المطالبة بأكثر من ذلك, أي بإحلال الفرنسية محل العربية بكل بساطة ويستريح الناس من كل عناء, فيتكلفون الترطين بتلك اللغة الأوربية البعيدة عن كل القيم الدينية والوطنية التي يتعلق بها جمهور الشعب في بيوتهم ومدارسهم ومجتمعهم, فيؤبن الناس أمواتهم باللغة الفرنسية, ويترحمون عليهم بها خاسئين. فما دامت اللغة العربية غير صالحة للحياة, فيما يزعمون, فهي غير صالحة أيضاً, بلسان حالهم, لشئون طقوس الدنيا وأهوال الدّار الآخرة...

غرس اللغة

ولذلك لم تنج الجزائر من هذه السيرة وقد تعرضت لاحتلال بشع دام قرناً واثنين وثلاثين عاماً كانت أطول من عمر الدّهر, فجاء الفرنسيون إلى لغتهم فاغترسوها في نفوس كثير من الجزائريين فجرت, بعد لأي, على ألسنتهم, وتمكنت من شغاف قلوبهم, فأمسوا في حيرة من أمرهم وهُم يعمهون. ولعل كثيراً من هؤلاء الذين وقعت لهم تلك الحيرة يتساءلون حين يخلون إلى أنفسهم: من هم? أهم فرنسيون حقاً? لا, ولكن لم يتعلقون كل هذا التعلق بهذه اللغة فيعدونها, باطلاً, هي اللغة الأولى في العالم, ويرفضون أي لغة أخرى ما عداها, ثم تراهم يجيئون إلى هذا التعلق الشديد الذي يشبه الحب الحرام فيبررونه بتبريرات واهية? لقد وقع لهم ما وقع من حيث, ربما, لم يريدوا فاختلطت عليهم الأهواء, وعميت من حولهم الأنباء, فإذا هم: لا هم فرنسيون أقحاح, ولا هم عرب أقحاح... وأسوأ المنازل ما كان بين المنزلتين! والحق أن فرنسا لا تريد منهم إلا أن يتحدثوا لغتها مقابل لاشيء تقدمه إليهم غير رضاها عنهم, فيحصل لها هي من ذلك كثير من النفع الثقافي والاقتصادي, أما هم فلا يكادون يجنون من وراء ذلك إلا الشوك. أم هم, في الحقيقة, غير فرنسيين? وإذن, فلم يتحدثون, أيضاً, هذه الفرنسية ويلوكون بها ألسنتهم وهم لا يدرون لم يأتون ذلك, فبعضهم يبرر ذلك بأنه كان نتيجة لظروف تاريخية قاهرة, وبعضهم الآخر يزعم أن ذلك كان لأن هذه اللغة جميلة, بل جميلة جداً, وهي تربطهم بالمجتمع الفرنسي ربطاً مباشراً, فيتنظرون تلفزاتها, ويتسمعون إذاعاتها?

التربية المدنية

ولقد بثت الفرنكوفيلية, على أصح تعبير, أنصاراً لها في الإدارة العمومية, وهيأت عيونها ليتولوا الهيئات الحكومية العليا, فتزوجوا الفرنسيات, أو أشباه الفرنسيات, ورأسوا الجمعيات المشبوهة, وقادوا الهيئات المريبة, ورطنوا بالفرنسية علانية بعد أن لم يكونوا يرطنونها في زمن سابق إلا في نواديهم الخاصة وهم لا يستحون... بل أمسوا يحاولون فرض آرائهم على الأغلبية المهينة فتسربوا إلى لجان إصلاح برامج التعليم, أو أي لجان مشابهة, ومن هنالك بثوا سمومهم, وقرروا آراءهم, من أجل بناء ذهنية لائكية غربية الاتجاه لدى الناشئة, فقبلوا بالعربية نظرياً, ورفضوها عملياً, كما قبلوا بالإسلام ظاهراً, ورفضوه باطناً, حيث لا يزالون يطالبون باستبدال التربية الإسلامية بما يطلقون عليه باطلاً (التربية المدنية). فأي مدنية يريدون? وأي تربية هذا وصفها يقصدون? بل لعلنا قد نسمع بمن يطالب بتعليم مبادئ الأديان السماوية, وربما غير السماوية أيضاً بعد حين, جملة, فيضيع الإسلام في اليهودية, وتضيع العربية في الفرنسية, فيقع المسخ للناشئة فينشأون وهم على غير شيء, ما دام كل ما يتعلمونه هو غير شيء...

كما أصبح الفرنكوفيليون, على أقليتهم, هم الذين يتحكمون في مصير الأغلبية ويتجاهلون مطامحها, ويرفضون تطلعاتها, ويدوسون كل القيم التي تؤمن بها.

كيف يمكن ان تكون المواجهة الحضارية?

وإذن, فالصراع بين الثقافتين العربية والفرنكوفونية صراع حقيقي, ويجب وضع خطة محكمة, وطويلة النفس, وبعيدة المدى, وذكية المنهج, من أجل الحفاظ على الهوية العربية ونضارتها, ومن ذلك:

1 ـ وجوب البدء بما لا بد من البدء به, وهو التعليم, ويجب تفويت الفرصة على كل الذين يعملون على تشويه برامج التعليم بتسميمها بالقيم الاجنبية الدخيلة. وعلى الكتاب والمفكرين وكل أولي الرأي النافذ, والفكر الثاقب, ألا يسكتوا عن فرنسة ألسنة الأطفال والشمس متوهجة. والتاريخ شاهد يسجل.

2 ـ وجوب إشاعة تعليم اللغات الاجنبية الحية الكبيرة كالإنجليزية والألمانية لقطع السبيل على الفرنكوفيليين وافساد خططهم التي ترمي, في حقيقتها, إلى إضعاف وجود كل اللغات الاجنبية, ولا نتحدث عن العربية التي يمقتونها جهاراً, ما عدا فرنسيتهم التي يعبدون.

3 ـ على العلماء العرب أن يترجموا النظريات الحديثة والتكنولوجيا العالية إلى اللغة العربية لإثرائها بالمصطلحات والمفاهيم حتى تواكب التطور الذي يشهده العالم.

4 ـ وهل يمكن أن نقترح على المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ضرورة التفكير في تأسيس فرق بحث أو إنشاء جوائز كبرى, لتطوير العربية وتيسير استعمالها: كتابة ونحواً.

5 ـ على وسائل الإعلام, الثقيلة والخفيفة, أن تبث الوعي في الناس, وتكشف عن المخططات المدبرة لنسف وجود العربية وثقافتها, فإشاعة الكلمة العربية ليست مرتبطة بالإسلام وحده, ولا بكيان الأمة العربية وحده, ولا بالارتباط بمائتين وأربعين مليون عربي, ومليار ونصف مليار من المسلمين (باعتبار ان كل مسلم يعرف شيئاً من العربية ولو بما يصلي به) وحدهما, ولكنها مرتبطة ـ ولنتحدث هنا لغة الأمريكيين البراجماتية ـ أيضاً بالقوت اليومي, فليس عيباً ان يطلب المرءُ قوته الحلال باللغة الوطنية ـ العربية ـ عوضاً عن لغة المستعمر بالأمس القريب, فالفرنكوفيليون لا يزالون يتهمون أهل العربية ويعيبون عليهم زاعمين أنهم يحرصون, قبل كل شيء, على نيل المناصب التي يتبوّأ مقاعدها الفرانكوفيليون, ويبتغون نزعها منهم وهم لا يرعوون, فكأن تلك المناصب العليا حلال لهم وحدهم حرام على المعربين. وكأنه كتب على أهل الفرنكوفيلية أن يحتلوا المناصب العليا, وحدهم, طوال العمر من حيث يظل المثقفون باللغة العربية يتفرجون (فمن الفرنكوفيليين من يتبوأ منصباً سامياً منذ أربعين عاماً ولن يغادره إلا إلى رمسه, والفرنكوفوني إذا أخطأ في ممارسة وظيفته السامية فالرب غفور, والتسامح مبرور, على حين أن المثقف بالعربية, إذ تولى منصباً, يوماً, في غفلة من عين الدهر, فإنه سيحمل جميع أوزار الدنيا حتى ينحى منه وهو ذليل حسير...).

6 ـ لا بد من العمل بكل الوسائل الفكرية المشروعةـ توكيدا لما ورد في الحيثية الخامسة ـ من أجل تبوء المناصب العليا في الدولة, حتى لا يظل المثقف باللغة العربية أجنبياً في وطنه, وغريباً في داره, فعليه ان يوجد حيث موقع القرار ليشارك في اتخاذه وهو عزيز في داره, وإلا فالسلام, ثم السلام والرحمة, على اللغة العربية...

 

عبدالملك مرتاض