اللغة حياة

اللغة حياة

لَعِبَ الدَوْرَ أم أدّاه؟

في سنة 1977 رفض مجمع اللغة العربيّة في القاهرة إقرار عبارة: «لَعِبَ دَوْراً» بحجّة أنّها لاتساغ في مقامات الجِدّ، ولاسيّما في الشأن الدينيّ. لكنّ عضو المجمع عليّاً النجديّ ناصف قدّم بحثاً يفنّد فيه هذا الرأي، ويحمل المجمع على العودة عنه، وعلى تسويغ العبارة بتحفّظ، مع تفضيل عبارة: «أدّى دَوْراً»، واشتراط أن تستعمل عبارة: «لَعِبَ دَوْراً» «في نطاق ما يستسيغه الذوق العامّ».

وملخّص بحث النجديّ أنّ معنى اللَعِب قد تطوّر وابتعد من أصله الأوّل ليدلّ على الأداء والممارسة، وأنّ الألعاب الرياضيّة قد ازدهرت وغدت ذات قيمة وغاية سامية، وجمهور عريض، وصار لها باحثون اختصاصيّون، ولم يعد للّعب معنى اللهو والعبث (كذا)، وأنّه يمكن استعمال العبارة، على الأقل، في شئون الدنيا دون الدين. وقد استشهد لرأيه بورود العبارة على لسان رئيس عربيّ، ليؤكّد ملاءمتها للمقامات العالية، موحياً أنّ السياق هو الذي يفرق بين معاني الجدّ واللهو، وأن من المسرحيّات ما يعالج مواضيع جديّة.

وقد لجأ المجمع في إجازته للعبارة إلى تفسير اللعب بالتأدية، والدور بالهام والقدر والنصيب؛ أي أخرجها من حيّز اللهو، كما حاول توجيهها نحويّاً.

إنّ بحث النجديّ وموافقة المجمع، كلاهما يوهم أنّ العبارة عربيّة، وأنّها قطعت الصلة بجذورها ودخلت الحداثة، ولذلك لم يخل كلامهما من التجوّز. ولو تتبّعنا المسار الحقيقيّ لتلك العبارة لاستبان لنا وجه الحقيقة.

لا يخفى على العارفين أنّها عبارة مولّدة لا نظير لها في العربيّة الفصحى، وقد فرضتها الضرورة عندما دخل على الثقافة العربيّة فنّ جديد له مصطلحاته الخاصّة، هو فنّ المسرح، وما تفرّع عنه من سينما وتلفاز وغيره. وعند دخول فنّ جديد يعمد المهتمّون به إلى نقل مصطلحاته الأجنبيّة إمّا بالتعريب أو بالترجمة. ومن العبارات الاصطلاحيّة لذلك الفن عبارة: jouer un rôle الفرنسيّة أو ما يقابلها في الإنجليزيّة. وقد نُقلت إلى العربيّة في صيغة:«لَعِبَ دَوْراً»، وهي ترجمة غير دقيقة، لكنّها شائعة في الاستعمال ويتقبّلها المنشئ والمتلقّي كلاهما، حتّى غدت واقعاً لغويّاً، ما لبث أن انتقل من المسرح إلى ميادين أخرى، إمّا على سبيل المجاز في العربيّة نفسها، أو نقلاً عن مجاز اللغات الأخرى.

ومدار العبارة على كلمة rôle التي يعني أصلها اللاتينيّ، وربما اليونانيّ أيضاً (فقد اقتبست اللاتينيّة كثيراً من الألفاظ والعبارات اليونانيّة): الرَقَّ الملفوف، وكان يُستخدم في أمور شتّى، منها أنّ المسرحيّين القدماء كانوا يكتبون عليه النصّ الخاصّ بأحد الممثلين، والمشتمل على ما ينبغي له قوله وفعله فوق الخشبة، وصار يعني الوظيفة الموكولة إلى الممثّل في مسرحيّة ما.

فهو ليس «الدَوْر» بمعناه في اللغة العربيّة الحديثة، أي الموعد أو العمل المخصوص لفرد أو جماعة، ضمن مواعيد أو أعمال متعاقبة ذات طبيعة واحدة غالباً، كالدور في الدخول على طبيب، أو على مسئول، أو في ظهور الممثّل على الخشبة أو في فيلم... إلخ. بل يعني تلك الوظيفة المتقدّم ذكرها. ولعلّ ما حمل على الخلط بين المعنيين أنّ الكلمة استعملت في المحاكم بمعنى جدول الدعاوى.

أما الفعل jouer فلا يعني في أصله اللاتينيّ اللعب بل الهزل والمزاح، ثم صار له معنى الحركة اللاهية، وما أشبه ذلك، واتّسعت معانيه فشملت فكرة الخداع، والعَرض، وتحريك الشيء، وتجسيد شخصيّة ما أو محاكاتها، ومعاني أخرى، كثير منها يدلّ على العبث والسخرية والحركة. فلا فرار من معنى اللهو، ولاسيّما أنّ الرياضة البدنيّة نفسها لهو مفيد، للاّعبين وللنظّارة؛ ولا ضرورة لأن ندافع عن معنى اللعب، ولا أن ننفي عنه معنى اللهو، وننسب إليه معنى الأداء أو الممارسة. لكن حسبنا القول إنّ اللعب الراقي أو البارع عمل فنّيّ يقتضي المهارة والمقدرة، ومن ذلك اللعب بالعود وسائر الآلات الموسيقيّة؛ وكذلك اللعب بالشطرنج والنَرْد، وغيرهما، واللعب بالعود وسواه يدخل في التعابير العربيّة الصحيحة. ولذلك فإنّ استعمال اللعب في فنّ راقٍ آخر، كالعمل المسرحيّ، لا يجافي العربيّة، وهو يعني حينئذ الكلام والعمل بمهارة وأصول متبّعة. فالشطر الأول من العبارة، وهو «لَعِبَ»، عربيّ صحيح، ولا مسوّغ لرفضه واستعمال غيره، مثل فعل «أدّى» الذي اقترحه المجمع، أو فِعل «مثّل» الذي قالت به بعض المعاجم الحديثة، أو «قام بـ»، الذي اقترحه بعض المصححّين الصحافيّين؛ أمّا حذف باء التعدية التي تلازمه عادة فقد كفانا المجمع أمر توجيهه.

لكنّ الشطر الثاني من العبارة أي «الدَوْر» يبدو محل الاعتراض، عند بعضهم، وهو اعتراض لم يلحظه المجمع؛ فمن معاني الكلمة في العربيّة: الدوران، والمحيط الدائريّ، والمرّة، والعودة... إلخ. وليس بين معانيها معنى الوظيفة التمثيليّة، ولا حتّى ما قال به المجمع من معاني الهامة أو القدر أو النصيب. ولذلك هم يخطّئون الاستعمال جملة، ويفضّلون عليه نحو عبارة: أدّى عملاً. والاعتراض مقنع، لكنّ العبارات الاصطلاحيّة التي فرضها الاستعمال المستطيل الواسع، يصعب العودة عنها، وإعادة صوغها، وإن جافت صيغ اللغة، وافتقرت إلى الأمانة في نقل المعاني والتعبير عنها؛ فكثير من المصطلحات المستقرّة في اللغة محل اعتراض، مثل مصطلح «محكمة الاستئناف»، الذي يعني حاليّاً محكمة من الدرجة الثانية تعيد النظر في قرارات المحاكم الابتدائيّة، علماً أنّ الاستئناف، في العربيّة، هو الابتداء غير المسبوق بعمل آخر. وثمّة حالة واحدة تسمح بمراجعة المصطلح، هي الخطأ الظاهر في التركيب اللغويّ، وغلبة العُجمة عليه؛ وليست هذه حالة العبارة التي نحن بصددها. وبعض الوظائف التمثيليّة في المسرح هامّ، وبعضها قليل الأهميّة أو ثانويّ... إلخ. فيقال: لَعِبَ الممثّل دوراً هامّاً، أو قليل الأهميّة، أو ثانويّاً؛ فإذا انتقلنا من المسرح إلى الواقع، واستعملنا له ذلك التعبير المسرحيّ مجازاً، يصبح نحو قولنا: «لعب فلانٌ دوراً هامّاً في المجال السياسيّ» يعني: كان لنشاطه في المجال السياسيّ وظيفة هامّة أو أثر هامّ.. وهكذا.

لكنّ المستعمِل قد يستغني عن الفعل وما قد ينشأ عن استعماله من لبس، فيقول مثلاً: للمعلّم دور أساسيّ في تربية النشء، أو ما أشبه ذلك.

ولا ينحصر ميدان هذا الاستعمال بالعلاقات البشريّة، بل يتجاوزها إلى أمور الطبيعة والعلاقات الذهنيّة؛ فيقال مثلاً: للهواء النقيّ دورٌ نافع صحيّاً؛ ولعلامات الوقف دور في وضوح المعنى. وقد حاول بعض الغرباء عن علم اللغة أن يقترح كلمة «الدَوْر» بديلاً من مصطلح «العَمَل» في النحو، لكنّ اقتراحه ساقط، لأنّ المترجَم لا يُبدل من الأصيل.

 

 

مصطفى عليّ الجوزو