جمال العربية
جمال العربية
عندما هتف الشريف العقيلي: «إلى الله أشكو» طغت عليه شهرة الشريفين الطالبيين الآخريْن: الشريف الرضي أشعر الطالبيين قاطبة، والشريف المرتضي الأديب والعالم المتبحر في الكلام والفقه والشاعر أيضًا. أما هو: الشريف العقيلي - الذي ينتسب إلى جدّه الأعلى عقيل بن أبي طالب شقيق الإمام علي - فيجيء في المرتبة الثالثة بين الشرفاء الثلاثة، وعلى العكس منهما لا يعرف تاريخ ميلاده أو تاريخ وفاته، وإن كان هناك اتفاق على أنه عاش معظم حياته في القرن الرابع الهجري، وأدرك القرن الخامس، واستدلّ مؤرخوه بمدحه لبعض رجالات القرن الرابع كالقائد الحسين بن جوهر الصقلي، الذي خدم العزيز بالله وابنه الحاكم بأمر الله (386 - 411). ولد الشريف العقيلي وعاش بالفسطاط، وكان أهله على درجة كبيرة من الثراء والنعمة، فورث عنهم الشرف والغنى، بانتسابه إلى الطالبيين من ناحية، وحياة الترف في القصور من ناحية أخرى. ما الذي نتوقعه من شاعر يُقدّر له مثل هذه الحياة؟ أن يكون شعره سجلا حافلا بوصف مجالس لهوه ومتعه ولذائذه وشرابه، وأن تكون صوره الشعرية مستلهمة من هذا الجو المفعم بالبهجة والفرح والاستغراق في النشوة الحسّية تقوده إلى مواقف الغزل والعتاب وشكوى الأصدقاء والحسّاد، وحين يُدبر العمر تكون شكوى الزمن والشيْب والشيخوخة والعجز عن مواصلة ما كان. ولعله في هذا يشبه تميم بن المعز لدين الله الفاطمي، الذي قضت الأقدار بأن يعيش حياة مماثلة عندما حرمه أبوه الخليفة ولاية العهد وآثر عليه إخوته، فعكف على إغراق أحزانه ومأساته في المتع والشراب، وشكوى الزمان وعتاب الأيام، ونفْث ما في أعماقه من مرارة وهمٍّ مقيم. لكن المسافة بين الشاعرين كبيرة، من حيث الشاعرية والقدرة على الصياغة وامتلاك اللغة والتصرف فيها والخيال المحلق المتوثب، هنا ترجح كفة تميم بن المعز في ميزان الشعر، ويتقدم كثيرًا على الشريف العقيلي، بإبداعه وافتنانه في القول، ونَفَسه الشعري الممتد في تناوله لموضوعاته، وقدرته على إبداع الصور الشعرية الجديدة والطريفة. ويبقى للشريف العقيلي - واسمه الحقيقي: أبو الحسن عليّ بن الحسين بن حيْدرة - ولعه بالطبيعة وهيامه بمظاهرها وظواهرها الخلابة وتجلياتها البديعة مع مختلف الفصول، وامتلاء ديوانه بالحديث عن المياه والبرك والبساتين والفاكهة والأزهار والرياض، بالإضافة إلى ذكر أهم أنواع الطعام والشراب في زمانه، ووصف الموائد التي كان يقيمها شاعر هو واحد من صفوة أثرياء عصره. يقول في دعوة صديق جعل منها لوحة شعرية مصوّرة:
ولأن عالم الرفاق والأصدقاء هو عالمه الأثير المحقق للمؤانسة، فهو يخلع عليه من مشاعره وذوب قلبه، ويُفيض في الحديث عنه، وهو ينادي شريك المجلس؛ حتى ليمكن تسميته بشاعر الأصدقاء والخلاّن ونديم السّمار والقيان:
مثل هذه الحياة الناعمة الرخية، وهذه المتع واللذائذ الحسّية، والأنس بالصحاب والرفاق، من شأنه ألا يُحدث من أسباب الشكوى ما يكون عميقًا أو جادًّا. لكنا نجد الشريف العقيلي في واحدة من قصائده الطويلة النَّفَس - نسبيًّا - يجأر بالشكوى إلى الله، ويكرر شكواه في سياق قصيدته، وكأن كل ما هو فيه لا يكفيه، وكأن حياة الدّعة والاسترخاء واللهو قد جعلته هشًّا إلى الدرجة التي يذوب قلبه فيها من دلال امرأة بيضاء ناعمة! يقول:
ويقول الشريف العقيلي في موضوعه الأثير: موضوع الرفاق والأصحاب ومجتمع الأنس والبهجة والصبوات:
ويقول الشريف العقيلي:
شاعر هذا فضاؤه الشعري، وهذا عالمه الذي يعيشه، تصبحُ شكواه إلى الله - في غمرة هذا كله - مدعاةً للسخرية، وإثارة أحقاد الآخرين وضغائنهم عليه، وهو ما حدث بالفعل، فجعله يهجو الناس والزمان، ويشكو تباعد الخلاّن.
|