السلام الاجتماعي والتربية على القيم الروحية محمد سليم العوا

أظهر العدوان العراقي على الكويت (1990) كم يحتاج المجتمع العربي إلى اقتناع المواطنين، لا سيما الأجيال الصغيرة منهم بمعقولية إطار حياته الاجتماعية والسياسية، وملاءمته لتحقيق طموحاتهم الفردية والجماعية، حتى يضمن حفظ كيانه العام ويضمن استمراره بحمل هؤلاء الصغار قيم هذا المجتمع وتقاليده وعاداته جيلا بعد جيل.

القيم الاجتماعية التي يحرص المجتمع العربي المسلم عليها هي أساسا قيم مستمدة من الدين. والدين هنا وإن كنا نعني به بوجه خاص: الإسلام، فإنه مما ييسر البحث ويتيح تعميم نتائجه أن "القيم" متقاربة إن لم نقل إنها متحدة في الدينين الكبيرين في الشرق العربي: الإسلام والمسيحية. حتى أن كل ما يمكن قوله استقاء من نصوص الإسلام القرآنية والنبوية يجد، من حيث هو قيمة اجتماعية وتربوية، أصلا يمكن إسناده إليه في نصوص مسيحية.

ومن ثم فالحديث عن القيم الروحية هو حديث عن القيم الدينية، وليست أهميته نابعة فحسب من كون هذه القيم عنصرًا مهما من عناصر الاستقرار الوطني والسلام الاجتماعي، والطمأنينة السياسية، ولكن أهميته تعود كذلك- وربما بقدر أكبر- إلى كون هذه القيم هي أساس السلام العقلي والذهني والنفسي للفرد، وهو السلام الذي يتيح للإنسان أن يتكيف مع مختلف الظروف، وأن يواجه الأنواع المتباينة من مشقات الحياة، وأن يعيش العسر بالقدر نفسه من الرضا والشعور بالراحة الذي يتوافر له في حياة اليسر، والعسر واليسر هنا ليسا ماديين فحسب، بل هما في المقام الأول نفسيان. والذين عاشوا تحت ظل الاحتلال العراقي للكويت يدركون ذلك إدراكا مضاعفا، ويعلمون صحته يقينا، و: (ما رآ كمن سمعا)!!.

البداية.. التنشئة الاجتماعية

ولا يتأتى للفرد اكتساب القدرة على التحلي بالقيم الاجتماعية- الدينية التي نشير إليها إلا من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، وهي العملية التي تتم أساسا مع الأطفال وتتوجه في المقام الأول إليهم.

والطفل يولد وليس لديه أية عادات اجتماعية ولا ارتباط بمجتمع معين لذلك تأتي عملية التنشئة الاجتماعية- المخططة والمنظمة- لتضع له المعايير التي يعرف بها- في ضوء مسلمات مجتمعه أو قواعده السائدة - ما يعتبر عدلا وحقا وواجبا وممنوعا وسلوكا مباحا أو سلوكا محظورا وقوة محمودة في الخلق أو ضعفا مذموما فيه .

وما يتعلمه الطفل في هذه المرحلة المبكرة من حياته: مرحلة التنشئة، يعد أساس الارتباط العاطفي بينه وبين مجتمعه ويعد في الوقت نفسه مصدراً أساسيا من مصادر استقرار النظام السياسي والاجتماعي لما يترتب على التنشئة المخطط لها من ثبات القيم التي تتضمنها، وتشجع عليها أو توجه إليها، في الفرد نفسه. وصعوبة اقتلاعها أو تغييرها بعد ذلك.

ومعظم ما يتم إكسابه للطفل في مرحلة التنشئة يتم- في المجتمع العربي المعاصر- بطريقة عرضية، ومن خلال مواقف هي أقرب إلى العفوية والمصادفة منها إلى منهج تربوي معد سلفا، ومخطط له، لتحقيق أهداف محددة.

ولا مناص لمجتمع يحاول إعادة بناء نفسه، وتغيير ما يسود أفراده- مع الأسف الشديد- من سلوكيات مدمرة من أن يعيد النظر في هذا الأسلوب العفوي لتربية ناشئته، وأن يحاول التخطيط لمستقبله: بالعناية المركزة بما يتلقاه الأطفال والفتيان والفتيات فيه من قيم ومثل، وما يحبب إليهم أو يبغضون فيه، من الأعمال والأقوال والعواطف والمشاعر والمباحات والممنوعات.

هدف العملية التربوية

إن الهدف الأساسي من العمليات التربوية كلها، بل لعل غاية سعي البشر جميعا في الأرض كلها، هي أن يسعد المرء، ويعمل على إسعاد غيره! ولن يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة إلا إذا سلم من آفات الجسم والنفس والعقل جميعا قدر المستطاع.

" وبراءة الجسم من الآفات تحتاج إلى غذاء ورياضة ونظافة وإقامة صحية وسرور بقدر الإمكان وتحتاج إلى علاج عوارض الأمراض أولا بأول".

"وبراءة العقل من الآفات تأتي بالتعليم المستمر وباقتلاع الأوهام الخاطئة في شئون الدين والدنيا معا".

"وبراءة النفس تكون ببناء الثقة بها، والاطمئنان إلى النجاح، وعدم اليأس من عوارض الإخفاق والتخلص من الكبت، والخجل المبالغ فيه، والقدرة على التحكم في الرغبات والمطالب المادية والمعنوية".

(حسن العشماوي، هكذا نربي أولادنا).

وأهم الوسائل لتحقيق هذا الهدف هي أن تقوم التربية أو التنشئة متخذة من القيم الدينية- أي الروحية- الصحيحة سبيلها إلى تحقيق الصحة النفسية والعقلية للفرد، وتحقيق السلام والاطمئنان للمجتمع. وأصول هذه القيم هي التي تحاول هذه السطور التالية أن تمثل لها، آخذة في اعتبارها أن المشتغلين بتخطيط الطفولة، والمهتمين بصناعة المستقبل سيجدون عشرات غيرها حين يولون هذا الموضوع عنايتهم ويولون شطره وجوههم.

من جميل كلام فقهاء الإسلام، في شأن واجب الكبار نحو الصغار، ما قاله الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه: " تحفة المودود بأحكام المولود " قال " فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم: قال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق)، فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة. وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم إياهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولا نفعوا آباءهم كبارًا".

وأصول القيم التربوية التي تطالع الناظر في نصوص الإسلام سبعة نحاول إجمال القول في كل منها:

التربية على الإيمان

والإيمان المعني هنا ليس هو مجرد العلم بوجود إله، ولا التصديق بذلك، وإنما مقصودنا هو الإيمان المؤثر في السلوك بما يفعله في النفس المؤمنة من مراقبة لله عز وجل، وإيثار لرضاه وتجنب لسخطه، وسعي في نفع خلقه، ونزول على حكمه، وطاعة لأمره ونهيه.

وطريقة الوصول إلى هذا الإيمان ليست التلقين الغيبي، ولا الحفظ لأدلة نقلية أو إدراك لمعاني الأدلة العقلية علي الألوهية والربوبية. إنما طريقة الوصول إليه تبدأ بتدريب الطفل على التأمل في خلق الله عز وجل بالتدرج من المحسوس إلى المعقول، ومن الجزئي إلى الكلي، ومما يدرك كله إلى ما يدرك بعضه أو يعرف أثره دون أن يدرك بالعقل كله أو بعضه.

تلك هي طريقة القرآن الكريم نفسه، ففي سورة النحل يقول ربنا تبارك وتعالى: هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون . وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارًا وسبلا لعلكم تهتدون . وعلامات وبالنجم هم يهتدون . أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون .

وثمرة هذا الإيمان لا يتسع لتفصيلها مقام، لأنها تورق حتى تظلل حياة الإنسان كلها، ولكن إجمالها يمكن أن يكون في قولنا: ثمرة الإيمان مراقبة الله في الصغائر والكبائر.

والذي يراقب الله يعبده حق العبادة: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة (البينة: 5).

وفي حديث عبد الله بن عباس أنه كان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابة يركبها، فقال له: يا غلام: ألا أعلمك كلمات؟ قال بلى يا رسول الله، قال: احفظ الله يحفظك؟ احفظ الله تجده تجاهك (وفي رواية: أمامك) وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.

فكيف يكون سلوك من هذه ثمرة إيمانه؟ وهل يكون مجتمع أسعد وأطهر وأسلم من مجتمع مثل هذا المؤمن بتلك الحقائق الخالدة هم أفراده؟

وأما الذين يربون على الإلحاد، وينشأون على إنكار الرب أو الجهل به والاستهزاء بالإيمان وأهله، فقد أبلغ القرآن في وصفهم : والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (محمد: 12).

وقد رأينا من سوء صنيع بعضهم في شهور الاحتلال العراقي للكويت ما لن يمحوه الزمن من ذاكرة الدنيا مهما طال بها.

التربية على التقوى

إذا كانت مراقبة الله عز وجل هي الثمرة الإجمالية للتربية الإيمانية، فإن التقوى هي الأثر المحسوس للإيمان. ومن عجيب فهم العلماء لها أنهم عرفوها بأنها: "ألا يراك الله حيث نهاك، وألا يفقدك حيث أمرك ". ولذلك لا يكاد الناظر في القرآن الكريم يمر على صفحة من صفحات المصحف إلا وجد التقوى منسابة فيها: فهي علة الأفعال وعلة الأقوال وعلة الامتثال، وهي مجلبة محبته ورضاه، فأنى لمؤمن أن يغفل عنها أو يهمل استعمالها في سلوكه كله.

فالتقوى حساسية في الضمير وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة، وحذر دائم وتوَقٍ لأشواك الطريق، طريق النجاة الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك رجاء، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا ..

وفى تاريخ أخيار أمتنا ورموز القيم الإيمانية فيها آلاف الحقائق الدالة على فهمهم الصادق لهذه المعاني، وفي ثلاث قصص موجزة أكثر من الكفاية في مثل هذا المقام:

فقد حدَّث التابعي الجليل عبد الله بن دينار أنه كان مع عمر بن الخطاب في بعض الأرض فمر بهم راع يرعى غنما، فقال له عمر بعنا شاة نتقوت بها. فقال الراعي: إني مملوك، يعني أن الغنم ليست له وإنما هي لسيده. فقال عمر للراعي، مختبرا له: قل لسيدك أكلها الذئب. فقال الراعي: فأين الله؟.

قال عبدالله بن دينار فاستخبره عمر عن سيده، واشتراه وأعتقه، وقال له أعتقتك كلمتك في الدنيا وأرجو أن تعتقك في الآخرة.

وزوج عمر ابنه عاصم من فتاة سمعها تجادل أمها التي تحضها على خلط اللبن بالماء بعد نهي أمير المؤمنين عنه: الأم تقول:

أين أمير المؤمنين ليرانا الآن؟ (وكان عمر يتعسس- أي يتجول بالليل- ليراقب أحوال رعيته، فسمع الحديث).

والفتاة تقول: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا. فكان من ثمرات هذا الزواج عمر ابن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين: جدته هي تلك الفتاة الصالحة. ولا شك أن عرقا منها ومن عمر ابن الخطاب- معا- قد نزع عمر بن عبد العزيز فكان الخليفة الذي كان.

وكان يونس بن عبيد تاجرا، وعالما زاهدا، ذهب إلى الصلاة وترك قريبا له في دكانه، فجاء أعرابي فباعه هذا القريب حلة بأربعمائة دينار. فلما عاد يونس من صلاته وأخبره قريبه كيف باعها، غضب وقال له إنها لا تساوي إلا مائتين، وأسرع يبحث عن المشتري في السوق حتى لحق به ورد إليه مائتي دينار- وهي ما هي يومئذ- فكان المشتري يقول له: قد رضيت، وهي عندنا في البادية تساوي ستمائة. وكان يونس يقول له: ولكن النصح في الدين خير من الدنيا وما فيها!!.

كم نحن بحاجة إلى هذه الوقائع وأمثالها لنربي صغارنا عليها، بل لنعيد بها تربية الكبار أيضًا.

الأخوة

فالناس جميعا إخوة في الإنسانية: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (الحجرات: 13)

وهو معنى لا يجوز أن يغيب عن بال الفرد أبدا، وهو معنى يعصم من الظلم والحيف والجور، ويحمل على البر والود والصدق. وأثر كل من أولئك لا ينكر فعله في الأفراد وفعله في الأمم والجماعات على سواء.

والمؤمنون إخوة إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم (الحجرات: 10). وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- الذي رواه مسلم- المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، ولا يحقره بحسب امريء من الشر (وفي رواية من الإثم) أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه. التقوى ههنا (ويشير إلى صدره) ثلاث مرات.

وما يرد على تحريم دم المسلم وماله وعرضه يرد كذلك بالقدر نفسه على تحريم ذلك كله من غير المسلم فإن الإنسانية هي مناط العصمة والتحريم وليس الدين، بل إن تحريم دم غير المسلم وعرضه وماله آكد في شريعة الإسلام لأن غير المسلمين لهم ذمة الله ورسوله، أي عهدهما وحمايتهما.

فكيف نربي أبناءنا- مع هذه التأكيدات القرآنية والنبوية- متناسين معنى الأخوة الإنسانية ومعنى الأخوة الإسلامية؟ وكيف نستمر على ذلك بعد ما رأينا آثاره المدمرة في الأفراد والجماعات على سواء؟؟

أليس ذلك التناسي هو الذي أدى بنا إلى سيادة شح النفوس الذي به يقتل الأب ولده، والزوجة زوجها والابن والديه؟، أو ليس ذلك التناسي هو الذي أدى بنا إلى تفشي الظلم في علاقاتنا الداخلية والخارجية حتى سفكت الدماء واستحلت الأموال والأوطان والأعراض؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عنه: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم.

الرحمة

الرحمة رقة في القلب، وإرهاف في الشعور، وهي تستهدف الرأفة بالآخرين، والتألم لهم، وكفكفة دموعهم وتخفيف أحزانهم.

والرحمة خلق إسلامي- بل ديني- أصيل فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تنزع الرحمة إلا من شقي (رواه الترمذي وأبو داود).

ويقول: الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. (رواه أحمد والترمذي وأبوداود). ويقول مخاطبا أصحابه: لن تؤمنوا حتى ترحموا (وفي رواية تراحموا). قالوا: كلنا رحيم يا رسول الله. قال إنها ليست برحمة أحدكم صاحبه. ولكنها رحمة العامة (رواه الطبراني).

والرحمة إن كانت في هذه الأحاديث النبوية، وفيما يظاهر معناها ومبناها من الآيات القرآنية الكريمة، رحمة إنسانية، فإنها في أحاديث وآيات آخر تتسع لتشمل رحمة الحيوان الأعجم، فتجزى عليها بأعظم الجزاء، وتعاقب على تركها وإهمالها بأشد العقاب.

وقصتان من السنة الصحيحة تصوران ذلك أحسن تصوير وأتمه:

فالقصة الأولى: أن بغيا من بني إسرائيل كانت مسافرة، فوجدت في فلاة (صحراء) كلبا يكاد يموت عطشا، فنزلت إلى بئر ماء وملأت نعلها ببعض الماء وسقت الكلب "فاطلع الله عليها فغفر لها".

والقصة الثانية: يحكيها قول رسول صلى الله عليه وسلم: دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.

وقد تعلم الصحابة من ذلك أجمل تعليم، حتى رأى عمر رجلا يجر شاة إلى الذبح بقسوة، فقال له: "قدها إلى الموت قودًا جميلاً" !!.

وكان من آثار هذه الرحمة العامة في الأمة الإسلامية ما نراه في أنواع الأوقاف: فكان في أوقافنا: وقف الكلاب الضالة، لإطعامها ورعايتها.

ووقف الأعراس، لتستعير العروس الفقيرة من حليه وملابسه ما تصلح به شأن نفسها ليلة عرسها ثم ترده إلى خزانة الوقف لينتفع به سواها.

ووقف مؤنس المرضى والغرباء، ينفق منه على منشدين ذوى صوت رخيم ينشدون في المستشفيات في الليالي المتميزة بطولها- حيث يضيق بعض المرضى حتى بأنفسهم- شعرا ونثرا وقصصا مسلية مؤنسة حتى لا توحش المرضى وحدتهم وآلامهم.

وأخيرا كان عندنا وقف الزبادي الذي كان ينفق منه على توفير آنية يقدمها العاملون لمخدوميهم بدلا من الآنية التي تكسر في أثناء الاستعمال. فهل تجد في مجتمع هذه هي آثار الرحمة بين أبنائه حقدا أو حسدا أو غلا أو طمعا فيما عند الغير؟ أو ليس ذلك كله هو سبيل الاطمئنان الفردي، والسلام الاجتماعي، والاستقرار السياسي والاقتصادي؟

الإيثار

والإيثار هو تفضيل الغير على النفس، وهو خلق نبيل يقصد به وجه الله تعالى ويدل على صدق الإيمان، وصفاء السريرة، وطهارة النفس. وهو سبيل أكيد إلى تحقيق التكافل الاجتماعي، والتعاون بين الذين يجدون أضعاف ما ينفقون ويحتاجون، والذين لا يجدون ما يأكلون أو يلبسون!.

وفي القرآن الكريم وصف الأنصار والمهاجرين:

ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (سورة الحشر: 9).

وصور الإيثار لا تقتصر على الإيثار في الماديات وإنما تتسع لتشمل الإيثار في المعنويات كذلك.

وقصص الإيثار القرآنية والنبوية لا يحدها حصر، ولكن واحدة منها ينبغي أن نذكرها، ونذكر بها، وتلك هي قصة شهداء اليرموك.

وقد كان من خبرهم أن رجلا من المسلمين وجد ابن عمه في الجرحى، فقال: ما أحوجه وهو في الرمق الأخير إلى شربة ماء، فجاء ليسقيه، فأشار الجريح المحتضر إلى زميل له جريح، وأشار الثاني إلى ثالث... حتى بلغوا سبعة نفر كل منهم آثر أخاه بالماء - أحوج ما يكون هو إليه- فلما رجع الساقي إلى أولهم وجده قد لقي ربه، واستشهدوا جميعا عطاشا، إيثارا من كل منهم لأخيه !!.

إننا لا نطمع اليوم في مثل ذلك- قطعا- ولا ندعو إلى أن يحرم الناس أنفسهم حتى يبلغوا الموت جوعا أو عطشا لإعطاء الآخرين، ولكن هذا المثل- وإن خالف صنيع أصحابه طبيعة البشر- يظل صالحا للتوجيه والتذكير وغرس معنى الإيثار، بما هو من أعظم الفضائل في نفوس الناشئة من البنين والبنات، حتى لا يجرفهم تيار الأثرة السائد، وخلق الأنانية المستشري بما يصنعان في العلاقات الاجتماعية والأسرية والدولية من دمار وتخريب.

العفو

والعفو ترك الحق مع القدرة على اقتضائه مباشرة أو بواسطة السلطة المختصة.

أما مع العجز عن اقتضاء الحق فلا عفو وإنما هو التسليم بالقدر، واحتساب الحق عند الله تعالى.

والقرآن الكريم يأمر بالعفو أمراً عاما:
وأن تعفوا أقرب للتقوى (البقرة: 237).

ويمدح العافين مع القدرة:
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (آل عمران: 134).

ويرغب في كسب الأعداء بتحويلهم إلى صفوف الأصدقاء:
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. (سورة فصلت: 34).

وفي التاريخ الإسلامي مئات، بل آلاف، من القصص التي تحبب العفو إلى القلب وتدل على حسن أثره في الناس. ولكننا نكتفي بقصة واحدة منها تقريبا للصورة:

"حديث عبدالله بن طاهر- وزير الخليفة العباسي المأمون- قال: كنت عند المأمون يوما فنادى: يا غلام، فلم يجبه أحد. فكرر النداء فلم يجبه أحد. فنادى الثالثة، فدخل غلام تركي ثائر فقال له: أما ينبغي للغلام أن يأكل ويشرب؟ كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام... إلى كم يا غلام؟

قال عبدالله بن طاهر: فما شككت أن المأمون قاتله. لكنه سكت مليا ثم قال لي: إن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه. وإنا لا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لتحسن أخلاق خدمنا ".

فهل يسأل المربون المأمونون على أبنائنا وبناتنا كيف تفعل التربية مع هذه الفضيلة الدينية في حياتنا الخاصة والعامة؟ وهل يدركون كم من الخير حرمته هذه الأمة بتربية الأبناء والبنات على أخلاق الطغاة والفراعين بدلا من تربيتهم وتربيتهن على أخلاق الصديقين والصالحين؟؟

الجرأة في الحق

والجرأة قوة نفسية ضرورية يستمدها الإنسان من إيمانه بالله الواحد القهار، ومن الحق الذي يعتنقه، ومن القدر الذي يسلم به ويستسلم له، ومن المسئولية التي يستشعرها. وعلى قدر نصيبه من ذلك كله تكون جرأته في الحق، وقدرته على الجهر بالرأي الحر.

وقد كان الصحاب الذين تربوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم أجرأ الناس في الحق، بل كان ذلك جزءا من البيعة النبوية، فقد روى مسلم في صحيحه أن عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم... وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ". وفي الحديث: سيد الشهداء حمزة. ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله فدخل الجنة . (رواه الحاكم في مستدركه بسند صحيح).

وقد كان أبوبكر أجرأ الناس في الحق حتى قال عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح إيمان أبي بكر".

ويكفي في تأكيد ذلك أن نتذكر مواقفه في يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بيعته بالخلافة، وفي إنفاذ جيش أسامة لحرب الروم، وفي جمع القرآن الكريم، وفي حروب المرتدين، وهي مواقف ينطق كل منها بشجاعة هائلة وقدرة على قول الحق والقيام بمتطلباته غير متكررة.

وهذا الخلق، الجرأة في الحق، هو الذي يصنع رجالا ونساء أحرارا، ويقود إلى تكوين مجتمع حر يحصل كل فرد فيه على حقه، بعد أن يؤدي الذي عليه، ويتعاون الجميع فيه على احترام القانون والخضوع له، فتختفي عوامل التنافس الاجتماعي البغيض ويحل محلها معاني الأخوة والرحمة والإيثار والتكافل والتعاون على البر.

إن الزمن الذي يستغرقه التخطيط والتنفيذ لتنشئة أجيالنا الجديدة على القيم الروحية الصالحة- والصانعة - لن يكون زمنا ضائعا، بل هو زمن مكتسب. والعمل فيه قريب الثمرة مهما بدا في أول الطريق بعيدا أو محالا.

والحديث عن المبادئ يؤدي بالضرورة إلى مواجهتنا لحالنا الحاضرة التي تجأر فيها قيمنا ومبادئنا بالشكوى من إهمالها وتضييعها، والتي تتمادى فيها الدعوى بأن هذه المبادئ تنتمي إلى زمن مضى لا يتصور رجوعه، وإلى أقوام قضوا ولن يبعثوا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وفي هذه المواجهة ينبغي أن يعمل المؤمنون الصادقون ليبقى أساس ما يؤمنون به قائما، ولا بد- مع الاستمساك بالحق والدفاع عنه- أن تتسع الدائرة يوما بعد يوم إلى أن يسود سلطان المبادئ فيبدو بها الفرق بين دنيانا ودنيا غيرنا، وحضارتنا- التي شمسها إلى شروق يقينا- وبين الحضارات الغالبة اليوم، الغاربة غدا لا محالة.

ونحن نؤمن بأن تحقيق آمالنا في الوسائل والأهداف معا ليس أمراً سهلا. ولكن الحزم في الأخذ به، وتعهد النفس- ونفوس الكبار أولا- بتعويدها عليه وإقناعها بجدواه، تمهيدا للنجاح في نقله إلى الصغار الذين نتعامل معهم، هذا وحده هو الكفيل بأن يغير ما بنا من سوء إلى حسن، ومن تخلف إلى تقدم، ومن شر إلى خير، ومن ضعف إلى قوة. لأن قانون التغيير الأزلي إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

والله غالب على أمره. وهومحدث إن شاء بعد ذلك أمرا.