إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

النمر الذي نخشاه

كنا في الكونغو، كانت لاتزال تحمل اسم «زائير»، وكان رئيسها «موبوتو» يعتقد نفسه أبديا، وكنت أريد الذهاب إلى إحدى الغابات المفتوحة، أو السفاري، وغابات الكونغو هي الأكثر برية وتوحشا، والأكثر غنى بأجناس الحيوانات التي لا نظير لها في مكان آخر، ولكن الدخول إلى السفاري لم يكن سهلا، فالجيش أقام قاعدة على حدودها، ولابد من تصريح عسكري للمرور بين خيامه وبين جبال النمل المتناثرة في كل مكان، المهم حصلنا على هذا التصريح بعد أن قدمنا رشوة لقائد الحامية، ولا أعرف الآن إن كان هذا القائد مازال مواليا للجيش أم انضم للمتمردين، المهم أننا دخلنا إلى الغابة بعد جهد جهيد في عربة مغلقة.

كانت رحلة خطرة، ولكنها تستحق خطورتها بما تخلقه في النفس من إثارة، من اللحظة الأولى بدأت الخنازير البرية في مهاجمتنا، وهي حيوانات مرعبة ظلت تعدو خلفنا وهي تنطح السيارة برأسها الضخم، كأنها تعلن عدم رضاها عن وجودنا على أرضها، ولم يكن أمامنا إلا أن نمضي بأقصى سرعة لننجو منها.

تنفسنا الصعداء حين وصلنا حافة فردوس بري،سهل هادئ يحيط ببحيرة متألقة،، قطعان من الغزلان والحمر الوحشية تشرب في سكون، وخلفها تتهادى الزرافات مزهوة بأعناقها الطويلة، وتقف الأفيال وهي تطيل التفكير في كل حيواتها السابقة، على حد رأي أندريه مالرو، وتحوم الطيور فوق الجميع مكونة سحابة من الزغب، استأثر بانتباهنا حيوان ضخم من الجاموس الوحشي، جاموسة كانت واقفة ترعى بهدوء على بعد خطوات من سيارتنا، والعشب الذي تلوكه في فمها يبدو نضرا ومسكرا،ولكن زميلي مصور «العربي» كان متضايقا لأنه مرغم على التصوير من خلف زجاج السيارة المترب، لا يملك حرية اتخاذ الزوايا المناسبة، طلبنا من الدليل أن ننزل من السيارة للحظات قليلة لنأخذ راحتنا في الفرجة والتصوير، ولكنه رفض متعللا بأن هذه الغابة أخطر مما تبدو، لم نكن نرى اى خطورة في هذا الفردوس الذي يعمه السلام، طلبنا منه أن نفتح النوافذ على الأقل، ولكنه رفض أيضا بإصرار أحمق، بدأنا نعرض عليه بعضا من النقود، وفجأة من لا مكان، مثل برق خاطف، روح برية غير مروضة، قدر محتوم، ظهر نمر مخطط، جلده لامع، وقوته فوارة، انقض على الجاموسة الغافلة، وأنشب فيها أظفاره وأنيابه، أرتج المكان كله من الذعر، حاولت الجاموسة أن تتخلص منه، أن تجري، ولكنه ظل رابضا فوق ظهرها ممزقا جلدها، كنا نرتجف ونحن داخل السيارة المحصنة من عنف المشهد، أما الحيوانات الأخرى فقد ارتدت قليلا، ولكنها لم تذهب بعيدا، ظلت واقفة تراقب عملية الافتراس، كانت قد قدمت أضحيتها، قربانها لإله الغابة الجائع، وآمنت على نفسها ولو إلى حين، راقبنا جميعا جسد الجاموسة الضخم، وهو يخور ثم ينتفض ثم يستسلم تحت قوة النمر المطلقة. لم أذق النوم في ليلتها، وظل هذا المشهد الصاعق يلازم ذاكرتي، حاولت أن اقنع نفسي أن هذه هي الغابة، وأن هذا هو قانونها منذ الأزل، ولكن المنظر عاد يتكرر أمامي، وبكثرة هذه الأيام، أراه في كل مرة تنقض فيها الطائرات الإسرائيلية على الجسد الفلسطيني الأعزل في غزة، وبعض الكائنات «العربية» تراقب المشهد عن قرب، وهي مطمئنة لأن أجسادها آمنة، وأن النمر لن ينظر إليها بعد أن أشبع نهمه من اللحم الفلسطيني، اكتشفت أن الغابة لم تعد بعيدة في أحراش الكونغو، ولكن ستين عاما من التوحش والاستسلام جعلها رابضة في وسطنا، وأن الكثيرين منا خائفون من هذا النمر الجائع.

 

 

 

محمد المنسي قنديل