الفرنكوفونية كأداة لتفجير الهويات الثقافية

الفرنكوفونية كأداة لتفجير الهويات الثقافية

تطرح الفرنكوفونية في الوقت الحالي مجموعة من الأسئلة على مواطني بلدان المغرب العربي. بعض هذه الأسئلة يتعلق بالسياسة, وبعضها الآخر بالمجتمع, إلا أن معظمها يتعلق بالثقافة في الأساس.

لقد ظهرت كلمة (فرنكوفونية) لأول مرة عام 1880, في كتاب ألفة الجغرافي الفرنسي أونسيم ريكلو Onesime reclus (1837-1916) قصد الإشارة إلى (الفضاءات الجغرافية التي يجري الحديث فيها باللغة الفرنسية) - وربما لم يكن من قبيل الصدفة أن الكتاب حمل اسم (فرنسا والجزائر ومستعمراتها). في إشارة دالة إلى حضور أحد بلدان المغرب العربي ضمن أفق تفكير (الفرنكوفونية) في بدايات الوعي بها كمقابل للفضاءات الناطقة بلغات أخرى, على رأسها الإنجليزية والإسبانية.

وحين بادرت شخصيات سياسية في مطلع ستينيات القرن الماضي إلى تقديم اقتراح يقضي بتجميع البلدان حديثة العهد بالاستقلال والراغبة في الحفاظ على علاقات لغوية وثقافية مع البلد المستعمر السابق, فرنسا, لم يكن من قبيل الصدفة كذلك أن وجد على رأس هذه الشخصيات الرئيس التونسي الأسبق, الحبيب بورقيبة (إلى جانب كل من: حماني ديوري/ النيجر, ليوبولد سيدار سنغور/ السنغال, نوردوم سيهانوك/ كمبوديا).

والواقع أن بلدان المغرب العربي لم تكن غائبة أبداً عن المشروع الفرنكوفوني, منذ خطواته الأولى المتمثلة في عقد (مؤتمر وزارات التربية الوطنية للبلدان التي تشترك في استعمال اللغة الفرنسية) عام 1960, ثم تأسيس (جمعية الجامعات الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية) (AUPELF) عام 1961, مروراً بمراحله الرئيسية المتمثلة في عقد أول مؤتمر للدول الفرنكوفونية بنيامي عام 1969 تحت إشراف الكاتب ووزير الثقافة الفرنسي آنذاك أندري مالرو, ثم إنشاء (وكالة التعاون الثقافي والتقني)) (ACCT) بحضور 21 بلداً عام 1970, فعقد أول قمة إفريقية - فرنسية بباريس سنة 1973, وانتهاء بوضع اللبنة المؤسسة لمؤتمرات القمة الفرنكوفونية انطلاقاً من أول قمة للفرنكوفونية انعقدت بفرساي/باريس في شهر فبراير 1986.

إن وثائق العمل المقدمة في آخر قمة فرنكوفونية (مونكتون/ كندا - سبتمبر 1999) لا تخفي هذه الحقيقة, بل نجدها تؤكد أهمية القارة الإفريقية بصفة عامة, وبلدان المغرب العربي بوجه خاص, ضمن المشروع الفرنكوفوني. حيث تسجل إحدى الوثائق أن عدد المتمدرسين باللغة الفرنسية ارتفع في البلدان الناطقة بهذه اللغة في القارة السمراء من 8% عام 1960, إلى 33% عام 1981. مع توقع ارتفاع عدد المتمدرسين خلال عام 2000 بنسبة 267 بالمائة, مقارنة مع عام 1981, علماً بأن النمو الديموغرافي لتلك البلدان لم يتجاوز خلال الفترة نفسها 73%. وتضيف هذه الوثيقة بخصوص المغرب العربي أنه رغم وجود سياسة للتعريب قطعت أشواطاً مهمة فإن نسبة الأطفال الذين يتلقون دروسهم باللغة الفرنسية في هذه البلدان تجاوزت 40 بالمائة.

توحيد الثقافة

هذه المكانة الخاصة للغة الفرنسية في بلدان المغرب العربي تطرح كثيراً من التساؤلات, خاصة إذا علمنا أن عدد المتحدثين بالفرنسية اليوم عبر العالم يتراوح بين 250 و300 مليون نسمة (وهو عدد ضعيف بالمقارنة مع عدد المتحدثين بالإنجليزية أو الإسبانية أو العربية, مثلاً), وأن عدد الناطقين بالفرنسية كلغة أم لا يتجاوز 75 مليون نسمة يتوزعون على خمسة بلدان (فرنسا, بنسبة 82%. بلجيكا, بنسبة 41%. كندا, بنسبة 23,3%. سويسرا, بنسبة 18,4%,. موناكو, بنسبة 58%), ثم إذا علمنا خاصة أن الأمر يتعلق, في حالة المغرب العربي, ببلدان لغتها الأم هي العربية وليس وضعها مماثلاً, على كل حال, لوضع بلدان إفريقية تعاني من تعدد اللهجات فاختارت الفرنسية كلغة لتوحيد الثقافة والتمدرس والتعليم (مثل: بنين, بوركينا فاسو, ساحل العاج, الغابون, السنغال, النيجر, مالي, التوغو, غينيا, الكونغو, جمهورية إفريقيا الوسطى).

إن وثائق الفرنكوفونية تلقي بعضاً من الضوء على هذه الظاهرة حين تشير إلى أن الفرنسية تحتل مكانة مهمة في عدد من البلدان (التي سبق أن خضعت للاستعمار الفرنسي) بسبب كونها هي اللغة المعتمدة في تحرير القوانين وفي التواصل داخل المصالح الحكومية والإدارية وخارجها, وفي البرلمان, وميادين التعليم والقضاء والشرطة والجيش والتجارة والإشهار ووسائط الاتصال وعالم الشغل, أي باختصار ليس لأنها لغة عموم الناس ولكن لأنها لغة النخبة والحكم ولغة الصعود الاجتماعي. الشيء الذي يعني, إذا نحن نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى, أن استعمال اللغة الفرنسية في بلدان المغرب العربي لا يعني الحداثة والانفتاح على العالم كما لا يعني ارتباط المستعمرات السابقة بفرنسا مزيداً من الارتباط بقدر ما يعني مواصلة نوع من العلاقة التي أنشأها المستعمر بين الحاكم والمحكوم, والمتميزة بانعدام التكافؤ الذي تصبح اللغة مجرد عنوان له. وفي هذا الصدد لم يفت بعض علماء الاجتماع ملاحظة أن تعلم اللغة الفرنسية في المغرب مثلاً كان يصعب فصله عن الرغبة في الصعود الاجتماعي, مادامت هذه اللغة مثلت, لسنوات وبصرف النظر عن المستوى التعليمي أداة أساسية للحصول على منصب شغل متميز في الدولة كما في القطاع الخاص.

لقد خلفت فرنسا بعد رحيلها من المغرب العربي مجموعة من القنوات الثقافية التي مهدت الطريق لبقاء بلدانه مرتبطة باللغة الفرنسية وبالفرنكوفونية لاحقاً. ففي مجال السينما, مثلاً, تعود المشاهد في كل من المغرب والجزائر وتونس بالخصوص على متابعة كل الأفلام الأجنبية (باستثناء العربية والهندية) مدبلجة إلى اللغة الفرنسية. حصل هذا أيام الاستعمار مثلما يحصل الآن دون أن يضعه أحد موضع تساؤل. وبارتباط مع ذلك لا يمكن للشركات المحلية لتوزيع الأفلام اقتناء نسخ أفلامها مباشرة من موزعيها الأصليين (من الولايات المتحدة الأمريكية في حالة الفيلم الأمريكي مثلاً), بل تجد نفسها مضطرة لشراء نسخ مدبلجة إلى الفرنسية من وسيط فرنسي, وهي, بوجه العموم, نسخ مستهلكة بفعل عرضها في قاعات عديدة ولعدة مرات بفرنسا.

المرور عبر المتوسط

هذه القناة الثقافية ستتعزز أكثر من ظهور التلفزيون ثم مع انتشار الحواسيب الشخصية.. ففي هذه الحالة كما في تلك, لابد من المرور عبر الوسيط الفرنسي لاقتناء كل الإنتاجات التلفزيونية الأجنبية المدبلجة إلى اللغة الفرنسية, ولا بد من المرور عبره مرة أخرى لاقتناء مختلف برمجيات الحاسوب الشخصي. حيث يستحيل على مواطني بلدان المغرب العربي استيراد الحواسيب وبرمجياتها مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية, إلا إذا كانوا مستعدين لدفع مكوس جمركية مرتفعة والتخلي عن حقهم في ضمانات الخدمة والصيانة بعد البيع. كما أن هناك مجلات عربية عن الحواسيب وبرمجياتها تطبع في أوربا وتوزع في كل أنحاء العالم العربي ماعدا المغرب والجزائر وتونس.

وقد ظل مجال التعليم بدوره من القنوات المفتوحة على الفرنكوفونية بالمغرب, سواء عن طريق (المتعاونين) الفرنسيين الذين كانوا يقضون فترة خدمتهم العسكرية بالبلاد, في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته بوجه الخصوص, كمدرسين للغة الفرنسية بالمدارس الإعدادية والثانوية, أو عن طريق المساهمة المتواصلة لخبراء تربية فرنسيين في وضع مناهج تدريس اللغة الفرنسية بالمدارس المغربية وإعادة النظر فيها.

ومن اللافت للانتباه أن انشغال الحركة الوطنية المغربية, مثلاً, بمواجهة الاستعمار الفرنسي على صعيد التربية والتعليم بإنشاء ما سمي بـ(المدارس الحرة) (أي التي تدرس باللغة العربية ولا تخضع للمناهج المقررة من قبل سلطات الحماية الفرنسية), لم يمتد ليشمل مجال الإعلام والتواصل المسموع المرئي, بل إننا وجدنا أنفسنا أمام واقع غريب, بعد حصول المغرب على استقلاله السياسي عام 1956, هو قيام الأحزاب الرئيسية المشكلة للحركة الوطنية المناهضة للاستعمار الفرنسي بإصدار جرائد يومية أو أسبوعية ناطقة باللغة الفرنسية, تعبر فيها عن مواقفها من الأحداث الداخلية والخارجية, وتتواصل مع جمهور داخلي تتزايد أعداده باستمرار وهو إصدار مازال متواصلاً إلى اليوم, حيث يصدر حزب الاستقلال يومية (لوبينيون) والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يومية (ليبراسيون) وحزب التقدم والاشتراكية يومية (البيان), والتجمع الوطني للأحرار يومية (المغرب), وذلك إضافة إلى الجرائد التي تصدرها هذه الأحزاب باللغة العربية وهي, على التوالي: (العلَم), (الاتحاد الاشتراكي), (بيان اليوم), و(الميثاق الوطني).

إلا أنه ينبغي الاعتراف بأن المبادرة الأقوى في هذا المجال كانت للدولة التي اختارت ابتداء من أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي, ولاعتبارات سياسية محض, الحد من نهج التعريب في مرفقي التربية والإعلام, وإعطاء دفعة قوية للفرنكوفونية عن طريق الترخيص, أولاً, لإذاعة (البحر الأبيض المتوسط الدولية) بالشروع في البث من مدينة طنجة ابتداء من عام 1980 (وهي إذاعة مزدوجة اللغة, مع ميل الكفة لصالح اللغة الفرنسية), ثم الترخيص ثانياً, بإصدار طبعة محلية من ثلاث جرائد فرنسية (على رأسها (الفيجارو) و(فرانس سوار)), والترخيص, ثالثاً, لقناة تلفزيونية خاصة مزدوجة اللغة ببث برامجها من مدينة الدار البيضاء ابتداء من عام 1989. هذا دون الحديث عن الترخيص بإصدار عدد لا يحصى من الإسبوعيات الناطقة باللغة الفرنسية انطلاقاً من منتصف تسعينيات القرن الماضي, ولا عن التوزيع الواسع للمطبوعات اليومية والإسبوعية والشهرية الفرنسية بالمغرب بأسعار متدنية وبأقل من سعر بيعها في بلدها الأصلي أحياناً.

ودون الخوض في الاعتبارات السياسية المشار إليها سابقاً والتي سبق أن أملت هذا الخيار نكتفي بالإشارة إلى أن العودة إلى الفرنكوفونية (بعد حملة خجولة للتعريب صاحبت المد الوطني في السنوات الأولى للاستقلال بالمغرب) جاءت في سياق جديد تميز بتراجع الثقافة واللغة الفرنسيتين على الصعيد العالمي, واكتساح اللغة الإنجليزية للعديد من المواقع والفضاءات الجديدة باعتبارها لغة المعرفة والتواصل في الألفية الثالثة دون منازع.

وإذا كانت بعض البلدان العربية التي سبق أن عرفت الاستعمار الفرنسي في السابق (مثل سوريا ولبنان) قد استطاعت التكيف مع السياق الجديد وسن اختيارات ثقافية ولغوية جديدة انطلاقاً من تحصين للغة الوطنية والهوية القومية, فإن هذا لم يحصل في بلدان المغرب العربي, حيث مازال ارتباط النخبة قوياً بالثقافة الفرنسية, وحيث لم تعمل العودة إلى الفرنسية إلا على الخفض من مستوى التعليم (تعليم الفرنسية والعربية معاً), وتعزيز دور النخبة التي باتت عاجزة عن التفتح على لغات وثقافات أخرى, وخلق هوة ثقافية- اجتماعية بين فئة (المتفرنسين) (التي تعتبر نفسها الوحيدة المدافعة عن قيم الحداثة والتقدم) وفئة (المعربين) (التي تتخذ موقف المدافع المستميت عن قيم الأصالة والتقليد). وهو موقف سهل, في النهاية, مادام يكتفي بإعادة رسم الخطط التقليدية التي تلحق التقليد باللغة والثقافة الأم (العربية) والتحديث باللغات والثقافات الأجنبية, ويعفينا من كلفة أصعب هي كلفة الدخول إلى العصر اعتماداً على اللغة والثقافة العربيتين.

التماهي مع الهوية

إن التطرف في الاندماج ضمن لغة أو ثقافة أجنبية (ولتكن الفرنسية) في بلدان المغرب العربي يدفع بشكل لا مفر منه إلى تطرف مقابل, لا يرى حلاً في غير التماهي مع هوية ثابتة تحيل على الماضي أكثر مما تحيل على الحاضر والمستقبل, والتطرفان معاً يساهمان في فتح الطريق أمام أشكال أخرى من التطرف يتمثل أبرزها في الصراع العنيف من أجل إحياء هويات ميتافيزيقية عتيقة, خارج كل دينامية للتطور الثقافي والاجتماعي, أي خارج المجتمع وخارج التاريخ. هكذا, وبدل أن يبني المجتمع لحمته انطلاقاً من هوية ثقافية واجتماعية داخلية واحدة يجد نفسه في حاجة إلى سلطة خارجية فوقية تحول بينه وبين التشظي والانفجار, وتمنعه بالتالي من أن يسلك السبل المعتادة للتطور في باقي مجتمعات العالم الحديث.خلاصة القول إذن أن الفرنكوفونية, التي تشير في تعريفها إلى مفهوم (إيجابي) يهدف إلى الضم والتجميع هو (مجموع الشعوب أو الحكومات أو الدول أو البلدان أو الجماعات التي تستعمل اللغة الفرنسية في تواصلها وفي حياتها اليومية), تنتهي بنا, في حالة المغرب العربي بالخصوص, إلى مفهوم سلبي, حيث تتحول إلى أداة للتفرقة الثقافية. الاجتماعية على الصعيد الداخلي, تعمل, عن وعي أو عن غير وعي, على تفجير مسألة الهوية والعودة بها سنوات إلى الوراء, وذلك بعد أن سبق لحركة التحرر الوطني أن صهرت شعوب المنطقة في بوتقة واحدة انتفت داخلها التساؤلات المستجدة الحالية عن انتمائها وحقيقة هويتها أو هل هي عربية فقط? أم عربية إسلامية معاً? أم عربية - إسلامية - أمازيغية? أم أمازيغية فقط? أم هي لا هذا ولا ذاك: مجرد شعوب أفريقية أو (متوسطية) أو من دون هـوية على الإطلاق?

 

مصطفى المسناوي