هل يَخاف الغربُ المسلمين؟ محمد الرميحي

حديث الشهر

يوم 17 سبتمبر (أيلول) الماضي نشرت صحيفة "هيرالد تربيون انترناشيونال" تعليقا كتبه الباحث السياسي بريان بيدهام، قال فيه: "إن الحرب مع الشيوعية كانت ثانوية قياسا إلى الحروب مع الإسلام، فالحرب مع الشيوعية استغرقت 70 عاما بينما حروب الغرب مع الإسلام بدأت منذ 1300 عام، وما زالت مستمرة".

وقبل أسبوعين، ومع تدشين مسجد جديد في سلطنة بروناي، دعت إحدى الجماعات الإسلامية الحكومة إلى منع استيراد أنواع من إطارات السيارات، وقالت الجماعة في بيانها إلى الحكومة "إن الغرب يستخدم وسائل خبيثة في"التبشير" من بينها صنع أنواع من إطارات السيارات تترك على الطرق التي تسير فيها علامات أقرب إلى شكل الصليب وبالتالي لا بد من منع استيراد هذه الإطارات المعادية للإسلام".

والحرب، من هذا المنظور، بين الإسلام والغرب تبدو أقرب إلى حروب "دون كيشوت" مع طواحين الهواء، وهي طواحين متوافرة في الناحيتين، وتزدحم ساحاتها بالكثير من الفرسان، ولكنها في الوقت نفسه حرب حقيقية، لا تقتصر المشاركة فيها على الأحياء وحدهم بل إن أمواتا كثيرين يبعثون من قبورهم ليخوضوا غمارها، وعندما يكتب المؤلف الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" أن "الإسلام الأصولي هو أحد فروع الفاشية التي قامت في أوربا وأدت إلى قيام الحرب العالمية الثانية"، وعندما يصرح ديبلوماسي غربي بارز في طاجيكستان لصحيفة " لوس أنجليس تايمز" بأن " المسلمين في هذه الجمهورية يفضلون الإسلام العلماني على الإسلام الأصولي" وعندما تصل الأمور إلى حد أن يطرح أعضاء بالكونغرس الأمريكي على وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عشرات الأسئلة حول "مدى الأخطار التي يمكن أن يشكلها المسلمون الراديكاليون على مصالح الغرب في الوقت الحاضر وفي المستقبل" فإن القضية تصبح جادة، ولا بد من طرحها للنقاش على أوسع نطاق، ومحاولة تشخيصها وتحديد أعراضها، قبل محاولة الخوض في البحث عن وصفة حضارية لعلاجها، بعد أن باتت تقترب من حدود المرض.

سلاح و... مآذن

في منتصف يونيو (حزيران) الماضى خرجت مجلة "التايم" الأمريكية الواسعة الانتشار وعلى غلافها صورة لمئذنة مع يد تحمل رشاشًا، وكان عنوان الغلاف الرئيسي:" هل يجب على الغرب أن يخاف الإسلام؟" وتكشف المجلة في تقرير شارك فيه أكثر من مراسل في أكثر من عاصمة عربية وغربية عن اتساع رقعة البلاد الإسلامية وتوسط بلدانها في العالم، خاصة بعد إضافة جمهوريات إسلامية جديدة في وسط آسيا، خرجت أخيراً، من أسوار الإمبراطورية السوفييتية. ويقارن التقرير بين ظهور القوة الإسلامية واهتزاز قشرة الأرض التي تكونت على أثرها القارات، ويقول إن العالم كله يراقب وينتظر نتائج هذا التغير الكبير، كما فعلت أوربا القرون الوسطى عندما دق المسلمون أبوابها وهم في قمة قوتهم.

سبقت هذا التقرير الذي يبدو أقرب إلى قرع نواقيس الخطر جلسة عقدها الكونغرس الأمريكي يوم 25 فبراير (شباط) الماضي، استمع خلالها إلى تقرير أعده مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي. آي. إيه" روبرت غيتس، أوضح فيه، ردا على أسئلة وجهها عدد من أعضاء المجلس أن "الإسلام الأصولي" لا يشكل خطرًا على الغرب ومصالحه، وقال "إنني حتى الآن لا أسلم بأن "التعصب" الإسلامي

بطبيعته هو معاد للغرب"، وأكد "إن هناك بعض العناصر والجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط خارج الحكم، وهي ليست معادية لنا". واستغرب مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية الدعوة إلى الاستعداد لمواجهة خطر الإسلام الأصولي، بعد نهاية الحرب الباردة مع الشيوعية.

أما صحيفة "نيويورك تايمز" فقد أوضحت بدورها في افتتاحيتها يوم 7 فبراير (شباط) الماضي، وكانت تحمل عنوان "لا شياطين في آسيا الوسطى" إنه، "خلال الشهور القليلة الماضية تحررت علاقات الولايات المتحدة الأمريكية كثيراً مع آسيا الوسطى من تحريض الإمبريالية الروسية والأيديولوجية الشيوعية، ولذلك فإنه لا يوجد أي مبرر للاستعجال في تشويه هذه العلاقة استنادًا إلى فرضية تقول إن هناك تهديدًا إسلاميًا موحدًا يواجه الغرب".

ومع أن هذه "الأعراض" تبدو وكأنها المرة الأولى التي يتصدى فيها الغرب على نطاق المسئولين والإعلاميين والأكاديميين ودور الأبحاث للإجابة عن أسئلة تحدد علاقاته مع ما يسميه "الإسلام الأصولي" إلا أن هذه الأعراض قديمة، وربما تعود إلى مطلع هذا القرن الذي شهد انهيار"الإمبراطورية العثمانية".

صراع حضارات لا أديان

ليس هناك صراع بين الأديان ولكن هناك صراعًا بين الحضارات، ففي عام 1922 حاول مصطفى كمال أتاتورك عبثا إقناع المجلس الوطني الأعلى بالتخلي عما أسماه عبء الخلافة الإسلامية، وبعد سنتين تخلى أتاتورك عن "الشورى" ولجأ إلى القوة العسكرية لفرض إلغاء الخلافة الإسلامية وبناء الجمهورية مع تقييد الحريات الدينية والسياسية. أتاتورك اعتبر أن مواجهة التحدي الغربي تقتضي استخدام السلاح نفسه الذي يستخدمه الغرب، فتخلى عن الخلافة الإسلامية لاستنهاض الدولة القومية، ولكن القومية الطورانية نشأت ليس في عصر بسمارك، بل في عصر الرئيس الأمريكي ولسن، في عصر إطلاق الحريات للشعوب وليس تقييدها، ودفعت القوميات الأخرى تحت الحكم العثماني وقتها بمن فيهم العرب والأرمن الثمن غاليا. مع ذلك فإن الشعب التركي الذي استبدل بالطربوش القبعة حافظ على إسلامه واحتفظ بإيمانه، وما زالت مساجد أسطنبول وأنقرة تموج بالمصلين، وهو ما يدفعنا إلى التوقف أمام حقيقتين: الأولى هي أن هناك خلطا في الغرب بين الإسلام والمسلمين، الإسلام بما هو دين وأسلوب حياة يستجيب لتحديات العصر ويحاول استيعابها، وبين المسلمين في علاقاتهم فيما بينهم من ناحية، وداخل مجتمعاتهم، وعلاقاتهم مع الشعوب الأخرى من ناحية ثانية، وهي علاقات في نهاية المطاف ليست دينية بقدر ما هي سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية. الحقيقة الثانية هي أن خلطا مشابها يقع لدى الطرف الآخر وكأنه ردة فعل على هذا الالتباس الغربي، حيث تخلط بعض الجماعات الإسلامية بين أشكال من التعبير السياسي والاجتماعي تتخذ من الإسلام شعارًا لها وبين الإسلام كدين، فيسعى هذا البعض إلى تكفير المجتمعات والدول الإسلامية التي لا تأخذ بهذه الأشكال من التعبير السياسي والاجتماعي، وهذا الخلط قد يكون بريئًا في جزء منه ولكنه متعمد في معظمه، ففي الغرب ما زال بعضهم عاجزاً عن استيعاب معركة توروز أو سقوط القسطنطينية أو حصار فيينا (1683 م) بجيوش قوات الفتح الإسلامية، وهذا التيار الذي وجد في محمد علي باشا، محاولة لتجديد الإمبراطورية الإسلامية يرفع اليوم الشعارات نفسها، في أوربا الصليبية لدوافع دينية متعصبة وفي الولايات المتحدة لدوافع سياسية واضحة، يقودها اللوبي الصهيوني.

إن الصراع الحضاري هو السمة الملازمة للتاريخ البشري، وهو نتيجة للتمازج والتواصل بين المجتمعات الإنسانية، وفي عصرنا اليوم كما في العصور السابقة فإن هذا الصراع محتوم ولا يمكن إلغاؤه ولا تجنبه، ورغم أن جماعات من الانعزالية الأمريكية حاولت في مطلع هذا القرن عزل الولايات المتحدة عن العالم والابتعاد عن مشاكله وما يجري فيه، إلا أن الحرب العالمية الأولى برهنت على أنه لا مكان لهذه الانعزالية، في عالم تتمازج فيه المصالح وتتشابك فيه الأفكار والتيارات وتحكمه شبكات اتصال ومواصلات لا يمكن لأية أسوار حجبها أو منعها.

إن صراع الحضارات متى اعتمد الحوار هو آلة للتطوير، أما متى اعتمد منطق الاستعمار والقوة والبطش والإرهاب فإنه يتحول إلى آلة للتدمير.

لا تناقض بين القومية والدين

يروي الضابط صبحي العمري في "أوراق الثورة العربية"، وقد صدر أخيرًا في ثلاثة أجزاء، كيف شارك في الثورة العربية الكبرى ضد القوات التركية تحت قيادة الأمير فيصل. ويبدأ مذكراته بالتعريف بنفسه كالتالي:
"إن أسرتنا تحمل لقب "العمري" لأنها تنحدر من نسل الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ولدينا ما يثبت هذه النسبة"، ويضيف في المقدمة " أيها القارئ العزيز إنني أدون لك فيما تقرأه أحداثا لنحو ستين سنة مضت، وأعتقد أن هذه الحقبة من الزمن كانت ولا تزال أعظم وأخطر فترة مرت على أمتنا العربية، باستثناء الحقبة التي رافقت البعثة المحمدية واتصلت بزمن الفتوحات الإسلامية خلال المائة الأولى من سني الهجرة التي انتقل العرب خلالها من الوثنية والفوضى الأخلاقية والفرقة إلى أمة ذات دين وشرائع وأخلاق وأهداف ورسالة سامية... إن الرسالة المحمدية بعد أن وحدت العرب في جزيرتهم، حملوها إلى الشرق والغرب يدعون الأمم الأخرى إلى الله وإلى الحق وإلى الحب دعوة القوي الصادق المؤمن، ولم تمض على هذه الدعوة مائة سنة حتى كانت كلمة الله تعلو في أكثر بقاع الأرض سكانًا وعمرانا... ".

أقتطف هذه الفقرات من مذكرات العمري لأنها تكشف عن اعتزازه بدينه الإسلامي وقوميته العربية، من دون أي شعور بالتناقض بين الاثنين: الدين والقومية، فالاثنان معًا هما نسيج حضارته، ومع أنه ثار على القوات التركية الإسلامية إلا أنه قاتل قوات الغرب الفرنسية في موقعة ميسلون ومواقع أخرى، وهو على الجبهتين متفق مع نفسه اتفاقا تاما ولا يعاني من أي غربة أو تغريب لا في الدين ولا في العقيدة ولا في الانتماء، وعندما يستوقفه البدو في وادي موسى في الأردن، ويبدأ أحدهم بضربه، يقول العمري: " قلت له: أما تخاف الله، ألست مسلما؟ أنا مسلم عربي مثلكم كيف يجوز لكم من الله أن تعملوا بي هكذا؟" قال البدوي " اخس والله إنك مو مسلم، إنك ألماني، جيتون تدبحون العرب مع الترك وتقولون حنا عرب، لعن الله أبوك" "قلت له: شوف كيف أنني "مطهر" وأريته ذلك لأنني كنت تقريبًا مكشوف العورة...".

وهذه البساطة في التعريف بالذات إسلاميا وعربيًا لدى العمري تميز جيلاً كاملاً شارك في الثورة العربية الكبرى باعتبارها استجابة حضارية لتحديين: التحدي العثماني الذي أقفل على القوميات سجن إمبراطوريته ومنعها قسرًا من التطور، والتحدي الغربي الذي حاول القيام بالدور نفسه ولكن تحت شعار "الانتداب" على الشعوب المتخلفة تمهيدًا لتطويرها، وكانت سمة ذلك الجيل هي المصالحة بين الدين والقومية دون إكراه ولا قسر، وعبر السلوك اليومي المعيش من دون تنظير أو تعسف.

فوكوياما.. الخطيئة القاتلة

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحيّز "السياسة" يبدو وكأنه ظفر باستقلاله الذاتي عن الدين، وتحقق بذلك واحد من أبرز مطالب رواد عصر التنوير في فصل السياسة عن الدين،. وفي هذا السياق، فقد جاهدت الكنيسة في الغرب لاحتواء ما كانت تعتبره نفور الرعية من طقوسها، واجتهدت في تفصيل رؤيتها لقيم المجتمع الحديثة، وأشهر هذه المحاولات ما قام به مجمع الفاتيكان المسكوني الثاني حيث أطلق مقولة "الأرجورنا منتو" أو "مماشاة العصر"، وكانت تلك أبرز محاولات الكنيسة للتحدث بلغة العصر، ولكن منذ منتصف السبعينيات بدأت هذه المحاولات تنقلب إلى ضدها، وظهر خطاب ديني مسيحي لا يهدف إلى التكيف مع القيم السائدة "الحديثة"، وإنما إلى العودة بالمجتمع إلى القيم الدينية، واشتد النقد الكنسي على "الأرجورنا منتو" باعتبار أنها خسرت الماضي دون أن تكسب الحاضر أو المستقبل، وبدت هذه الظاهرة في منتهى الوضوح في بلدان أمريكا اللاتينية، حيث خرجت الكنيسة إلى الفلاحين، وخرجت منها قيادات فلاحية خاضت مع حركات المعارضة معارك ضد الديكتاتوريات العسكرية الحاكمة وعرفت باسم:
"القديسون الحمر" أو "الآباء الحمر" حيث تعامل رجال الكنيسة مع حركات اليسار، وهو ما اضطر البابا فيما بعد إلى إعلان " الحرمان الكنسي" على أكثر من كاهن.

وهذه الظاهرة في العودة إلى الدين اتخذت بعدا كونيًا وشملت المعمورة وانبعثت في حضارات مختلفة، وجاء اندلاعها كردة فعل على "الإفلاس الروحي" للمجتمعات الصناعية التي فشلت، رغم عظم إمكاناتها، في توفير السعادة الداخلية للإنسان وفي القضاء على "غربته" حيث بدا معزولا في كون معاد وبارد.

وفي المجتمعات الإسلامية، ورغم أن هذه المجتمعات تفتقر إلى القاعدة الصناعية الضخمة التى تحول الإنسان إلى ترس في آلة صناعية ضخمة، إلا أن هذه الظاهرة أفرزت حركات اعتمدت على "التصنيع الديني"، وأعضاء هذه الحركات ليسوا بالتأكيد، كما يصفهم بعض الغربيين، قوى ظلامية، أمية ومتخلفة، بل على العكس، فإن فيهم كثيرين من أصحاب الشهادات الذين درسوا في النظام المدرسي العلماني الحديث، وبعضهم تخرج من الجامعات الغربية، وكثير منهم يميل إلى دراسة العلوم التقنية، وفيهم أطباء ومهندسون وأساتذة جامعات، وتأخذ هذه الحركات على المجتمع تفتته وفوضاه وافتقاده لمشروع متكامل يؤمن به وينتسب إليه ويوفر له دفء التواصل ونعمة التكافل، وتعتبر هذه الحركات بالتالي أن "الحداثة" هي نتاج لعقل من دون إيمان، وهي تكشف عن البؤس البشري ولكن من دون أن تكون قادرة على منعه أو تحرير الإنسان من قبضته.

المفكر الغربي ميتشيل بيفون يحاول إيضاح هذه الظاهرة في مقال نشرته صحيفة "التايمز" البريطانية، فيقول "إن الإسلام اليوم، وبعد مرور ما يزيد على 14 قرنا على رسالته، يمر وبعد فترة من الجمود، بمرحلة من اليقظة الروحية، شبيهة بمرحلة التجديد التي مرت بها الكنيسة في الغرب، وما نطلق عليه اليوم اسم" الأصولية الإسلامية " قد يكون شبيها بالهجوم المضاد الذي شنته الكنيسة الأصولية على حركات التجديد التي أنتجت الكنيسة الحديثة..." وبالتالي، يستنتج الكاتب، فإن المسلمين قادرون على بناء نظام يواكب العصر من دون أن يتخلوا عن إيمانهم ومعتقداتهم الإسلامية.

وعلى النقيض من هذا التوضيح يقف المؤلف الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه الذي آثار وما زال يثير ضجة واسعة، وهو بعنوان " نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، فهو يعتبر أن المجتمعات الإسلامية " مجروحة في كرامتها "، ويقول بعمومية غامضة إن "الأصولية الإسلامية" هي أحد فروع الفاشية التي قامت في أوربا وأشعلت الحرب العالمية الثانية بعد سيطرة الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا وسعيهما للسيطرة على العالم (!). ولا يفسر فوكوياما كيف يمكن أن تكون الأصولية الإسلامية فاشية أو نازية والأخيرتان انبعثتا من أيديولوجية واحدة هي "الرأسمالية" الصناعية، كما لا يوضح أسباب هذا الجرح في "كرامة المسلمين"، وهو بالتأكيد عاجز عن ذلك، لأنه ليس دارسًا للفلسفة ولا للتاريخ، وتعامل مع المسألة الإسلامية بحس الصحافي وليس بمنهج المؤرخ، وبتحيّز السياسي وليس بعمق الفيلسوف، وأنتج بالتالي كتابا يضع " الليبرالية" بعد سقوط المواجهة مع الشيوعية ونهاية الحرب الباردة، في تعارض مع الدين ومع الإسلام، ويرتكب بذلك خطيئة قاتلة لأنه لا يكتفي بإنهاء التاريخ، بل يبعث الحروب الصليبية لتكون مستقبلاً بعد أن تحولت إلى ماض.

ليس الدين بل السياسة

الأمريكيون ليسوا كلهم "فوكوياما" ومع أن إحدى ساحات المعركة بين الحزب الجمهوري الحاكم والحزب الديمقراطي المعارض هو الموقف من الطقوس الدينية، فإن الحزبين معًا مشغولان بدراسة ظاهرة الإسلاميين الأصوليين وانعكاساتها السياسية في المستقبل على مصالحهم ومصالح الغرب عمومًا، وأسباب هذا الاهتمام المفاجئ، بعضها طبيعي وبعضها مصطنع. وفي الحالتين فإن الأمريكيين لا يعيدون اكتشاف الإسلام كدين، بل كسياسة، وينظرون إلى الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى باعتبارها مركز ثقل جديدًا يضاف إلى العالم الإسلامي. وهو ما عبرت عنه افتتاحية صحيفة "نيويورك تايمز" يوم 6 فبراير الماضي عندما قالت "إن تلك الدول الجديدة هي محط أنظار الجميع، الكل يتسابق باتجاهها وما علينا نحن إلا أن نضمن أن تلك الدول سوف تتطلع إلى الشمال والغرب وليس إلى الجنوب والشرق" أي ليس إلى طهران وبكين، وبينما يتحدث بعض الاستراتيجيين- وبسوء نية أحيانًا- عن احتمال قيام مثلث إيران- السودان- الجزائر، أو مثلث إيران- الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى كقوة سياسية معادية للغرب، فإن كثيرين آخرين يتعاملون مع "أصوليات" إسلامية، تتباين في توجهاتها وتطلعاتها في علاقاتها مع المسلمين ومع الغرب، ومن أبرز ممثلي هذا التيار البروفيسور أموس برلماتر أستاذ الاجتماع والعلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في واشنطن ورئيس تحرير مجلة الدراسات الاستراتيجية، ويعتقد برلماتر أن التجربة التاريخية في الشرق الأوسط تثبت أن التيار الأصولي التقليدي هو تيار أصولي على مستوى السياسة الداخلية لتلك البلدان لكنه "علماني" على مستوى السياسة الخارجية، ويتعامل مع حقائق العصر وبوسائل العصر ولغة العصر، ويدعو برلماتر في مقال نشرته صحيفة " واشنطن تايمز" يوم 25 يوليو الماضي، إلى التمعن بتلك الخصوصية، حيث يقول: "يجب أن يكون هناك تفريق وتقييم واقعي في رؤيتنا للبلدان الإسلامية، ولا بد من تجنب تعميم الإسلام الأصولي والنظر إلى تلك البلدان كتهديد محتمل أو مصدر تدمير لعوامل الاستقرار الإقليمي والدولي ".

ومع ذلك، فإن برلماتر لا يجد حرجًا في التهجم على الأصولية الإسلامية في إيران باعتبارها مظهر تهديد للغرب.

وفي سياق مختلف، وأكثر وضوحًا، يحدد رئيس مركز " راند كوربوريشن" غراهام فوللر، الذي شغل لفترة طويلة منصب رئيس قسم الشرق الأوسط في ال " سي. آي. إيه" أن " الإسلام السياسي" أمر واقع يجب القبول به والتعامل معه، وهذا التعامل لا ينبغي أن يقتصر على "أصدقاء الغرب" بل على المعارضين والمناوئين له أيضا، بمن فيهم جبهة الإنقاذ في الجزائر مثلاً. وفوللر هنا لا يدخل في الأيديولوجيا ولكن في السياسة ويتعامل مع الحركات الأصولية باعتبارها حركات سياسية وليست حركات دينية، وهو تيار سائد على مستوى صانعي القرار في الإدارة الأمريكية، ومن هنا فإن الإدارة لا تخفي تفضيلها للنموذج الإسلامي في تركيا كي يكتسب مواقع نفوذ في الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، وهذا الدور عبر عنه الدكتور "بولنت علي رضا" الخبير بعلاقات تركيا مع العالم العربي ودول الجوار الجغرافي، حيث قال في ندوة أقيمت في معهد واشنطن في يوليو (تموز) الماضي "إن مستقبل علاقة دول آسيا الوسطى الإسلامية مع تركيا هو أفضل بكثير من علاقات تلك الدول مع إيران، ذلك لأن تركيا تقدم النموذج الأفضل، فالشعب التركي يمارس منهجه الإسلامي، بينما الحكومة نجحت في اتباع أساليب ليبرالية للتعامل مع العالم الخارجي، وبالتالي فإن تركيا سوف تكون هي "الجاذب" لهذه الجمهوريات لأنها تقدم "التكنولوجيا" بينما طهران ما زالت تسعى إلى تقديم "الأيديولوجيا".

وبالطبع فإن هذا النوع من "التنظير" يكاد يهمل التغييرات الكبيرة والتحولات الجذرية التي مرت بها الثورة الإيرانية، بعد 13 سنة على قيامها، حيث بدأت الحكومة الإيرانية حوارًا واسعًا وجادا حول بيع القطاع العام للخاص، في محاولة لإعادة الحيوية إلى الاقتصاد، كما سمح لرجال الصناعة والتجارة الإيرانيين الذين غادروا إيران إبان سنوات الاضطراب بالعودة إلى البلاد للمشاركة في بناء الاقتصاد، وهذه قد تكون مظاهر اقتصادية ولكنها مؤشر على أن ما يسميه الغرب "الأصولية الإسلامية" إنما هي مشروع مرن وقابل للتطوير من الداخل من دون أن يتخلى عن قيمه الدينية.

الصهيونية والصليبية الجديدة

بعيدًا عن الفكر التآمري، ومن دون السقوط في نظرية مؤامرة الغرب على الإسلام، فإن هناك شواهد واقعية لا تحصى ولا تعد على أن الصهيونية التي خسرت أكثر من موقع لدى الغرب نتيجة لحرب تحرير الكويت أولا، ولنهاية الحرب الباردة ثانيا، تسعى إلى استعادة دور الحليف الرئيسي والاستراتيجي للغرب، عبر استبدال الإسلام الأصولي بالشيوعية وطهران بموسكو، وهي في هذا السياق تستخدم السلاحين، السياسي والديني معًا، فعلى الجبهة السياسية، ومنذ انهيار الإمبراطورية السوفييتية، فاضت الآلة الإعلامية للوبي الصهيوني في أمريكا وأوربا بمئات المقالات والدراسات عن خطر الإسلام على الغرب، ودعمت هذا الفيض تصريحات لمسئولين إسرائيليين عن القنبلة النووية الإسلامية وعن التمدد الإيراني في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية. وهنا بعض النماذج من هذه الحملة المستمرة:
في 10 فبراير (شباط) الماضي نقلت الإذاعة الإسرائيلية عن رئيس الوزراء وقتئذ اسحق شامير تخوفه من تأثير إيران والإسلام الأصولي على الدول الإسلامية في آسيا الوسطى، وبعد ذلك بأسبوعين نقل مراسل وكالة "أسوشيتدبرس" رون سانيان من تل أبيب عن أحد المسئولين في وزارة الخارجية الإسرائيلية قوله "تعتقد إسرائيل أنه ما لم تكسب الدول الغربية- أو ذات التفكير الغربي مثل تركيا وإسرائيل- السباق مع إيران فإن طهران سوف تنجح في إقناع قطاعات واسعة من شعوب دول آسيا الوسطى باعتناق الأفكار المتطرفة، وبالتالي فإنه ستكون أمام الغرب ست دول إسلامية أخرى للتعامل معها بدلاً من دولة واحدة ممثلة بإيران ".

وفي 12 فبراير (شباط) أيضا تنشر صحيفة " واشنطن تايمز " مقالاً كتبه روبرت ساتلوف، أبرز مستشاري اللوبي الصهيوني في واشنطن، قال فيه "إن الإيرانيين لا يعتبرون مصدراً للإزعاج فقط في دول آسيا الوسطى الإسلامية كما هم في لبنان والجزائر والسودان، بل إن إيران تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية وعسكرية بعيدة المدى في تلك المناطق، وتهدف أيضا إلى وضع يدها على مصادر الثروات الطبيعية في تلك المنطقة، ففي تركمانستان مثلاً التي تعتبر مصدرًا رئيسيًا لاستخراج اليورانيوم المناسب لصنع القنبلة النووية تعمل إيران جاهدة على استغلال تلك الثروة الاستراتيجية".

ونتيجة الضغوط التي يمارسها اللوبي الصهيوني في أمريكا يصرح جوردون أوهلر رئيس مركز حظر انتشار الأسلحة النووية في الإدارة الأمريكية بقوله " إن برنامج إيران النووي ما زال بعيد المنال، ويحتاج إلى سنوات طويلة قبل الوصول إلى نتائج على هذا الصعيد" إلا أنه يحذر من إمكان تعاون دول إسلامية أخرى مثل باكستان وسوريا وليبيا مع طهران في إنجاز برنامج نووي لتلك الدول الإسلامية.

ويرى الباحث العربي عبد اللطيف ريان في كتابه " الإسلام ... تحدي الغرب الجديد" إنه منذ بداية تفكك الاتحاد السوفييتي وبروز الدول الإسلامية في آسيا الوسطى، وخاصة تلك التي تملك أسلحة نووية، أكثرت وسائل الإعلام الإسرائيلية، من تغطيتها للأخبار المتعلقة ببرنامج إسلامي نووي، وخاصة البرنامج الإيراني.

هذا على الصعيد السياسي، أما على الصعيد الديني، فإن جماعات "المسيحية الصهيونية" أو " الأغلبية الأخلاقية" في أمريكا يصرحون، كما قال جيري فلويل أحد قادتهم، إن "على الغرب مساعدة إسرائيل على جعل القدس يهودية إلى الأبد، لأنه عندئذ تتحقق القيامة، ويخرج المسيح الدجال، حيث تقع حرب تنتصر فيها المسيحية على قوى الشر والظلام". وهذا هو النوع من المسيحية المتعصبة التي تعمل إسرائيل على إنتاجه.

الإزاحة الاجتماعية... والتطرف

التطرف لدى بعض الجماعات الإسلامية هو نتيجة ورد فعل لما يمكن أن نطلق عليه تسمية " الإزاحة الاجتماعية "، فقد فرض الغرب على الشرق في العقود الأربعة الماضية نماذج من التنمية حاولت بعض الأيديولوجيات والحكومات في الدول الإسلامية اتباع قواعدها، ولكن هذه النماذج أثبتت فشلها في تحقيق تنمية متوازنة في إطار بلدان إسلامية يتكاثر سكانها وتنمو مدنها وتشهد زحفًا واسعًا من الريف إلى المدينة وتتضاءل فيها فرص العمل للشباب يومًا بعد يوم وتضيق عليهم مساحة العيش، مع ما يرافق كل هذا من النقمة الاجتماعية وعدم الرضا السياسي، وبالتالي يتطلع هؤلاء الشباب إلى الماضي ويسترجعون انتصاراته، خاصة أن مخزونهم التاريخي ومحصلتهم التعليمية تجعل من هذا الماضي ذهبًا كله وانتصارات متواصلة وتحقيق حياة مثالية، وليس مهما أن يكون كل هذا حقيقة في المطلق، ولكنه بالتأكيد اقتناع ثابت وهي "الحقيقة" الوحيدة التي تعرف إليها هؤلاء الشباب باعتبارهم ضحايا للغرب الصناعي، وبالتالي فإن التطرف في الانتماء إلى هذه الاقتناعات هو نتيجة لهذه الإزاحة الاجتماعية أو "الانتداب" الغربي على المستوى الفكري والأيديولوجي.

ومع ذلك فإن هذا التطرف ليس أمرًا محتومًا، ولنأخذ قائد المجموعات الإسلامية في جمهورية طاجيكستان مثلا، فالشيخ قوصي أكبر توران زاده، وفي مقابلة مع صحيفة " لوس أنجليس تايمز" يتحدث عن الحقبة الشيوعية التي عاشها شعبه على مدى سبعين عامًا، ويقول "بالتأكيد ليس هو الماضي ما نريد العودة إليه، فخلال السبعين عامًا المنصرمة تشكلت لدينا رؤية مختلفة للعالم، واقتناعي هو أن أية جماعة أو حزب أو فرد يحاول أن يفرض قيام دولة إسلامية بالقوة لن يكتب له النجاح... إننا نستعيد تاريخنا وشخصيتنا، لا لكي نرتد إلى الماضي، بل لنملك القدرة على التواصل الحقيقي مع الآخرين من أجل بناء مستقبلنا".

وطاجيكستان هي أكثر الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى فقراً وكانت تعتبر القاعدة الأساسية للشيوعيين "الأصوليين" في عهد الرئيس بريجنيف، وقد تعلمت من تاريخها أن القوة لا يمكن أن تبني دولة، مهما تعددت شعارات هذه الدولة.

السماء لا تمطر ذهباً

إن الغرب يعيد اليوم اكتشاف قوة إسلامية جديدة تضم ما يزيد على 55 مليون مسلم في آسيا الوسطى.. وهذا المارد الجديد مسلح بأنياب نووية، وليس مهما أن الصهيونية العالمية يمكن أن تخشى هذا المارد الجديد أو تحاول الاستفادة من وجوده لدعم نفوذها لدى الغرب، بل المهم كيف نستطيع نحن العرب المسلمين أن نستفيد من هذا المخزون البشري كي نتحول معًا إلى قوة استراتيجية قادرة وفاعلة في رسم النظام الدولي الجديد وبالتأكيد أن هذه الجمهوريات راغبة في تقرير مصيرها بعيدًا عن الهيمنة "السوفييتية" السابقة، ونحن عربا ومسلمين أصحاب مصلحة حقيقية في أن تستطيع هذه الجمهوريات التأثير في صنع القرار سواء داخل روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفييتي السابق أو على النطاق الدولي. وطرح النموذج الإسلامي العربي الجاذب لهذه الجمهوريات الوليدة هو أمر في غاية الأهمية، فإذا تذكرنا أن هذه الجمهوريات خرجت حديثا من حكم قمعي واستبدادي، فلا بد أن تكون الديمقراطية وحقوق الإنسان هي في طليعة الاهتمامات المشتركة مع شعوب هذه الجمهوريات، وبعد حرب تحرير الكويت، ومعارك المسلمين في سراييفو، فإن الالتزام بالشرعية الدولية وتطوير العلاقات مع الغرب الصناعي على طريق تحقيق تنمية، حقيقية هي أسس لا بد منها لإرساء هذه العلاقات على قواعد صلبة. إن شعوب تلك الجمهوريات حرمت طويلاً من الحد الأدنى للتنمية وللرعاية الاجتماعية كما حرمت من حقوقها الثقافية وحقها في تكريس هويتها المتميزة، وفي هذا المجال فإن لدينا الكثير مما نعطيه، ليس على صعيد الدول وحدها ولكن على صعيد الهيئات الإسلامية الناشطة في أكثر من مكان على اتساع رقعة الكرة الأرضية.

ومع بناء علاقات إيجابية مع هذه الجمهوريات، فإن هناك مهمة ملحة ولا تتحمل التأجيل وهي مهمة إنقاذ المسلمين في البوسنة والهرسك، صحيح أن الغرب يشارك العالم الإسلامي موقفه من المذابح والمجازر التي يعيشها المسلمون هناك، ولكن المبادرة الإسلامية لا بد أن تكون السبّاقة.

إن الغرب الليبرالي والعلماني والصناعي استطاع في عام 1961 وحده إرسال 400 بعثة تبشيرية أمريكية تضم 34 ألف مبشر إلى أنحاء العالم، ووصل عدد الدعاة في إفريقيا في ذلك العام إلى 18338 مبشرا، بينما تم بناء كليات للاهوت ومدارس للتبشير بلغ عددها 489 كلية، وفي العام نفسه أعد الفاتيكان 2000 كاهن تم إرسالهم إلى إفريقيا، أما في عام 1963 فقد ترأس الأمريكيون وحدهم 221 أبرشية في البرازيل و 125 أبرشية في البيرو إضافة إلى مئات المؤسسات الأخرى التي توزعت على أنحاء الأرض.

إن المصالحة بين الدين والليبرالية تستحق منا أكثر من وقفة، وإذا كانت الخلافات داخل العالم العربي والإسلامي تعيق تقديم النموذج المطلوب، فإن هذا لا يمنع أن هناك دولا إسلامية في جنوب شرق آسيا مثل أندونيسيا وماليزيا نجحت في إقامة أنظمة تتعايش فيها العرقيات المختلفة وتحقق تنمية حقيقية قائمة على قاعدة الديمقراطية والتعامل الحر في السوق. وكما أن الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين في أمريكا على ضرورة إقامة الصلاة في المدارس لا يمنع أمريكا من متابعة مسيرة التنمية وكذلك إرسال بعثات التبشير، فإن هذه الخلافات والاجتهادات في العالم العربي الإسلامي لا تمنع ضرورة بذل جهود مشتركة لمصافحة اليد التي تمدها الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى باتجاهنا، وإذا لم ننجح في التقاط هذه اليد فإن التطرف الأصولي لن يكون دعاوى صهيونية أو غربية بل واقعًا ربما يجتاحنا جميعا ومعنا تلك الجمهوريات الباحثة لدينا عن نموذج، وهو حديث سياسة وليس حديث دين، وهو حديث تنمية وليس حديثًا عن طقوس في الظلام تمارسها أقليات ما زالت تعتقد أن السماء يمكن أن تمطر ذهبًا .. لو أنها وصلت إلى السلطة.