حكايات من بغداد القديمة

حكايات من بغداد القديمة

عرض: إبرهيم عبدالمجيد

هذا كتاب بالإنجليزية صدر لأول مرة عام 1997 عن دار كيجان بول العالمية Kegan Paul International التي تصدر مطبوعاتها في لندن وأمريكا معا، لكن ما أحوجنا إلى قراءته بالعربية.

المؤلف عراقي يعيش في لندن منذ حوالي أربعين سنة، حيث نزح إلى لندن بعد ثورة "تموز" بالعراق عام 1958 وهو يكتب بالعربية والانجليزية وله كتب عديدة ودراسات فى الدراما والفن والسياسة، ويكتب بصفة دائمة في صحيفة "الشرق الأوسط".

في هذا الكتاب يروي لنا الكاتب بعين الطفل حكايات عديدة على لسان جدته، وحكايات عديدة للحياة في بغداد في الثلاثينيات والأربعينيات ويمتزج في حكاياته دائما الخاص بالعام، ولا تفارقه روح الدعابة ولا الإنسانية التي تفيض على جميع المخلوقات الصغيرة.

ويبدأ الكتاب بحديث قصير ونافذ عن قيمة العائلة في الشرق وأهميتها، فهي ليست مجرد قوة دينية أو روحية فقط إنما اقتصادية وسياسية أيضا، فلا شك أن الترابط العائلي ساهم بنصيب كبير في تطور النمور الآسيوية اقتصاديا، كما أن نظم الحكم في الشرق غالبا ما تقوم على عائلات، سواء كانت ملكية أو جمهورية.

وفي الأغلب الأعم تلعب العائلة دورا مهما أكبر من الترابط الروحي.

والإحساس بالمسئولية العائلية له أساس ديني، ففي القرآن الكريم توصية بذوي القربى، وبالوالدين إحسانا، والأقربون أولى بالمعروف، وطاعة الوالدين من طاعة الله، وهكذا.. وفي الوقت الذي يعتمد فيه العمل في الغرب على المؤهلات والقدرات، فهو في الشرق يعتمد على القرابة أكثر. ربما كان هذا أحد أسرار تفوق الغرب، لكنهم في آسيا جمعوا بين الحسنيين، ربما لأن الجميع لديهم القدرات المطلوبة!

الدواء الألماني

للكتاب عنوان ثانوي هو "جدتي وأنا"، فالكتاب إذن محوره الجدة ويرويه الطفل. ويبدأ الكتاب بحكاية الرحيل المبكر للخادمة "حسنة" التي وجدت نفسها في بيت العائلة وسط ستة أجيال أو خمسة لا تستطيع أن تخدمهم جميعا. ففي العراق في ذلك الوقت لم تكن هناك فجوة بين الأباء والأبناء فقط، لكن هناك أكثر من فجوة، وفي البيت الواحد، كبيت المؤلف الراوي، نجد ست فجوات، الأولى بين الأطفال، وأخوتهم الأكبر، والثانية بين الأطفال وآبائهم، والثالثة بين الآباء والجدة، والرابعة بين الجدة والجد، والخامسة بين النساء والرجال، والسادسة بين كل واحد من الأسرة والعمة "سليمة" التي لاتزال تعتقد بعودة الخلافة العثمانية وإن على يد هتلر هذه المرة!!

تترك حسنة البيت، وبيت كهذا لا تستطيع أن تقوم به خادمة، وحتى نقابلها مرة ثانية يحدثنا المؤلف عن بيت جدته الواقع قرب وزارة الدفاع قريبا من السجن المركزي، يحيط بههذا ليس كتابا إلى أهل العراق الذين لم يعودوا يمتلكون حق الابتسام. ولكنه للأمة العربية كلهما، جزء من طفولتها الضائعة. وزينب الأرملة وهن عادة يمضين الوقت يتحدثن في كل شيء، من مسبحة الجدة التي جاءتها من مكة المكرمة بعد أن طافت حول قبر الرسول إلى البيوت الحديثة المبنية من الخرسانة!

بيوت قديمة ذات نخيل وبيوت عصرية بلا نخيل أشبه بالمساجد بلا منابر. وغير ذلك من الأمور، حتى نصل أرق الجدة الذي لا ينتهي والذي استطاع الدكتور ماكوفسكي القضاء عليه بترياق تشربه الجدة كل مساء. والدكتور ماكوفسكى ليس إلا بائع خمور بولندي يهودي احضره الأب لعلاج أرق الأم/ الجدة، التي رأت أنه طبيب حقيقي ألماني ناجح وليس كغيره من يكون ألمانيا. والحقيقة التي لم تعرفها أبدا أن هذا الدواء ليس إلا شراب "العرق" الوطني. تشرب الجدة قطرات من العرق الوطني وتبدأ في حكاياتها القديمة، عن أحبائها وعشاقها وعن الرجال الذين أرهقتهم ولم يصلوا إليها، وخلال ذلك ينتقل المؤلف/ الراوي إلى خارج البيت الكبير، حيث محطة بنزين صغيرة يديرها أخوان توأمان هما سعد وسعدون. متشابهان في كل شيء طولا وعرضا ولونا وملامح، لكن سعد طيب هادئ وسعدون مقبل على الحياة عدوانى فهو ينام بالليل وتقف العربات صفوفا حاملة الموتى المحمولين للدفن في النجف، وادي السلام، والأحياء أيضا، لكنه لا يخرج من الغرفة الملحقة بمحطة البنزين ويتركهم يصرخون وينعتونه بأحط الشتائم حتى يخرج في النهاية ودائما يتهمونه بأنه يغلق الغرفة على نفسه ومعه واحدة من بنات الهوى، وهو لا يكترث بأي شيء ويصل الصياح والشتائم إلى الجدة خلف الشناشيل لكنها تستعين على النوم "بالعرق" الذي تظنه دواء وترسل حفيدها للبحث عن حسنة الخادمة، ويجدها بعد بحث مضن في موقف شديد البؤس. لقد رأى هو وأخاه الأكبر معركة ورجال شرطة فاقتربا منها ليجدا شابا يضرب أباه ويشاركه أخوه الضرب الأب يشكو عقوق ابنه ويشكو الابن للشرطي كيف أن الأب اعتبر زوجته متاعا له أيضا والأب يبدي اعتراضه على هذا العقوق. وحين يطلب الشرطي سماع أقوال الزوجة لا تكون غير حسنة التي خرج الراوي وأخوه للبحث عنها. يجدانها في حالة مزرية من البؤس ليس فوقها غير عباءة سوداء وليس تحتها ملابس من أي نوع وتلوذ حسنة بالراوي وأخيه وتعود إلى العائلة ولكن إلى الجدة هذه المرة.

الرسالة الحائرة

تنطلق الحكايات البديعة مع الجدة وحسنة وسعد وسعدون والحفيد، الذي يرى ذلك كله بعين طفل بريء ماكر. وتلتقي الجدة مع الدكتور ماكوفسكي في لقاء طريف حيث اعتادت كل شهر وهي تتقاضى "معاشها" من مكتب المعاشات أن تمر بشارع الرشيد في صحبة حفيدها وتأخذ قسطا من الراحة في حانوت ماكوفسكي حتى يعطيها زجاجة العرق الصغيرة، وخلال ذلك يتحدثان في هموم الحرب والناس. هو يحدثها عن أولئك الضائعين الذين يأتون يشترون العرق من الدكان، وهي تلعنهم، أولئك الذين أفسدهم الإنجليز، ولا تستمع إلى الحوار الدائر حولها عنها كيف تجلس في محل يبيع العرق، وأن ذلك من جراء التعليم، والاستعمار أيضا، في الوقت الذي ينطلق فيه من الأمام والخلف مسجدان لهما إمامان يتنافسان في الأذان فيؤخر كل منهما الأذان عن الآخر حتى صار للصلاة الواحدة "أذانان" مما أربك الجدة وأختها البكماء وابنتيها سليمة العانس صوت أم كلثوم يغني من الراديو وتعود إلى البيت بعد أن توزع شيئا من الصدقة على الفقراء في الميادين وأمام المساجد. والحقيقة أنها سيدة شديدة الإيمان ما إن يهل شهر رمضان حتى توزع الزكاة على الفقراء، وتخرج عند الإفطار طعاما كل يوم لسعد وسعدون اللذين يعملان في المحل، وسعدون بالذات لا يصوم لكنه لا يتورع عن قبول "حساء الشعرية" وترك الزبائن طالبي البنزين خاصة أولئك الذين يحملون الجثث إلى النجف، ولأن حسنة هي التي تذهب إليهما الطعام صارت شيئا فشيئا تألفهما وتعمل في محطة البنزين لتموين السيارات في الوقت الذي يتناولان فيه طعامهما ويبدأ السائقون في التندر على الفتاة التي تعمل بالمحطة "وكيف تقدمنا وصرنا مثل إنجلترا تعمل بناتنا في محطات البنزين" والجدة تتابع ذلك من وراء الشناشيل وتدرك أن كلب حسنة تعلق بالآخرين، وهي تعرف أن سعد هو الطيب وسعدون هو الشرير فتدعو سعد إلى منزلها وتعرض عليه أن يتزوج هذه البنت المسكينة حسنة، ويمهلها ليفكر، وتظل حسنة تتردد على محطة البنزين بالطعام ويهاجمها سعدون فتظن أنه سعد تشابههما وتشكوه للجدة التي تعاتبه فيمضي ليعود بعد قليل ومعه سعدون بعد أن أوسعه ضربا ليعترف أنه هوالذي هاجم حسنة وليس سعد، وهكذا يحتل سعدون مساحة أكبر من الحكايات، خاصة ليلة الجمعة، يوم الخميس مس اء، حيث يسهر الشباب والرجال في المقاهي والمطاعم وتمر عربات بنات الهوى أمام المحطة فيختلط سعدون بهن في مزاح يكرهه أهل المكان بباب المعظم ويحتجون على هذا الغي من سعدون ويفكر إمام المسجد في ضرورة إزالة محطة البنزين، فيكتب شكوى لوزير الدفاع كما أشار عليه أحد الجنود، خاصة أن وزارة الدفاع على بعد خطوة، وبعد أن ينتهي من الخطاب الذي كتب فيه:

فخامة وزير الدفاع المعظم:

حفظك الله لدولة العراق والعروبة والإسلام

لابد أنك لا تدري بالأفعال الطائشة وغيرالأخلاقية التي تتم ليل نهار في محطة البنزين بباب المعظم على بعد أمتار من وزارتكم. هذه الأفعال النتنة التي زكمت رائحتها الأنوف، لذلك نهيب بكم أن ترسلوا قوة من الجنود الشجعان لهدم هذه المحطة مرة واحدة وإلى الأبد وعشت لجيشنا العراقي.

سكان منطقة التوب الذين يخشون الله بعد أن ينتهي من الخطاب والتوقيعات، وفي مشهد من أجمل مشاهد الحكايات، يعترض "حلمي وحيد" المدارس باعتبار أن الشكوى يجب أن تكون لوزير الشئون الداخلية وليس للدفاع، فوزير الدفاع كان الله في عونه مشغول في قتال الأكراد في الشمال الذين يقودهم الملا مصطفى البرزاني.

يجد الإمام ذلك معقولا، يغير الشكوى إلى وزارة الشئون الداخلية فيعترض عليها من لهم علاقات عمل بها من التجار والمقاولين، ويقترحون أن يرسل الشكوى إلى شركة البترول الإنجليزية، فيجد ذلك معقولا ويترجم الشكوى إلى الإنجليزية بمساعدة بعض الطلاب، لكن الناس ترفض التوقيع على كلام لا تفهمه ويقترح "جعفر نوري" المدرس أيضا أن تكتب الشكوى إلى الملك، بعد أن يمزق الشكوى الأولى باعتبار أنه يجب عدم إرسال شكاوانا إلي الاستعمار!.. يصبح اقتراح إرسال الشكوى إلى الملك وجيها، كن أحد الشيوعيين يهدد بأنه لا يمكن أن يوقع على أي شكوى عليها اسم الملك! وهكذا ينتهي الأمر بعدم إرسال الشكوي إلى أي جهة واستمرار سعدون في مغامراته وغواياته أمام الجميع.

عمل جنوني

تزداد أعداد القتلى القادمة من الموصل إلى بغداد، ومنها إلى النجف لتدفن بسبب الحرب الدائرة بين الدولة والأكراد، ويتساءل الحفيد عن سر دفن الجثث بالليل دائما، فيعرق أن الوقت هو يونيو والجثة لا تتحمل حرارة النهار، وهي تنتقل هذه المسافة من الموصل شمالا إلى النجف جنوبا ويفكر سعدون في فكرة جنونية هي ترك العمل وشراء سيارة قديمة وتحويلها إلى سيارة نقل الموتى، ويترك سعد وحده يعمل بالمحطة ويترك النوم المحطة وينام في فنادق على نهر دجلة، ويرتدي بدلة وحذاء ويشرب الخمر بشراهة ويحذره سعد من زوال النعمة ويقول له أنت متشائم يا سعد. دائما متشائم. الحرب مع الأكراد لن تنتهي، وإذا انتهت ستنتقل إلى مكان ما آخر، ربما هو الجنوب". وبالفعل تنتقل الحرب إلى مكان آخر، هو الغرب هذه المرة، حيث وقعت حرب فلسطين عام 1948 وتزداد النقود مع سعدون، وتزداد وحدة سعد بالمحطة فيطلب من الجدة أن تترك حسنة تعمل معه فتحدد له راتبها خمسة وعشرين فلساً في الساعة ويوافق، وتعمل حسنة معه ويزداد الود بينهما في الوقت الذي يتعرض فيه سعدون لحادث أليم، حيث كان ينقل الأحياء مع الموتى وذات مرة وسط الشتاء دخل بعض الأحياء الذين كانوا فوق سطح العربة المكشوفة، دخلوا صناديق نقل الموتى ليقوا أنفسهم من المطر، وركب العربة أناس آخرون فوجئوا بأحد الذين كانوا داخل الصناديق يخرج يده منها! أصابهم الرعب من بعث هؤلاء الموتى أمامهم! فألقوا بسبب رعبهم الصناديق والأكفان جميعا في الطريق وسط الوحل، وانتهى الأمر بسعدون إلى السجن ثلاث سنوات، فتزوج سعد بحسنة وترك بغداد وعاد إلى بلده الأصلي الموصل، وكان سعدون قد انتقل بدوره الى سجن الموصل وهناك عمل سعد وحسنة بالزراعة وتعرضا لمصاعب جمة في الحياة حتى زار سعدون فاتفق معه على خطة شيطانية هي أنه في كل زيارة يدخل "سعد" السجن بعد أن يقابل أخاه سعدون في الحوش ويخرج "سعدون" من حوش السجن إلى الخارج باعتباره سعداً، وهكذا لا يمكن التفريق بينهما لشدة تشابههما.

استطاع سعدون بهذه الحيلة أن يقوم بتهريب كل شيء إلى السجناء ابتداء من الأكل حتى المنشورات السياسية والكتب الممنوعة وسائر أنواع المخدرات، وصار له حساب فى أحد البنوك يضع فيه أمواله من هذه التجارة، وحارس السجن في حيرة يقول لضابطه "سعدون هذا يحيرني، أسبوع أجده ثائرا متمردا وأسبوع هادئا حزينا"، والضابط يقول له أليس عدد المسجونين صحيحا؟ يقول الحارس "بلى" ويظل حائرا حتى جاء يوم الإفراج الرسمي عن سعدون أخبره ضابط السجن بالذلك لكن سعدون رفض الخروج وطلب البقاء والضابط في دهشة. وعرف سعدون باستحالة ذلك فعرض الأمر على زملائه من السياسيين الذين اعتبروا ذلك انتهاكا لحقوق الإنسان، فما دامت الدولة أعطت نفسها حق سجن الناس يبقى للناس الحق في الخروج أو عدم الخروج من السجن! وقرروا الإضراب عن الطعام لإبقاء سعدون في السجن، لكنه رفض ذلك وقرر الخروج لسبب واضح جدا هو أنه لا يستطيع الحياة دون طعام!!

المكان الوحيد الآمن

خرج سعدون ليجد في حسابه في البنك مبلغ خمسين ألف دينار، ويذهب سعد وحسنة إلى بغداد لزيارة الجدة التي كانت تقترب من الموت، تقر عيناها برؤيتهما وتسعد بهما، وتطلب زجاجة الدواء التي تساعدها على النوم، ويراها سعد ويعرف أنها من "العرق" أو يكاد لكنه لا يتكلم، ولا أحد يخبرها بذلك، ونعرف أن الحياة تغيرت في بغداد، مات ماكوفسكي، وبيع دكانه لغيره بعد أن رفض ولداه الاستمرار في التجارة، وقامت ثورة استولت على الحكم وطردت الإنجليز وهدمت محطة البنزين الإنجليزية وقررت بناء تمثال لامرأة سافرة قرب المسجد، إمام المسجد يعترض على وضع تمثال لامرأة سافرة قرب المسجد، فتقرر حكومة الثورة العسكرية وضع تمثال لشاعر الثورة، لكنهم يحتارون فيمن يكون شاعر الثورة، فالشعراء كثيرون، وينتهي الأمر بتمثال لقائد الثورة! في الوقت الذي تموت فيه الجدة وينقلون جثمانها إلى النجف، الوادي المقدس، ليلا أيضا، في عربة سعدون القديمة، ويقودها سعدون في معية سعد وحسنة والحفيد الذي صار شابا يافعا، ويقول سعدون لسعد إنه لابد أن يعود إلى السجن مرة أخرى ليعود إلى تجارته، ذلك أن المكان الوحيد الآمن للتجارة حقا هو السجن!، ويسأله سعد كيف سيعود، لابد من جريمة، يقول سعدون إنه بعد أن يعود من النجف سيعكف وسط الميدان ويزعق بأعلى صوته تسقط الديكتاتورية حتى يسمعه أحد فيدخله إلى السجن!! وينتهي الكتاب الجميل بخفقه في الصدر، ودمعة أيضا في العين على هذه الشخصيات الساحرة، وتلك الروح الإنسانية العذبة التي شاعت في الجميع، الملائكة منهم والشياطين في ذلك الزمن الذي صار بعيدا.

 

خالد القشطيني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





مؤلف الكتاب