الأدب اللبناني باللغة الفرنسيّة على امتداد القرن العشرين

الأدب اللبناني باللغة الفرنسيّة على امتداد القرن العشرين

من المعروف عن اللبنانيين أَنهم ينتصرون للّغة العربية أيّما انتصار, ويعدّونها من مفاخر انتمائهم الوطني والقومي, ومن مسارح إبداعاتهم. ولهم فيها تراثُ نهضويّ ثَرّ أَغنى كنوزها فوق ما هي غنيّة, في الشعر والفكر واللغة وسائر ضروب الأدب وألوان الكتابة.

ومن المعروف عنهم كذلك, نظراً لموقع بلادهم الجغرافي, ولانفتاحهم على ثقافات الدّنيا, ولتشتّتهم في أصقاع الأرض قاطبةً, ولظروف أخرى تاريخية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وأحياناً عسكريّة, أنّهم جالوا جولات أدبية وفكريّة بواسطة لغة غير لغة الأمّ والتراث, هي في الغالب الفرنسية, أو الإنجليزية, وأحياناً البرتغالية أو الإسبانيّة أو الألمانية أو سواها من لغات النّاس والحضارات.

وقد تجمّع لديهم, على امتداد القرن العشرين, مخزون أدبي غنيّ كانت اللغة الفرنسية واسطة التعبير فيه, هو الذي سيكون مدار موضوعنا في هذه الكلمات. ولا بُدّ من لفت النظر, قبل التبسُّط في البحث, إلى أنّ الألوان الأدبيّة التي ضمّت آثار اللبنانيين باللغة الفرنسيّة تترجّح بين الشعر والرواية والأقصوصة والفلسفة والمسرح والمذكرات واليوميّات والنقد والسّير الذاتية, وسواها.

ولكنّنا نجعل اهتمامنا الآن مقتصراً على اللونين اللذين استقطبا غالبية الآثار, وتقدّما على الألوان الأخرى من حيث الكميّة والأهميّة, وهما الشعر والرواية.

والكتابة بالفرنسية على يد لبنانيين, سحابة قرن وحتى الآن, بدت في نقطة انطلاقها مرآة لواقع, ولكنّها بَدَتْ في أيامنا مسألة تُثير الجدل. والجدل المُثار ذو أسباب اجتماعية وسياسية وعرقية ولغوية, وأحياناً ذو أسباب فنيّة خالصة. وهو على الأخص مرتبطٌ بمسألة الازدواجية اللغوية في لبنان, وما قد ينتج عنها من توجّهات ثقافية, وما قد تحمله هذه التوجّهات من مضامين تذهب أبعد من الظاهر الثقافي, إلى الباطن الاجتماعي والسياسي.

وهذه الكتابة هي, في كلّ حال, مرآة من مرايا المجتمع الثقافي اللبناني, وسمة من سمات أدب لم يستطع, بالرغم من لجوئه إلى لغةٍ غير لغتنا الأم, الانعتاق من التأثير اللبناني العربي الشرقي.

وفي ذلك ما يجعل الكتّاب الذين نتحدث عنهم, ذوي انتماء إلى أرضهم, وانخراط في هموم مجتمعهم, يُقصيان عنهم أيّ نعتٍ بالانسلاخ عن الذات الاجتماعية والقومية.

إنّ بَحثنا ينقسم إلى قسمين, نرسم في الأوّل منهما صورة الشعر, وفي الثاني صورة الرواية, ثم نخلص إلى خاتمة تقويميّة عامّة تُطلّ على غد الظاهرة المعالجة.

ونشير في كل حال, إلى أنّ بعض أجزاء هذه الدراسة, ما تعلّق منها بالشعر على الأخص, مسند بصورة أساسية إلى بحث طـويل لنا نشرناه في كتابنا الموسوم (أبعـد من المنبر) (منشورات دار النّضال, بيـروت 1998, ص121 وما بعدها).

القسم الأول: الشعر

(شعر اللبنانيين باللغة الفرنسية) أو (الشعر اللبناني الفرنسي اللغة), هو رافدٌ من روافد الأدب اللبناني المكتوب بالأجنبية. ونحن نعني به الشعر الذي كتبه لبنانيون (أو لبنانيو الأصل القريب), داخل الوطن أو خارجه, باللّسان الفرنسي.

ظهرتْ بَدواتُ هذا اللون الأدبي في أواخر القرن التاسع عشر, وشّقَّتْ طوالعُهُ في الشطر الأول من القرن العشرين, وظلّتْ أسماءُ شعرائه, بالرغم من تبدّل الظروف السياسية, تنهمر انهماراً حتى أيّامنا.

تَضَافرتْ, في سبيل اطلاقه, وفي سبيل إطلاق الأدب اللبناني باللغة الفرنسية على العموم, عوامل شتّى, يَتَصدّرُها: الأرضُ اللبنانية التي لم تكن, عبر التاريخ, أرض لغةٍ واحدة. والثقافة التي حصَّلَها اللبنانيون, في الداخل والخارج. وأثّرُ السلطة العليا, عهدَ الانتداب. والمغامرةُ على صهوة لغة عالمية, بحثاً عن شهرة, أو تحقيقاً لذات ثقافية, أو لمأرب وطني, أو تعبيراً تلقائياً عبر اللّسان الأطوع. والشتيتُ اللبناني في أرضِ الناس, منذ اندلاع الأحداث اللبنانية الأخيرة على الأخصّ.

احتضَنَتْ بعض أقلامه, وشجّعْتهُ, في لبنان, منابر أدبية, ومجلات أبرزها المجلّة الفينيقية (La revue phenicienne) التي أصدرها شارل قرم, ودفاتر الشرق (Les Cahiers de lEst) التي أصدرها كميل أبو صوّان, ودفاتر العاصي (Les Cahiers de loronte) التي رأست تحريرها لودي عويس. فضلاً عن الصحف والمجلات الصادرة بالفرنسية في لبنان.

أوْلاهُ الفرنسيّون منذ شكري غانم - رائده وأبيه - مروراً بجورج شحادة - وَجهِهِ العالمي -, انتهاءً بالموجات الجديدة, عنايَتَهم الكبرى. فَمُثّلتْ مسرحياتُهُ (غانم, شحادة...) على خشبات مسارحهم. وصدرتْ بعض دواوينه عن دور النشر عندهم, ونال بعضها الآخر جوائز جمعيّاتهم الأدبية أو تقديرها. وانعقدتْ لأجله - ولأجل الحضور اللبناني في الأدب الفرنسي على وجه عام - المؤتمرات. تكاثَرَ شعراؤه (ذوو الآثار المنشورة) فقارب عددهم التسعين اسماً. وممّا يلفت أنّ للنّساء الشواعر, في قلب هذا الرقم, حيّزاً كبيراً. وهذه ظاهرة لا نشهد مثيلاً لها في أدب اللبنانيين باللغة العربية. ما زال يطرح نفسَه, إلى اليوم, مسألةً, وقضيّة لها مُناصرون ومُناهضون. وحجّة المناصرين, على الأغلب, هي أنّه شهادة من شهادات الثقافة, والانفتاح, وواسطة تعبير لا بُدّ منها لدى الذين يتقنون الفرنسية دون العربية. والحجّة الأخيرة يتمسّك بها شعراء هذا اللون أنفسهم. أمّا حِجَجُ المناهضين, على الأغلب, فَمَرَّةً ترتد إلى أسباب سياسية, ومرة ثانية تُطرح من زاوية إبداعية إذ لا يمكن المرء أن يتفوّق بغير لغته ولا جدوى له من التوجّه إلى غير بني قومه, ومرّة ثالثة تُعالج من منطلق الغيرة, لبنانياً, على اللغة العربية.

وبالمستطاع - تبسيطاً للموضوع - تصنيف الأدوار التي قطعها شعر اللبنانيين باللغة الفرنسية, بالصورة الآتية:

1 - مرحلة التفتّق (1874 - 1890): بدأت بظهور أوّل ديوان للبناني باللغة الفرنسية (صاحبه ميشال مسك), عام 1874, وتبلورت مع ديوان رائد لشكري غانم بعنوان: عواسج وأزاهر (Ronces et Fleurs) عام 1890.

2 - مرحلة الروّاد المناضلين (1890 - 1920) تميّزت بتعاضد المثّقفين والكتّاب اللبنانيين (فضلاً عن عرب آخرين) في فرنسا ضد العثمانيين, دفاعاً عن القضية العربية, ودعوةً إلى الاستقلال والتحرّر. في هذه المرحلة ارتفعت شعارات صادقة (بلاد العرب للعرب - نجيب عازوري) ونشأت جمعيات فاعلة (رابطة الوطن العربي عام 1905 - الرابطة العثمانية عام 1908, ومن أركانها: شكري غانم, خيراللّه خيراللّه, جورج سمنه, ألفرد سرسق, نجيب طراد, عبّاس بجاني, ندره مطران, شارل دبّاس, عبدالحميد الزهراوي, وسواهم) وعُقدت مؤتمرات مُؤثّرة منها المؤتمر العربي عام 1913 بزعامة عبد الحميد الزهراوي وشكري غانم.

3 - المرحلة اللبنانية (1920 - 1945), أي مرحلة (المجلة الفينيقية) التي أصدرها شارل قرم.

في موازاة تيّار (المجلّة الفينيقية), نَما تيّار آخر مستقل, غنائي النزعة, مستقبلي التوجّه الشعري.

ولعلّ فؤاد أبي زيد, من ألمع أسماء هذا التيار, لأنّه يُمهّد لمرحلة الحداثة الأولى.

4 - مرحلة الحداثة الأولى (1946 - 1960): يتصدّرها جورج شحادة صاحب (أشعار) poemes المجموعة عام 1951, وصاحب المسرحيات السبع العالمية المدى في هذه المرحلة انعتق الشعر من طقوس المناسبات والوطنيات والغنائيات المباشرة.

5 - مرحلة الحداثة الثانية (1960 - 1980): يبرز فيها اسم صلاح ستيتيّة (الماء المحفوظ البارد L-eau froide gardree 1973, مقطّعات: قصيدة Poeme: Fragments, 1978, مُنقلب الشجرة والصمت Inversion de larbre et du silence 1980). ويمثّلها بجدارة جوليان حرب (النيران الكاذبة Feux follets, 1966, حديث المدى Le dit de lespace, 1970).

ولا بُدّ من أن نذكر سعيد عقل, متميزاً في هذه المرحلة بديوانه (الذهب قصائد ) (1981), الذي يكمل خطّه المرسوم في شعره باللغة العربية.

وما من شك في أن الانحياز إلى الحداثة يتكشف عند غالبية شعراء, وشاعرات, هذه المرحلة.

6 - مرحلة الغَد (1980 وصاعداً): نكتفي, في هذه المرحلة, بذكر أسماء بعض شعرائها الذين قد يكونون نشروا جزءاً من نتاجهم في المرحلة السابقة, ولكنّهم لا يزالون الجيل الأكثر فتوّة (على الأغلب), الحامل مسئولية الشعر اللبناني باللغة الفرنسية, في مواجهة الأيام المقبلة.

من هؤلاء: إدوار عازوري, سابين فرَّا, شارلوت طوبيا.

القسم الثاني : الرواية

أثبتت الرواية حضورها منذ بدايات الإنتاج الأدبي

اللبناني باللغة الفرنسية. ولكنّها لم تتميز إلاّ مع فرج اللّه الحايك الذي ظهرت آثاره في فرنسا بين العامين 1940 و1968. وراحت الروايات تتكاثر بدءاً من العام 1975. قبل العام 1940 كان للرواية موقِع غير مُتسع, وصارت بين العامين 1940 و1975 لوناً أدبياً قائماً بذاته, يعالج موضوعات ذات نزعة إنسانية شموليّة مع محافظته على طابع خاص. وبعد العام 1975 صار الروائيون يستلهمون بصورة خاصّة الأحداث السياسية والحرب التي أدمت الوطن سحابة خمس عشرة سنة.

في مرحلة أولى حملت الروايات تواقيع كتّاب مسرحيين, أو مؤرّخين, أو شعراء, وعكست بشكل أساسي عالم الشرق. فشكري غانم, على سبيل التمثّل, أصدر عام 1908 رواية (دعد - Daad). وجورج سمنه أصدر عام 1911 (في موطن الشريف - Au pays du cherif), وخيراللّه خيراللّه أصدر (قيس - Kais) التي نهلت من قصّة مجنون ليلى. وجاك تابت وقّع رواية تاريخية هي (أليسا, أميرة صور ومؤسسة قرطاج Helissa, Princesse Tyrienne et fondatrice de Cartage), وفيها يغني الجذور الفينيقية لبلاده. وكتبت أفلين بسترس عام 1916 (يد الله - La main dallah), ثم عام 1938 (تحت العصا السحرية - Sous la baguette du coudrier), وفيها إحياء للريف اللبناني. وظهرت لجان أرقش سيرة روائية للأمير فخر الدين باسم (الأمير ذو الصليب l emir a la croix), وفي (سلمى وضيعتها Salma et son village), تُحيي أمي خير مناخ الجبل اللبناني أيضاً.

علامات بارزة

تطغى على أبطال أمين معلوف سمة رجال الفكر والعقل ذوي النزوع العالمي الذين يواجهون أزمات سياسية واجتماعية. ومن رواياته (ليون الأفريقي Leon LAfrican, ) (1966) و(سمرقند - Samarcande) (1988), و(حدائق الضوء La jardins de lumierd) (1991), و(القرن الأول ما بعد بياترس - Le premier sies Beatrice), و(صخرة طانيوس - Le rocher de Tanios) أشهر كتب أمين معلوف (جائزة غونكور عام 1993).

و(أساكل الشرق - Les echelles du Levant)... وأمين معلوف, عبر رواياته المتميزة, بات خبيراً في نقل ظواهر الحضارات المختلفة إلى الصنيع الروائي, وفي التوفيق بين عموميات التاريخ وخصوصيات المصادر الفردية, وبين الإقليمي والشمولي.

وهو علامة بارزة من علامات الأدب اللبناني باللغة الفرنسيّة.

 

 

غالب غانم