تشريح النزعة التدميرية إريك فروم عرض: أمير الغندور

تشريح النزعة التدميرية

تلقى جميع مؤلفات إريك فروم رواجاً كبيرًا لدى عاشقي الحرية ومنتقدي المظاهر المزيفة للحياة المعاصرة. فهو أحد الكتاب القلائل الذين يجمع جمهور القراء على تمتعهم بدرجة عالية من المصداقية والإخلاص في كل ما يقدمونه من مؤلفات.

على الرغم من أن نظريات القراءة الجديدة توصي بالتفرقة بين النص وكاتبه, مطلقة صيحتها, التي أثارت كثيراً من الجدل والانتباه, بموت المؤلف وسيادة النص وحده, إلا أنه ما زال يحلو لأغلب القراء أن يستدلوا من النص على كاتبه. فمثلاً يمكنك من قراءة نصوص فرويد أن تستدل على قدر كبير من التعالي والمداورة وعدم التواضع. ويمكنك من قراءة نصوص برتراند راسل أن تستشف تواضعه وبساطته وصراحته. ولذلك فلا غرو أن تجد كثيرًا من القراء يعزون إلى نصوص برتراند راسل مصداقية أكبر بكثير من تلك التي يعزونها إلى فرويد. فقراء راسل يعلمون بالضبط مقصده من نصوصه, أما قراء فرويد فيتحيرون ويختلفون في تفسير نصوصه.

إريك فروم هو واحد من المؤلفين الذين تعمدوا الوضوح والمباشرة وابتعدوا عن المداورة والغموض, سواء في أسلوب الكتابة أو في قوة الرؤية التي تطرحها كتاباته.

ويندر أن تجتمع هاتان السمتان لدى أي من كتاب القرن العشرين. فصحيح أن كثيرًا من كتابات سارتر مثلاً قد تميزت بالوضوح, إلا أن أغلب كتاباته الفلسفية جاءت غامضة على الطراز الألماني المعقد في بحثها في مشكلة الوجود والعدم. كذلك قد نصادف واحداً من أبسط وأوضح كتاب القرن العشرين, وهو ألبير كامو, لنجد أن وضوح أسلوبه وبساطته يخفيان بين طياتهما نظرة إمبريالية واستغلالية كامنة. فهو عندما يكتب عن الإنسان تتجلى لديه فكرة الحرية الإنسانية, ولكن ذلك ينقلب عندما يشرع في الكتابة عن موقف فرنسا من الجزائر - وهو ما كشفه لنا إدوارد سعيد بكل اقتدار في كتاب (الثقافة والإمبريالية).

فإذا كان لنا أن نصدر حكماً تعميمياً على أغلب كتاب القرن العشرين, فيمكننا أن نقول إنهم كانوا يعانون من قدر غير قليل من الانفصام الذهني. بمعني أنهم كانوا ينادون بالحرية الإنسانية ولكن كثيرًا من الوسائل التي اقترحوها كانت تؤدي إلى العبودية.

وقد يكون هذا طبيعياً, فقد تميزت هذه الفترة من التاريخ البشري بانقلابات جذرية. حيث شهدت نشوب أكبر حربين عالميتين وانتشرت فيها ثورات وحركات التحرر في الدول المستضعفة وانقلبت فيها دولتان عظميان من الرأسمالية إلى الفاشية, بينما انقلبت الثالثة من الإقطاعية إلى الاشتراكية. فليس من المستغرب أن نجد أغلب كتاب هذه الفترة متحيرين ومشوشي الرؤية, فيما يتعلق ببلورة نظريات وممارسات الحرية والعدل والإنسانية.

لكن هذه لم تكن حالة إريك فروم. وهو في هذا يتفوق على أغلب مفكري عصره.

من ألمانيا إلى أمريكا

ولد فروم في عام 1900, في مدينة فرانكفورت وافتتح عيادة خاصة للعلاج النفسي في عام 1926 وفي عام 1932 انتقل بعيادته إلى الولايات المتحدة. كتب فروم ما يزيد على عشرين كتابا, ولم يكن في أيها مدافعاً عن النظام الأمريكي أو السوفييتي أو حتى الأوربي, بل إنه لم يدافع عن أي نظام, وهو في هذا خالف أغلب كتاب عصره. بل إنه وهو اليهودي المولد رفض أن يدافع عن دولة إسرائيل ورأى فيها انحرافاً تاماً عن حقيقة اليهودية. وفي أحد مقالاته الأخيرة كتب يفسر هذا الموقف بأنه كان يرى فضيلة اليهود في كونهم مستضعفين ومشتتين في الأرض, لكنهم عندما شرعوا في بناء دولة لهم تحولوا من قبول الظلم المفروض عليهم من الآخر إلى فرض الظلم على الآخر. وكان هذا التحول مرفوضاً في الرؤية الواضحة لإريك فروم في رفض العنف والنزعة التدميرية.

وتوفي إريك فروم عام 1980 بعد حياة فكرية ونضالية حافلة.

منذ بداية الكتاب يحرص إريك فروم على توضيح المصطلحات التي يستخدمها. وكأنما حرص على إعداد القارئ لمزيد من الوضوح ولتجنب الخلط, الذي يسود في كثير من الكتابات الأخرى التي خاضت في نفس الموضوع.

فنجده يفرق بين العنف violence والعدوان aggression والتدمير destructiveness. ويقول إن كل المجتمعات البشرية تعرف العنف وتمارسه بأساليب مختلفة. فهناك مثلاً عنف الرجال ضد النساء, والكبار ضد الصغار. إلا أن هذا العنف لا يتحول إلى عدوان, فله مؤسساته الاجتماعية التي تنظمه وتحدده وتمنع تحوله إلى عدوان.

أما بالنسبة للعدوان, فنجد أنه ينتشر لدى نسبة أقل من المجتمعات البشرية. فالعدوان يكون موجهاً إلى الآخر, الذي ينتمي غالباً إلى جماعة مختلفة. والعدوان نوعان:

عدوان دفاعي, ويقصد به المقاومة التي تصدر عن جماعة لصد ودحر احتلال تفرضه عليها جماعة أخرى,

وعدوان هجومي, ويقصد به مبادرة جماعة إلى الهجوم على جماعة أخرى لاحتلال أرضها أو سلب ممتلكاتها والسيطرة عليها.

أما التدمير, فهو من أشد أنواع العدوان الهجومي تطرفاً. وهو لا يوجد إلا في نسبة قليلة نسبياً من المجتمعات والشخصيات البشرية. وفي نمط العدوان التدميري يكون هدف الجماعة هو قتل الآخر وتحويله إلى جثة, وليس مجرد استغلاله, كما في حالة العدوان. ثم ينطلق (فروم) إلى تشريح هذه النزعة التدميرية, ويتتبع صعودها وخسوفها لدى مختلف الجماعات البشرية, وكذلك يتناول تجلياتها في الدراسات الأكاديمية السابقة عليه.

الدراسات الأكاديمية عن النزعة التدميرية

يرى (فروم) أن مشكلة النزعة التدميرية بدأت تظهر في الدراسات الأكاديمية في بداية عشرينيات القرن السابق, أي مع نشوب الحرب العالمية الأولى. فشخصية أكاديمية كبيرة مثل (سيجموند فرويد), بعد أن ملأ كتاباته بالتركيز على غريزة الحب (الليبيدو), عاد ليراجع نظريته في العشرينيات ويؤكد أن غريزة الموت تقف على قدم المساواة مع غريزة الحب في سطوتها على نفسية الإنسان. وبهذا دفع بالموت والتدمير إلى مستوى الغريزة.

لم يتغير هذا الموقف إلا في ستينيات القرن الماضي, عندما أصبح السلاح النووي تهديداً مخيفاً للبشرية. فقد نشر الباحث كونراد لورنز عام 1966 كتابه الشهير (عن العدوان). تبعه كتاب ديزموند موريس (القرد العاري: بحث في السلوك الاجتماعي والنفسي للإنسان) عام 1967. كان كونراد لورنز وديزموند موريس باحثين مخضرمين في سلوك الحيوان. وكانت فكرتهما أن السلوك العدواني لدى البشر هو صورة معدلة مما درساه لدى الحيوان. وبهذا انتقلت دراسة العدوان من مجال الغريزة إلى مجال الغريزة-السلوك.

بعد ذلك كان من الطبيعي أن تنتقل دراسة النزعة التدميرية إلى مجال السلوك وحده مع ترسخ المذهب السلوكي behaviorism في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المذهب السلوكي ينتقل التركيز من المشاعر إلى السلوكيات. فهذا المذهب يرى أن المشاعر والعواطف والغرائز ليست ذات قيمة إن لم تتحول إلى سلوك. فلماذا نهدر الوقت والجهد في دراستها, بدلاً من دراسة السلوك وحده. كانت تلك هي أفكار ب. ف. سكينر, أكبر ممثلي المذهب السلوكي الأمريكي.

غريزي أم سلوكي?!

هل نحن مضطرون إما إلى تبني نظرية فرويد-لورنز أو نظرية سكينر?

يؤكد (فروم) أن كتابه الحالي يجيب عن هذا السؤال بالنفي. بل إنه محاولة لتصحيح وتجاوز الأخطاء التي اعتورت كلا المذهبين.

يرى (فروم) أن كلتا النظريتين وقعت في خطأ الخلط بين العنف والعدوان والتدمير. فصحيح أن هناك نوعًا من العنف يتشابه فيه الإنسان مع بقية الحيوانات والكائنات الحية, إلا أن هناك نوعاً آخر يتميز به الإنسان عن بقية هذه الكائنات.

فجميع أشكال عنف الحيوان وقسوته إنما تهدف إلى فرض السيطرة أو إلى إشباع الجوع, ولكنها لا تهدف إلى التدمير التخريبي.

فالكائن الوحيد القادر على إتيان عمليات عدوان تدمير الآخر هو الإنسان. وهي تعني ممارسة القتل والتعذيب لمتعة القتل والتعذيب. وهذه تكاد تختفي من عالم الحيوان كليةً. بل إن هذه النزعة تكاد تختفي من أغلب الحضارات البشرية البدائية.

تاريخ العنف

(إذا كانت دراسة التاريخ تبعث على اليأس, فإن دراسة ما قبل التاريخ تبعث على الأمل). هذا ما يؤكده (فروم). فمن دراسته لعديد من القبائل البدائية الموجودة في أستراليا والهند وأمريكا الشمالية, وجد أن النزعة التدميرية والتخريبية غائبة لدى كثيرين منهم. وهذا يثبت أن النزعة التخريبية ليست غريزية لدى كل القبائل والحضارات البشرية, وإنما ترتبط بشكل ومرحلة الحضارة التي يحيا في كنفها.

إن دراسة أشكال السلوك والغريزة الحيوانية والقبائل البشرية البدائية تثبت أن العنف ليس ملازماً للإنسان أو الحيوان ملازمة الغريزة. فالعنف غير كامن في غرائز الإنسان في كل مكان وزمان. فلا يظهر العنف, وبخاصة بنزعته التدميرية والتخريبية, إلا في ظروف زمانية وحضارية محددة. وبهذا يستند (فروم) إلى الأدلة الحاسمة الواردة من التاريخ ومن علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) ليدحض المذهب الغريزي.

ومن المتفق عليه بين علماء علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) أن مراحل تطور الجماعات البشرية بدأت بجمع الثمار المتوافرة في الطبيعة, ثم انتقلت إلى مرحلة الصيد, ثم تعلمت الزراعة ثم انتقلت إلى مرحلة الصناعة التي نعيشها حالياً. وكان تعقد المجتمع البشري مع كل يزداد تعقداً. فقد كانت البداية مع المرحلة الأمومية matriarchy التي تشبه مجتمعات النحل, حيث الأنثى الأم هي محور الأسرة والمجتمع, ودور الذكر يتلخص في مساعدة الأم على الإنجاب. ثم انتقلت المجتمعات البشرية إلى المرحلة الأبوية الذكورية patriarchy التي نعيشها حالياً.

يلاحظ (فروم) اختلافات وفروقات كثيرة بين كل هذه المراحل. فمثلاً يمكنك ملاحظة تعادل صورة الأم مع الأب في فنون الحضارة الفرعونية, والتي يرجح أن تكون قد شهدت بداية الانقلاب من المجتمع الأمومي إلى المجتمع الذكوري, بعد فترة من المساواة بينهما. كذلك تختلف أنماط العنف في المجتمعين بشكل جذري.

فالمجتمعات الأمومية بشكل عام ينخفض فيها مستوى العنف ويكاد يختفي منها نوع العدوان التدميري أو التخريبي تماماً, ومنها مجتمع الأسكيمو.

أما المجتمعات الأبوية فيتحول فيها العنف إلى التدمير وينتشر فيها التخريب والتعذيب والقتل لمتعة القتل, ومنها مجتمعا الأزتك والتروبرياند.

تراكم الثروة وتدمير النفس

من المعروف أن مجتمع النحل يقتل الذكور, حفاظاً على تراكمات العسل للملكة والشغيلة وحدهن. ومثل هذا قد يحدث في بعض المجتمعات البشرية التي تحرص على تراكم وتخزين الثروة وتخصيصها لفئات معينة دون فئات أخرى, وخاصة إذا ما كان إنتاجها يخضع لعملية مضنية ولاعتبارات الندرة, لا الوفرة, وفق المقياس العمري للفرد الواحد.

تتواكب مستويات العنف وأنواعه في المجتمعات البشرية مع عوامل كثيرة منها ندرة الثروة ونمط إنتاجها ونمط تراكمها وتخزينها. فمن المعروف أن حروب المجتمع القديم كانت تهدف إلى استعباد الشعوب المهزومة لدفعها إلى العمل في إنتاج الثروة للشعوب المنتصرة. وما زال هذا النمط سائداً في كثير من المجتمعات الحالية, ولكن تحت مسميات مختلفة.

لكن عندما تصل الحضارة إلى مرحلة من تراكم الثروة لا تحتاج معها إلى مزيد من القوة العاملة للعبيد, فإنها تتحول إلى تخزين الثروة والتصارع على توزيعها, بدلاً من إنتاجها وتنميتها. وتلك هي حالة الحضارة المعاصرة. وهنا ينتقل العنف إلى المراحل المتطرفة من التدمير والتخريب. فتهب جماعة لتقتل جماعة أخرى. وتجد أن تبريرات القتل لا تقتصر على التبريرات الاقتصادية وحدها, كما كان الأمر في المجتمعات البدائية الشرسة. بل تجد التبريرات مزيجاً من الاعتبارات السياسية والنفسية والاجتماعية والدينية والجغرافية والتاريخية, التي يطلقها مؤيدو الدمار.

وفي نهاية كتابه الذي يقارب 600 صفحة, يفرد (فروم) حوالي 170 صفحة لتحليل شخصية كل من ستالين وهملر وهتلر, ليختبر الفروض التي توصل إليها خلال بحثه السابق عن النزعة التدميرية. إلا أن السؤال الذي لا يجيب عنه (فروم) هو: هل لو حلت الوفرة محل الندرة في الحضارة البشرية القادمة, سينحسر العدوان التدميري ليصبح عدواناً دفاعياً وينحسر مرة أخرى ليتحول إلى عنف مؤسسي مقبول, حتى يختفي تماماً?

يبدو أن (فروم) في تركيزه على تشريح النزعة التدميرية كما هي موجودة, لم يرد أن يخوض في يوتوبيات عالم مأمول لم نصل إليه بعد. وهو في ذلك مخلص لمنهج بحثه في الكتاب.

 

إريك فروم 




 





إريك فروم