سؤال الهوية في الأدب الفرنكوفوني

سؤال الهوية في الأدب الفرنكوفوني

تزايدت في عالمنا المعاصر الأعمال الأدبية المكتوبة باللغة الفرنسية والإنجليزية والألمانية وغيرها, من قبل كتّاب عرب, وترجع هذه الظاهرة بجذورها إلى أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين, مع الاستعمار الغربي للبلاد العربية, وفرضه للغته وثقافته فيها.

في هذه المرحلة كان الهم المحوري للكتابة الفرنكوفونية الأدبية من قبل الكتّاب العرب, هو النضال ضد المستعمر وتحديث الوطن المحتل على المثال الغربي. في مرحلة ثانية, وبعد استقلال البلاد العربية, وعجزها عن كسب رهان التنمية والتحضر, أصبحت البلاد الغربية موطنا للهجرات العربية, واتخذ الأدب الفرنكوفوني فيها موضوعات جديدة أهمها الدفاع عن القضايا العربية لدى الجمهور الغربي, غير أن هاجس الهوية وتحديد الانتماء والبحث عن شرعية للوجود في إطار الثقافة الغربية كان مهيمنا على هذا الأدب.

ولا شك أن مشكلة الهوية تعبر عن نفسها في أعمال كل أديب, سواء كان كاتبا بالعربية أم بلغة أجنبية,وهي تحمل الكثير من خصائص وجوده المادية والثقافية, وللوقوف على تجليات أزمة الهوية في الأدب العربي المكتوب بالفرنسية, يفيدنا كثيراً مقارنته بالأدب العربي المكتوب بالعربية, والذي تتخذ فيه أزمة الهوية تجليات أخرى مرتبطة بشروط الوجود الخاصة بالمبدعين في الوطن العربي, ومن هنا جاء اختياري لعملين روائيين يعبران عن وجهين لأزمة الهوية العربية.

هما: رواية (ليون الإفريقي) المكتوبة بالفرنسية للكاتب أمين معلوف. ورواية (ثلاثية غرناطة) المكتوبة بالعربية للكاتبة رضوى عاشور.

ولا شك أن سقوط الأندلس العربية على يد القشتاليين الكاثوليك كان حدثا تاريخيا مركزيا في العصور الوسطى, تشكلت بموجبه خريطة العالم الحديث, وامتدت له جذور في اللاشعور الجمعي لدى أبناء الثقافتين العربية والغربية, مما حفز اهتمام العديد من الدراسات التاريخية, وأثار تعدد الرؤى الأدبية لدى المبدعين الشرقيين والغربيين على السواء, فاتسع نتاجهم الأدبي حول هذا الموضوع ليشمل الشعر والقص.

في هذه الأعمال الأدبية, لم يكن الخيال مضادا للتاريخ, لأن هذا يقتضي أن يكون موقف أحدهما من الحقيقة مختلفا, أي أن يكون الخيال كاذبا والتاريخ صادقا, أو أن يكون الخيال زعما والتاريخ شاهدا.وبعض التأمل لعلاقة كل من الخيال والتاريخ بالحقيقة يستبصر ما بينهما من قرابة واختلاف. قرابة ترجع إلى الجذور, حيث كان التاريخ وليد الأدب. فاختلطت الأسطورة بتاريخ نشأة الكون, وامتزجت الملحمة بتاريخ الأوطان والأبطال والملوك, وتضافرت العجائبية بسير الناس الشعبية, والتبس الشعر بالتعبير عن تاريخ النفس البشرية. فهل كان الخيال حليف التاريخ في عصور ولّت? أكان نصيب الأساطير والملاحم والسير من الحقائق التاريخية صفرا? أم أن الأشكال الأدبية القديمة كانت تحكي بالخيال تاريخا لتنفتح به على الممكن? وهل تحددت تماما الخطوط الفاصلة ما بين الخيال والتاريخ في العصر الحديث? وهل أصبح التاريخ الحديث الموثق تخليا تاما عن شطحات الخيال ومناوشاته وعن تقنيات الفن من مجاز وسرد? أم أن الوثيقة التاريخية لم تكن سوى محفز لخيال المؤرخين الذين يتصورون به الأحداث الماضية في صورتها الواقعة? ومن ثم تباينت رؤاهم وتفسيراتهم التاريخية لهذه الأحداث? قد تحمل هذه الأسئلة شيئا من إجاباتها, وقد تشي بأن المؤرخ الحديث لم يستطع الانفلات تماما من قرابة متصلة بالأديب. غير أن المؤرخ في ترجيحه لسيناريو من سيناريوهات وقوع الأحداث يزعم أن ما يسرده هو الحقيقة, في حين أن الأديب في عهده مع القارئ يقوم نتاجه الأدبي على أنه محض زعم. وتاريخ الوقائع ـ الذي يتقصاه المؤرخ ويحبك ترتيبه وفق تصوراته ـ يتغافل عن روح التاريخ التي يشخصها الأديب عبر تقنياته الخيالية وإيحاءات كلماته البلاغية, وعلى هذا, فإن لقارئ التاريخ أن يتحقق من مصداقية ما يقرأ بالرجوع إلى الوثائق أو أن يعارضه عند عثوره على أدلة جديدة, في حين أن على قارئ الأدب أن ينصت لما يتركه النص الأدبي لديه من صدق الشعور وانطباع جمالي وانفتاح على الممكن.

فأي معنى لتاريخ سقوط الأندلس العربية أوحت به (ليون الإفريقي) الفرنسية و(ثلاثية غرناطة) العربية? وأي هوية تلك التي شكلها الخيال الأدبي في النص الفرنكوفوني والنص العربي بما يتجاوز مجرد الوثيقة التاريخية للصراع بين الشرق والغرب في هذه الحقبة? هذا ما سنحاول الإجابة عنه في السطور التالية.

التاريخ بين (ثلاثية غرناطة) و(ليون)

على كثرة ما كتب النقاد عن هذين العملين الأدبيين فإنهم لم يلتفتوا إلى معنى التاريخ الموحي به في البطولة الخفية التي أسندها كلا الكاتبين لمقام الكتاب العربي في رواياتهما التاريخية, وفي تقديري أن الوقوف على رمزية هذه البطولة تصح كمنطلق للمقارنة بين الروايتين بما يضيئهما إضاءة جديدة, بنفس القدر الذي قد تتكشف فيه ملامح الكتابة العربية والكتابة الفرنكوفونية, بعرض الواحدة منهما على الأخرى.

لقد امتد الوجود العربي في الأندلس زهاء العشرة قرون. غير أن رواية ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور تقتصر على ما بين عامي (1491 ـ 1609) أي ما بين عامي توقيع معاهدة تسليم غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس إلى فرديناند وإيزابيلا ملكي قشتالة, وحتى عام 1609 الذي صدر فيه القرار النهائي بطرد العرب المسلمين من إسبانيا. تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء: غرناطة, مريمة, الرحيل, لتحكي على مدى 118 عاما قصة ثلاثة أجيال من أسرة أبي جعفر الوراق, في مواجهة كارثة السقوط العربي في الأندلس, والبطولة التاريخية مسندة هنا إلى مختلف أعضاء هذه الأسرة العادية من العرب الموريسيكيين. وهي بطولة جماعية تتواصل عبر خيط المقاومة لطغيان القشتاليين, وعبر دراما المعاناة الدامية للقمع والحرق واستبدال لسان بلسان ودين بدين وتراث بتراث وهوية بهوية.

تتوالى الأحداث في الرواية عبر هذه المقاومة الجماعية في تواصلها جيلا بعد جيل, أو في تنوعها بتنوع أفراد الأسرة ما بين المقاومة بالمعرفة والمقاومة المسلحة والمقاومة السرية والمهادنة والتحايل أو التكيف مع الوضع المستجد, وذلك في مواجهة القشتاليين الذين خالفوا معاهدتهم مع آخر ملوك بني الأحمر في الأندلس, فدكوا المدن بالمدافع اللمباردية وذبحوا أهلها وحولوا مساجدهم إلى كنائس, وأجبروا الناس على التنصر, وإغلاق الحمامات. والمدارس, وتغيير أسمائهم العربية إلى أسماء لاتينية, وعلى عدم التحدث بالعربية أو إقامة أي شعائر دينية.

ومثل هذه المقاومة الجماعية المتنوعة والمركبة والمستطيلة جيلا بعد جيل تستبطن بدورها وعلى مستوى آخر بطولة خفية منسوبة للكتاب العربي كتجسيد رمزي لشخصية الحضارة العربية السليبة.

فالحبكة المفجرة للصراع التاريخي في الرواية حبكة كثيفة الدلالة يمتزج فيها الدفاع عن الوجود على الأرض بملحمة الحفاظ على الكتاب, بكل ما توحي به رمزية هذا الحفظ من قيم المعرفة والخير والعدل. على هذا النحو لم يعد الصراع التاريخي بين العربي والقشتاليين صراعا ماديا على الأرض وبين أديان وأفراد ومصالح بل صراعا معرفيا وإنسانيا في الأساس.

فالجد أبو جعفر الوراق الذي يعمل بتجليد الكتب ونسخ عناوينها وحفظها من البلى أو الضياع يأتينا في أول الرواية وهو ينهض ـ في موازاة استعارية بين حفظ الكتاب واحتضان الإنسان ـ لستر المرأة العارية التي رآها تجري هائمة على وجهها إلى النهر.

وبعد قرار ترحيل المسلمين ومصادرة أراضيهم ودورهم واستبقاء صغارهم ليوزعوا على الأسر الإسبانية, لم يَجِدْ (علي) الحفيد الأخير لأسرة أبي جعفر الوراق من ملاذ سوى محاولة العودة إلى قبر (مريمة) حيث كنز الكتب المطمورة, وعلى هذا النحو تنتهي الرواية:

هذه النهاية التي قد تتوعد (علي) بطريقٍ إلى الكتاب محفوف بالمخاطر, أو قد تَعِدُه بمطالعة جديدة للكتاب, وبحث جسور متسائل عنه, واستعادة متجاوزة له, هي نهاية مفتوحة على ممكن الكتاب بكل رحابته الرمزية. فالكتب المحفوظة في الصندوق تشمل التراث المعرفي العربي, كما تشمل الذاكرة الجماعية, وكل ما ضمته من خبرات الكفاح والسقوط. وهكذا تمد الرواية (ثلاثية غرناطة) بأسباب لها تصلها بكل هذا التراث الكتابي, بالتاريخ, وبالخيال المبدع لروح حركة البشر, روحا لا يفلح التوثيق التاريخي في إجلائها, وذلك حين نتساءل ـ نحن القراء مع (علي) ـ عن (معنى الحكاية) و(التاريخ) الذي صنعته الأحلام والدماء والأقلام, وما زالت تستقبله آمال التحدي والاستنطاق. أما الكتاب العربي عند أمين معلوف فله مصير آخر.

تمتد أحداث الرواية الفرنكوفونية (ليون الإفريقي) بين عامي 1488 ـ 1526 وهي مقسمة إلى أربعة أجزاء: كتاب غرناطة, كتاب فاس, كتاب القاهرة, كتاب روما. لقد اتبعت رضوى عاشور في أقسام الثلاثية مساراً خطياً هابطاً للتاريخ ما بين غرناطة, ومريمة (رمز المقاومة), والرحيل. لكن تساؤل (علي) وعودته يصعد بالخط من جديد أو يعد بصعوده, في حين ركزت أقسام رواية (ليون الإفريقي) على الاتساع الأفقي للأماكن التي تشملها حياة البطل. فالزمن التاريخي هنا لا يقاس بتواصل الأجيال على مدى أكثر من مائة عام على أرض غرناطة, وإنما بمدى عمر البطل الفرد حسن الوزان من مولده وحتى رحيله عن روما, وبمدى ما رحل إليه من أماكن طيلة أربعين عاما اختتمها بإنهائه لكتابه (وصف إفريقيا). البطولة هنا ليست من نصيب الجماعة وميراثها الكتابي, وإنما هي حق الفرد الذي يتمتع بقدرات عقلية متميزة وخبرات متشعبة يلملم تعددها (كتاب). والأحداث لا يحركها خيط المقاومة, وإنما دفع المغامرة والمبادرة من قبل شخصية من الصفوة, لا من بسطاء الناس كما هو الحال في (ثلاثية غرناطة), ولا يمكن لهذه الشخصية أن تكون مجهولة في التاريخ, مثل أبي جعفر الوراق وأسرته, التي قد تعادل في مقاومتها آلاف الأسر العربية التي قادت في هذه الحقبة ملحمة الحياة والصراع دون أن تحظى من التاريخ بإشادة أو تخليد ذكر.

فالبطل الذي نحن هنا بإزاء بطولة مفردة لكتاب مفرد, لا بطولة جماعية لتراث كتابي مترامي الأطراف كما هو الحال في ثلاثية غرناطة, لكن هذا الكتاب المفرد (وصف إفريقيا) يتسع ليصف مختلف البلدان والحضارات في القرنين الخامس والسادس عشر, والرواية الفنية (ليون الإفريقي) تختلف عن النص التاريخي الواقعي (وصف إفريقيا) لحسن الوزان في ملامح أساسية, أولها أن الرواية تحكي قصة حسن الوزان, أسرته وعلاقاته المتعددة بتعدد أحلامه, وثانيها أنها لا تقتصر على وصف إفريقيا, وإنما تضيف إلينا كتابا عن روما وثالثها أنها لا تكتفي بوصف للمشاهد وإنما تذكيها بخيال درامي خصب.. وبذلك تكشف لنا الرواية عن أحوال الشعوب وعاداتها وحياتها السياسية والاقتصادية في الشرق والغرب معا. وينجح أمين معلوف في تحويل (الوصف) كخطاب خاص بأدب الرحلة في المخطوط القديم, إلى دراما فنية تكشف عن صراع الحضارات والأديان والطبقات في هذه الحقبة, معريا النفاق والسفه والفساد لدى الحكام ورجال الدين وأصحاب المال في كل من غرناطة وروما, ومنقبا عن المزايا الإنسانية في الحضارتين في آن. لقد ربطت ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور بين تدهور الحضارة العربية والغزو القشتالي للأندلس, أما أمين معلوف فكان حريصا على إبراز السلبيات والإيجابيات التي تعتمل في كل من الحضارة العربية في غرناطة والغربية في روما من داخلها, وما شابها من تعايش للأديان أو تصارع, مما أضفى على نصه حيويته الواقعية.

لكن مصير الكتب العربية الموزع بين المصادرة والحرق والدفن في الصناديق, ربما يتغير مع عودة (علي) المنتظرة في (ثلاثية غرناطة), أما مصير الكتاب العربي الذي حفظته عبقرية حسن الوزان أو ليون يوحنا في نتاج مفرد, فيئول في لغته الإيطالية إلى ما تشرق به شمس النهضة الأوربية الصاعدة. يحمل كتاب ليون الإفريقي رمزية المساهمة العربية في النهضة الغربية حقا, ولكنه يبشر ويشهد على واقع انتقال المعرفة إلى أفق جديد على أرض أخرى. وهذا الكتاب بالنسبة لصاحبه هو نهاية المطاف به يتمم بطولة الرواية, وينهي تاريخه. لقد بدت (عودة) علي المرتقبة إلى غرناطة حاملة لبذور التأمل الشاق, متخذة من الموت (قبر مريمة) علامة عندها يبدأ موعد جديد مع الحياة, في حين أن عودة ليون الإفريقي إلى تونس لم تحمل أية أمان في مواصلة مهمة أو إتمام رسالة بين أهله وعشيرته, اللهم إلا الاطمئنان للقاء الموت بعد أن توج حياة قاسية بإنجازه لكتابه. وبنهاية عمله المكتوب بالإيطالية تغلق الرواية.

إن البطل المطلق الذي يطالعنا في مبتدأ الرواية, يبدو لنا شيئا فشيئا ميتافيزيقيا متعاليا على معنى التمرد الإنساني الواقعي ضد الظلم وضد اضطهاد الأديان وحروب الدول بعضها لبعض. هذه الميتافيزيقيا سرعان ما تتساقط عند النهاية التي جاءتنا ولم يبق من حسن الوزان إلا ليون يوحنا, ولا من زوجاته: فاطمة التي تزوجها في فاس, والأميرة الجركسية نور التي تزوجها في القاهرة, إلا زوجته وحبيبته مادالينا التي ترجع أصولها إلى عائلة يهودية طردت من الحجاز واستقرت بالمغرب حتى طردت منها, فرحلت إلى روما حيث تم تنصيرها, ولم يبق له أيضا من وصل إلا ابنه منها الذي أسماه جوسب أو يوسف, متمما حياته بكتاب كتبه بالإيطالية من أجل بابا روما, كل هذه المحددات للهوية النهائية للبطل تنقض دعوى البطل المطلق الذي تنتصر له افتتاحية الرواية.إنه الحصاد الأخير لرحلة البطل الفرد, حصاد يكسبه الرضا والاطمئنان وهو يعبر عن ميل له بعض الكتاب العرب المقيمين في البلدان الأوربية لدى تبني الأفكار النمطية السائدة في ثقافة هذه البلدان بحثا عن اندماج بها واعتراف بمكانتهم الأدبية, وبهوية يرتضيها لهم القارئ.

 

منى طلبة