دروس الثورات وحصاد الأزمنة: د. سليمان إبراهيم العسكري

دروس الثورات وحصاد الأزمنة: د. سليمان إبراهيم العسكري

بعد أيام في الخامس من يوليو، يحتفل الجزائريون بذكرى مرور نصف قرن على نجاح ثورتهم ضد الاحتلال الفرنسي، وإعلان استقلال جمهوريتهم، وبعد أسابيع أخرى، في هذا الشهر نفسه، تمر الذكرى الستون لقيام ثورة 23 يوليو في مصر.

في زمانيهما، كانت كلتا الثورتين وطنيتين تقدميتين، أججتا المشاعر القومية، واستدعت حولهما ثورات عربية وعالمية أخرى، من أجل التحرر الوطني، وبناء الدولة.

اليوم يشهد العالم تيارًا جديدًا من الثورات العربية، يقف فيه المواطن العربي بمواجهة النظام في دولته، فلم يعد الصراع ضد قوى أجنبية تستغل مقدرات الأوطان، بل أصبح صراعًا لمناهضة أنظمة فاسدة تستنزف تلك الثروات لمصلحة فئة قليلة، تقف عند رأس الهرم، تاركة الفتات لباقي الفئات. فما هو حصاد تلك السنوات، وماذا نتعلم من دروس هذه الثورات؟

  • المتابع للمشهد يجب ألا يغفل أن هناك إيجابيات صادفت تلك الثورات الجديدة، ومنها زيادة الوعي الشعبي، مما جعل الملايين تخرج إلى ميادينها العربية ثائرة، وتتجه إلى صناديق الاقتراع منتخبة.
  • علينا أن نقوم بثورة جديدة، ليست بالبندقية، ولكن بالعلم، ثورة لا تستخدم القنابل، ولكنها تستفيد بالعقل وتدين بقيمة العمل. هذه هي الثورة الحقيقية التي تصنع بسلميتها سلامها.
  • يجب ألا تتحول الدولة إلى التمييز الديني أو الطائفي أو المذهبي حين تصوغ سنن حياتها، فهذا التقسيم غير المدني من شأنه تقويض أساس النهضة التي تقوم على المساواة بين جميع أفراد المجتمعات في الحقوق والواجبات.
  • الثورات التي قامت جاءت على إيقاع التغيير الذي طال المجتمع، ليس فقط في أفكاره، وإنما في أدواته، وأي تغيير جديد عليه أن يطال تلك الأدوات وأن يتعامل معها بجدية، وأن يستخدمها على النحو الأفضل الذي يحقق مبتغى الشعوب العربية في الحياة الكريمة، والعدالة، والكرامة، والحرية.

في مصر، استدعت الحرب الخاسرة للعرب في فلسطين سنة 1948، تأسيس تنظيم الضباط الأحرار في مصر، ممن ساءتهم مؤامرة الملكية ضد الجيش، في قضية الأسلحة الفاسدة. ثم قاد هؤلاء الضباط، حركتهم - التي سميت لاحقا بثورة 1952 - لإجبار الملك على التنازل عن العرش لولي عهده الأمير أحمد فؤاد ومغادرة البلاد في 26 يوليو 1952، لتُلغى الملكية لاحقا وتعلن الجمهورية في الثامن عشر من يونيو 1953.

وقد حددت الثورة المصرية أهدافها بالقضاء على الإقطاع، وإنهاء الاستعمار، وإفلات سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وبناء جيش وطني قوي، وإحياء عدالة اجتماعية.

وفي الجزائر، وبعد أكثر من سبع سنوات ونصف من الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي الذي احتل البلاد منذ سنة 1830 تم الإعلان في الخامس من يوليو 1962 عن استقلال البلاد بعد نضال شرس، راح ضحيته مليون شهيد. وهكذا، وفي اليوم نفسه الذي شهد التراب الجزائري الاحتلال قبل أكثر من 130 عامًا، أعلن الجنرال ديجول في التلفزيون للشعب الفرنسي نتيجة استفتاء تقرير المصير للشعب الجزائري ليعود للجزائر استقلالها السليب.

وتلخصت أهداف ثورة التحرير الجزائرية في إقامة الدولة الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية، واحترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني، والتطهير السياسي بإعادة الحركة الوطنية إلى نهجها الحقيقي والقضاء على جميع مخلفات الفساد وروح الإصلاح التي كانت عاملاً مهمًا في التخلف، وتجميع وتنظيم جميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري لتصفية النظام الاستعماري، وتدويل القضية الجزائرية، وتحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي.

والحقيقة أن أهداف الثورتين ـ إذا حللنا خطوطهما العريضة ـ تتفق مع أهداف كل الثورات في العالم، - سابقة ولاحقة - حيث تنشأ الثورات ضد الظلم الاجتماعي، والاحتكار الاقتصادي، والتمييز الطبقي، وسوء الاستغلال، وتنزع لمحاربة التخلف، والجهل، والفقر.

والسؤال هو، لماذا فشلت الثورة الأولى في مصر بعد 60 عامًا من قيامها، بتحقيق أهدافها، وهي التي بدأت بقوة، وألهمت التغيير في المنطقة، قبل أن تتهالك مما استدعى قيام ثورة 25 يناير 2011؟ والأسئلة تتتابع حول فشل الحكومات الأخرى في تونس واليمن وسورية في الحفاظ على مشروع الدولة بعد الاستقلال. إنها الأسئلة التي تعيدنا للمربع الأول في مناقشة حجم التغيير الذي أصاب المشهد الديموجرافي، حيث تغيرت تركيبة المجتمع، وتبدلت ثقافته، واشتعلت صراعات جديدة، ودخلت قوى لاعبة مغايرة، خاصة في نسيج الدول الجديدة التي أسست حكومات وبرلمانات إسلامية خلال العامين الأخيرين، مما يعني أننا أمام أهداف جديدة لا يصلح معها إعادة إنتاج الدولة، بعد أن سيطر الخطاب الديني على الشارع العربي، عبر ديمقراطية الانتخاب.

إن المتابع للمشهد يجب ألا يغفل أن هناك إيجابيات صادفت تلك الثورات الجديدة، وهو زيادة الوعي الشعبي، مما جعل الملايين تخرج إلى ميادينها العربية ثائرة، وتتجه إلى صناديق الاقتراع منتخبة، مؤمنة بقيمة أصواتها في العملية الديمقراطية.

ثورات لاستعادة الحقوق السليبة

هذه الملايين التي أيدت الثورة - في الميدان وعند الاقتراع - هي التي أعادت للثورات الأولى حقوقها السليبة، فقد اعتبر المؤرخون أن ثورة يوليو المصرية دشنت العصر الذهبي للطبقة العاملة المطحونة التي عانت من الظلم وفقدان مبدأ العدالة الاجتماعية.

وقد بدا ذلك واضحًا حين اتجه صناعها إلى إصدار قانون الملكية يوم 9 سبتمبر 1952 للقضاء على الإقطاع، وتحرير الفلاح بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وتأميم التجارة والصناعة التي استأثر بها الأجانب، وإلغاء الطبقات بين الشعب المصري ليصبح الفقراء قضاة ويكون منهم أساتذة جامعة وسفراء ووزراء وأطباء ومحامون وتغيرت البنية الاجتماعية للمجتمع المصري، فضلا عن القضاء على السيطرة الرأسمالية في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي، وما صاحب ذلك من تأميم لقناة السويس، وبناء السد العالي، وتشييد صناعات وطنية.

ولم يغب البعد الثقافي عن الثورات العربية الأولى، فقد أنشئت وزارات وهيئات ثقافة تحقق توزيعا ديمقراطيا للثقافة وتعوض مناطق طال حرمانها من ثمرات الإبداع الذي احتكرته مدينة القاهرة وهو ما يعد من أهم وأبرز إنجازاتها الثقافية، فضلا عن إنشاء أكاديمية تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والباليه والأوبرا والموسيقى والفنون الشعبية.

وتخطى تأثير يوليو 1952 خريطة مصر الداخلية فحشدت الطاقات العربية لمصلحة حركات التحرر الوطني، سواء عبر تجارب وحدوية، أو من خلال دعم استعادة استقلال الدول العربية، ومساندة الشعوب ضد المحتلين.

لكن ما قامت من أجله الثورات العربية الأولى بدأ يتآكل بفعل قوى العولمة، وكاد أن يتفتت تماما تحت وطأة سيطرة الاقتصاد العالمي للشركات عابرة القارات على مقدرات الأسواق المحلية، وتهالك بسبب اتجاه فئة من رجال الأعمال الجدد إلى الترويج لاستثمار ريعي سريع الربح، عوضا عن استثمار إنتاجي، وهكذا دارت عجلة الاستيراد لتوقف حركة التصدير، أو تعرقلها، وصعدت - مرة أخرى - حركة التمييز الطبقي، بدءا من التعليم وصولا إلى سوق العمل.

وقد شهدت البلدان العربية، بعد ثورات الاستقلال الأولى، حروبا أهلية طاحنة، استمرت عقودًا طويلة، في لبنان واليمن والسودان والجزائر والصومال، ولا تزال تدور الرحى تدعو لمزيد من التفتت وتقويض السلام والأمن الاجتماعيين، والتدمير الاقتصادي، مما يجعلنا نؤكد أن تلك الحروب كانت بمنزلة نقاط عجز في جسد الإنسان العربي، أدت به للتخلف عن ركب العالم المتحضر.

ثورات العلم والعقل

إن علينا أن نقوم بثورة جديدة، ليست بالبندقية، ولكن بالعلم، ثورة لا تستخدم القنابل، ولكنها تستفيد بالعقل وتدين بقيمة العمل. هذه هي الثورة الحقيقية التي تصنع بسلميتها سلامها.

إن إعادة بناء الدولة يجب أن ينظر إليها ضمن أفق أرحب، تعوِّل على الأمور التالية:

- الأولوية لحق الشعوب، بدءا من صياغة الدساتير، وسن القوانين، وصولا إلى توزيع الثروات، وصياغة الهياكل المنظمة لشئون الحياة.

- يجب ألا تتحول الدولة إلى التمييز الديني أو الطائفي أو المذهبي حين تصوغ سنن حياتها، فهذا التقسيم غير المدني من شأنه تقويض أساس النهضة التي تقوم على المساواة بين جميع أفراد المجتمعات في الحقوق والواجبات.

- إعلاء صوت المؤسسة بقيمها وقوانينها العادلة على صوت الفرد بديكتاتوريته وظلمه، فالأفراد زائلون، والأنظمة الجديرة بالبقاء هي التي تقوم على أسس قانونية، لا يكون لفرد فيها حقوق أكثر من سواه، يستثنى بها بسبب أي تمييز عنصري.

- إعطاء الأولوية في الخطط التنموية للتعليم، فقد قامت النهضة الأولى في مصر - على سبيل المثال - بفضل البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي باشا إلى أوربا عام 1818 وضمت أربعين طالبًا، عادوا بأفكار نهضوية أدخلت مصر إلى عصر جديد، فأقيمت المدارس العصرية وتأسست مطبعة بولاق الشهيرة عام 1821، التي نشرت الكتب العربية والتركية والفارسية بالإضافة إلى تلك المترجمة عن الفرنسية والإنجليزية، فضلا عن إعادة تخطيط المدن، وإقامة الصناعات الكبرى.

- الجناح الآخر للتنمية هو الاقتصاد، وما الثورات التي قامت إلا ثورات على البطالة، والاحتكار، وإغراق الأسواق بالبضائع الأجنبية دون السماح بتوفير بيئة ملائمة لقيام صناعات وطنية، ودون دعم لصغار المستثمرين الوطنيين، الذين يقفون أمام جبروت مستثمري ثقافة الاستيراد، والاستثمار الريعي. وأرى أن أفضل ما يمكن أن يحيي الإغناء الاقتصادي هو في الاستفادة من النظامين الرأسمالي والاشتراكي في أنظمة التأمين، وإشراك العمال في ملكية وأرباح مصانعهم التي يعملون بها، وإنشاء التعاونيات التي تقدم الدعم لمحدودي الدخل.

الانفتاح على العالم

وإذا كانت الأمور السابقة تتناول وتعالج المسائل الداخلية والقضايا الوطنية، فإن الأمر الأهم، والذي لا ينفصل عن التأثير في الداخل أبدًا، هو قدرة هذه الثورات الجديدة في الانفتاح على العالم.

إن الانغلاق هو الوجه الثاني لعملة التخلف، ولا توجد قوة سياسية واقتصادية ومجتمعية تستطيع أن «تحبس» شعوبها من التأثير والتأثر بما يحدث خارج حدودها الجغرافية والسياسية، وما حدث في ثورات الربيع العربي لهو البرهان الأكبر على تلك القدرة الهائلة التي دفعت بالتغيير من فضاء الإنترنت والكون الافتراضي للشبكة العنكبوتية ليكون فاعلا على أرض الواقع.

لا يعني الانفتاح على العالم الاكتفاء بدور المستهلك، بل يجب دراسة إمكان الشراكات المؤسسة على قيم تخدم كلا الطرفين، شراكة تؤسس لتغيير يستفيد المواطن بأرباحه، مثلما يشارك في نجاحه.

يعني الانفتاح على العالم - كذلك - دراسة التجارب المهمة والمماثلة لبيئاتنا العربية المحافظة، طبقا لاختيارات معظم أصوات الاقتراع الجديدة. والبداية مع تجارب التعليم المتقدمة فهي الأولى بالدراسة والتدبر، لأن هذا المجال هو اليد الأولى التي ترفعنا عاليا إلى مصاف الدول التي تُعمل العقل، وتنمي القدرات الفكرية، وتبجل العلم، وتستخدم أدواته للتقدم. كما يعني الانفتاح على العالم - بالمثل - أن نرى التجارب الديمقراطية في الحكم الرشيد، وكيف نظمت العلاقات المتشابكة بين أطيافها، حيث يندر اليوم في الألفية الثالثة أن نجد بلدًا قوامه عرق واحد، ولسان وحيد، ودين موحد، ولذلك استنت الديمقراطية شرائع تنظم وقوانين تؤسس للحقوق والواجبات، وإعلاء مبدأ المعاملة بالمثل.

لكن الانفتاح على العالم يتجلى في صورته الأكبر حين نتناول مسألة الحوار مع الآخر، الذي أصبح شريكا في قرية كونية نسكنها معًا.

في بلداننا العربية سنجد أن ذلك «الآخر» هو الزائر لبلادنا سائحا أو القادم إليها مستكشفًا أو المقيم بها خبيرًا أو الطامح فيها مستثمرًا أو العامل بها موظفا ومدرسا ومهندسا وطبيبا، مثلما سنجدنا نمثل الطرف «الآخر» حين نزور بلادًا ندرس بمعاهدها وجامعاتها التعليمية، أو نتاجر مع مؤسساتها وشركاتها التجارية، أو نتعامل مع منظماتها الحكومية والمدنية.

هذا الاحتكاك المباشر يتطلب معالجة بناءة تقوم على احترام الآخر، دون مساس بالكرامة الوطنية، أو جرح العقائد السماوية أو إهانة القيم والتقاليد الشعبية والعرفية.

إن حوارنا مع الآخر لم يعد يتطلب ذلك الحضور المادي والجسدي والجغرافي، بل ساهمت التكنولوجيا في أن يمتد هذا الحوار إلى فضاء الإنترنت، حيث تربط الشبكة بين العالم، وتتدفق البيانات كل ثانية، حاملة المعلومات المتجددة، والحوارات المتعددة. وإذا كانت الصين والهند أكبر دولتين على الأرض، فإن بينهما دولة (فيسبوك) التي يبلغ عدد سكانها الافتراضيين أكثر من 900 مليون شخص، ينتمون إليها، ويتعاملون يوميا معها، ويحلمون معا، ولعل تلك الثورات العصرية قد اشتعلت شرارتها في هذه الدولة، مترامية الأطراف، بفضل ما تمتلكه من آليات وتقنيات تجعل من الفكرة الواحدة المدونة بقلم شخص ما في البرازيل، يرد عليها آخر في مصر، ويعلق عليها ثالث في الولايات المتحدة، أو أوربا، ويشير إليها بتعليق أو موافقة أو اعتراض طرف رابع في إحدى الدول الآسيوية.

الثورات الأولى التي كانت تتم بتخطيط سري، وكتمان بين قلة تقوم على مخطط ما، أصبحت في علم الغيب وخزانة التاريخ، الآن تقوم الثورات بدعوة على الإنترنت، وتغذي صفحاتها الثورية مشاهد مصورة آنية تلاحق لحظة بلحظة ما يحدث، بشكل يؤجج الشارع الافتراضي، ويدفع شركاءه للنزول إلى الشارع الواقعي، وهو ما حدث في تلك الثورات الجديدة.

الخلاصة هي أن الثورات التي قامت، إنما جاءت على إيقاع التغيير الذي طال المجتمع، ليس فقط في أفكاره، وإنما في أدواته، وأي تغيير جديد عليه أن يطال تلك الأدوات وأن يتعامل معها بجدية، وأن يستخدمها على النحو الأفضل الذي يحقق مبتغى الشعوب العربية، في الحياة الكريمة، والعدالة، والكرامة، والحرية. وهي أمور تحققها الدولة المدنية القائمة على مواثيق حقوق الإنسان، وقوانين العدل والمساواة، المستلهمة من الشرائع السماوية التي نادت بالمساواة بين البشر.

 

سليمان إبراهيم العسكري