الثورة في الشئون الاستراتيجية

الثورة في الشئون الاستراتيجية

المؤلف: لورنس فريدمان

لقد دفعت تأثيرات وعواقب حرب الخليج الثانية العالم ليعيد حساباته على صعيد الشئون العسكرية, فالتغيرات الكبرى والتطورات الحديثة والمفاجآت في إدارة الحروب بحد ذاتها كانت ثورة حقيقية في الشئون العسكرية, وهي التي دفعت أحد جنرالات الهند ليقول: الدرس المستفاد من حرب الخليج الثانية هو عدم دخول حرب ضد الولايات المتحدة دون أسلحة نووية.

صدر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في سلسلة (دراسات عالمية) دراسة بعنوان (الثورة في الشئون العسكرية) لـ(لورنس فريدمان) وهي دراسة تستحق التوقف عندها طويلاً ومراجعة كل الحسابات في الأمور العسكرية والتقنية والتكنولوجية الصناعية ليعرف العرب أين موقعهم في الخريطة العالمية, ومصيرهم إزاء التكتلات العملاقة التي هي كالطوفان لا تصمد في وجهها الطحالب.

إن هذه الدراسة معنية بمدى واقعية احتمال وقوع حرب (متحضّرة) نسبياً تسهم في وقوعها (الثورة في الشئون العسكرية) دون تلطيخها سواء بالتدمير الذي تحدثه الحرب النووية أو الطبيعة التخريبية القاتمة للإرهاب أو حروب الميليشيات أو بالحرب الاحترافية التي تخوضها الجيوش المحترفة, أو حسب تعبير (باسيفيتش) الساخر (حرب الخليج الثانية معادة المرة تلو المرة) ولا يتمثل موضع الخلاف هنا في مدى ملاءمة العديد من النظم المرتبطة في الوقت الحاضر بالثورة في الشئون العسكرية, فمن الصعب تصوّر وقوع أي صراع تشارك فيه القوات الغربية لا يريد فيه القادة الحصول على أفضل المعلومات واستغلالها, وتحديد أهداف قواتهم بدقة وإبقاء الخسائر ضمن حدها الأدنى. إن المشكلة تكمن في المدى الذي سيقاتل به الخصوم مستخدمين الأسلوب نفسه.

الثورة ومضامينها

ظهرت عبارة (الثورة في الشئون العسكرية) لأول مرة في سياق الجدل التاريخي حول التغيرات الكبرى التي طرأت على الحروب خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر, ثم استخدمت فيما بعد للإشارة إلى تأثير الأسلحة النووية, وفيما بعد أصبحت هذه الثورة في الشئون العسكرية الشعار المفضل لدى القوات المسلحة الأمريكية حيث حققت مكانة متميزة إلى درجة يتعين فيها تفسير كل التطورات الحديثة وفقاً لمصلحتها, فهي في بعض الصيغ تركز كثيراً على أسلوب إدارة الحروب الكبرى.

ومن أهم مضامين هذه الثورة (الثورة في الشئون الاستراتيجية) أن هناك نطاقا متزايداً من الأهداف أصبح مكشوفاً تماماً للهجوم بواسطة الأسلحة (الذكية) وقد تقلصت الحماية التي كان يوفرها البعد والحجم والتضاريس والعوامل الجوية.

إن هذه الدراسة تركز على وجود عدد من التغيرات المهمة الجارية حالياً والتي يمكن أن تكون فعلياً ذات تأثير ثوري, ولكن هذه التغيرات لا تأخذ اتجاهاً واحداً بالضرورة, فكثير من أمثلة التقدم التقني المصاحبة للثورة في الشئون العسكرية قد تطبق على نحو مفيد في عدد من الأوضـاع دون أن تفرز حالة تقترب من مرحلة ظهور تحول في نمط الحرب, ولا يمكن أن تتحقق الثورة في الشئون العسكرية الكاملة إلا في ظروف محددة وغير محتملة مطلقاً.

إذن فالثورة في الشئون العسكرية أخذت تعتمد على التفاعل بين النظم التي تجمع المعلومات وتعالجها وتدمجها وتنقلها, والنظم التي تستخدم القوة العسكرية, ونتيجة لذلك سيتم توجيه القوى العسكرية بطريقة حاسمة ومدمّرة ضد عدد لايزال منهمكاً في عملية تعبئة الحوار ووضع الخطط, بمعنى آخر تحقيق نصر سريع وكامل وحاسم بحد أدنى من المخاطر للقوات وللسكان المدنيين, تماماً كما حدث في حرب الخليج الثانية.

إن التطورات المذهلة في (الثورة في الشئون العسكرية) قد جعلت كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تعتمدان على نظام الجيوش القائمة على التجنيد الإلزامي, وقد أسهم التركيز على الأسلحة عالية الجودة في التقليل من الأهمية النسبية لعدد الأفراد, إذ لم تعد هناك حاجة إلى استخدام الأفراد المجندين (إلزامياً) وقودا للمعركة (كما لا يمكن تدريبهم إلى المستوى الملائم للحرب الحديثة مالم يصبح المجتمع كله على مستوى عال من التعبئة كما هي الحال في إسرائيل.

ومما لاشك فيه أن انخفاض معدل المواليد وصغر حجم الأسر فرضا نفسيهما على الثورة كي تحاول التقليل من القدرة, على تحمّل الخسائر المتكبدة في الحروب والمعارك, وهذا ما نبّه إليه (إدوارد لوتراك) الذي دعا إلى إعادة تنظيم القوات المسلحة لكي تواكب عصر ما بعد البطولات, ولكن المواقف الشعبية حول هذه القضية ليست ثابتة لأنه في صراع جاد مثل حرب الخليج الثانية تم الاستعداد وتهيئة الرأي العام في صفوف قوات التحالف على تحمل خسائر ضخمة في صفوف قوات التحالف, غير أنها لم تقع.

التحوّل الثوري في التقنيات العسكرية

في عام 1985 أولى (سيمور دايتسمان) بتصريحات - والذي كان آنذاك نائباً للرئيس الأمريكي لشئون البرامج في معهد التحليلات الدفاعية - قال فيها: (نحن في غمار فترة من التحوّل الثوري في التقنيات التي تستخدمها القوات المسلحة الموظفة لأغراض عامة, وفي غضون العقد أو العقدين القادمين سوف يحدث تحوّل جذري في العقائد العسكرية التي يتبعها هذا النوع من القوات وفي أساليب عملياتها وقدراتها.

إن الدوافع التي تقف خلف الثورة في الشئون العسكرية هي التطورات التقنية نفسها التي تضع التغيرات المذهلة في المجال المدني, وتشمل هذه التطورات بصورة رئيسية استخدام الإلكترونيات ذات المكونات شبه الناقلة للكهرباء في مجال العمليات الحاسوبية والاستشعار والتوجيه والاتصالات والتحكم بكل أشكال الأجهزة والآلات.

وهذا ما حدا بالحكومات الأوربية الغربية لأن تنظر بعين الريبة إلى سائر المقترحات الأمريكية المتعلقة بتعزيز القدرات التقليدية, لأن ميزانياتها الدفاعية كانت تعاني من بعض الركود, كما كانت هذه أيضاً من المحاولات التي كانت جارية لإلزامها بأنظمة جديدة باهظة التكاليف, فاتجهت رغبة هذه الحكومات الأوربية الغربية الأساسية إلى الاعتماد على الردع النووي الذي بدا أنه أسهم إسهاماً جيداً في تحقيق علاقة مستقرة مع الكتلة السوفييتية, فلذلك ليس غريباً أن يقول مسئول فرنسي كبير هو (هنري كونز) وبكل وضوح أمام مؤتمر (المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية) عام 1984: (لا أعتقد أننا نرغب في جعل أحد يعتقد أن بإمكان ثورة تقنية قصيرة الأمد أن تحدث تغييراً كبيراً في الميزان العسكري بين الكتلتين, كما أن التقنية الجديدة في الأسلحة التقليدية لن تتيح لنا تقليص جهودنا في الميدان النووي, وإذا لم يتم استيعاب هاتين الفرضيتين بوضوح فأنا على اقتناع بأن المكاسب المتوقعة من التقنيات الجديدة ستكون سلبية).

حتى عام 1990 لم يكن هناك دليل محسوس على الكيفية التي ستعمل بها التقنيات الجديدة وتأثيرها على الواقع العملي. لقد كان المجال محدوداً أمام الولايات المتحدة الأمريكية لاختبار نظريات من نوع نظرية المعركة الجوية - البرية, لأن الأعداد الذين تمت مواجهتم مثل محتجزي الرهائن الأمريكيين في إيران والقناصة في جرينادا, ومفجري السيارات ومهرّبي المخدرات في بنما لم يتطلبوا تنفيذ الخطط القتالية الأكثر طموحاً, وما ان انهارت الشيوعية الأوربية في نهاية عام 1989 حتى وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها فجأة القوة العظمى والوحيدة في العالم.

لقد أسهمت حرب الخليج الثانية في تغيير التصوّرات السائدة بشأن القوة التقليدية للولايات المتحدة الأمريكية, فحتى ذلك الوقت, لم تكن الثقة عالية بقدرة القوات المسلحة الأمريكية على شن الحرب بفاعلية, فعشية إعلان حرب (عاصفة الصحراء) شاع افتراض مفاده أن قوات التحالف قد تصاب بخسائر فادحة في أي تحرّك تقوم به ضد الدفاعات العراقية (المحصنة جيدا) بسبب اعتماد قوات التحالف الزائد على التقنيات العسكرية المتقدمة. وكان الحديث يدور حول أخطاء محتملة إذ إن رمال الصحراء قد تتسرب إلى المعدات الدقيقة فتعوق عملها, إضافة إلى أنه من المسلم به أن أي نظام سياسي أمريكي لن يتحمل وقوع خسائر كبيرة في القوات. كل ذلك جعل الرئيس العراقي صدام حسين يجازف في خوض حرب ضد الولايات المتحدة الأمريكية, بل وضد العالم كله. فحتى عام 1991 بدا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد فقدت سيطرتها على إتقان فن الحرب. أما بعد (عاصفة الصحراء), فقد ظهرت كقوة لا تقهر, وخاصة عندما تخوض الحرب بأسلوبها وشروطها هي على الأقل.

لقد كانت حرب الخليج الثانية حرباً من طرف واحد, وهذا ما أتاح الفرصة لاستعراض الإمكانات الكامنة في النظم العسكرية الحديثة بأكبر قدر من التباهي, فكان الوضع يبدو كما لو أن (صدام حسين) قد طُلب منه تنظيم قواته بحيث يتيح لدول التحالف الفرصة لاستعراض قواتها على النحو الذي يحقق لها الأفضلية الكاملة.

لقد كانت هناك مبالغة كبيرة - وربما متعمدة - في تقدير القوة العراقية وذلك نتيجة للنجاحات التي أحرزتها في صراع مختلف جداً, وهو الحرب مع إيران من خلال التركيز على ما تملكه من القوة البشرية والدبابات والطائرات. أما القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية المشاركة في (عاصفة الصحراء), فكانت من العسكريين المحترفين, وقد تمتعت هذه القوات علاوة على التدريب المتفوق بأفضلية كبيرة في قوة النيران الكلية, وكانت تلك الأفضلية واضحة في البحر, ولكنها كانت أكثر وضوحاً في الجو.

بالرغم من أن حرب الخليج الثانية أو ما يسمى بـ(عاصفة الصحراء) كانت أول (حرب معلومات), فقد كانت أول (حرب فضائية), حيث كان هناك 64 قمراً صناعياً مستقلاً من ثلاثة وعشرين نوعاً مختلفاً متاحة لقوات التحالف عند وقوع غزو الكويت, كانت أغلبية هذه الأقمار أمريكية, ففي كل مرحلة من مراحل القتال, كان دور النظم العاملة من الفضاء لا يقف عند حد توفير المعلومات الاستخبارية فحسب, بل كانت تبلغ كل وحدة من الوحدات عن موقعها أيضاً وعن القوات التي تواجهها, وتوجيهات قادة تلك الوحدات حول ما يجب أن تقوم به من مهام.

إن أفضل تعليق قيل عن حرب (عاصفة الصحراء) ما نُقل عن جنرال هندي من قوله: (بأن الدرس المستفاد من حرب الخليج الثانية هو عدم دخول حرب ضد الولايات المتحدة الأمريكية دون أسلحة نووية).

أهمية الردع النووي

إن الولايات المتحدة تمتلك أسلحة كيميائية وبيولوجية إضافة إلى ترسانة هائلة من الأسلحة النووية, وينظر إلى هذه الترسانة بأنها رادع للتهديدات النووية المباشرة ضد الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل لهذه الترسانة النووية دور في ردع استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية?

يقال إن أحدث التوجيهات الرئاسية (الصادرة عن الرئيس الأمريكي) بشأن موضوع استهداف الأسلحة النووية الأمريكية والصادرة في نوفمبر 1997 تشتمل على نصوص (تسمح بتوجيه ضربات نووية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عند قيام العدو بتنفيذ هجمات تستخدم فيها الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية. وهذا ما جعل العراق يرتدع من استخدام الأسلحة الكيميائية أثناء حرب الخليج الثانية بسبب التخوف من الانتقام النووي. ويشير (وليم آركين) إلى أن الفكرة القائلة بأن مثل هذه الهجمات لا يمكن ردعها إلا بالتهديدات النووية قد أرضت غرور النظام العراقي, كذلك حذّر الرئيس الأمريكي (جورج بوش) صدام حسين من أن أي إقدام على استخدام أسلحة الدمار الشامل سيكون مبرراً لتوسعة أهداف الحرب رسمياً لتشمل الإطاحة بالنظام.

لقد أثبتت حرب الخليج الثانية بما لا يقبل الشك أن أهم ما يميز الأسلوب الغربي في الحرب هو اقتصار العمل العسكري على المقاتلين المحترفين لتحقيق انتصارات حاسمة في أقل فترة زمنية, وتقليل حجم الخسائر إلى أكبر قدر ممكن في صفوف الحلفاء.

القدرة على الهيمنة

يكاد يكون من المستحيل العثور على أي دولة أو مجموعة من الدول تملك من الإمكانات والموارد ما يمكّنها من مجاراة الولايات المتحدة الأمريكية في قدراتها في مجال الثورة في الشئون العسكرية حتى وإن رغبت في ذلك. فقد أصبحت روسيا تعتمد على نحو متزايد على قوتها النووية للمحافظة على أي شكل من أشكال القوة العظمى. وسوف تحتاج إلى سنين عدة للتحوّل إلى قوة من المتطوعين أصغر حجماً تملك قدرات تقليدية متقدمة. وتقوم الصين بتحديث قواتها المسلحة لكن من قاعدة متدنية جداً. إن أفضل الدول قدرة على اللحاق بالولايات المتحدة الأمريكية هي حلفاؤها الرئيسيون من دول أوربا الغربية والدول الآسيوية الواقعة في المحيط الهادي, غير أن هذه الدول تعاني عوائق شديدة في مواردها وتواجهها متطلبات مهمة أخرى تشكّل عبئاً على ميزانيتها العسكرية.

إن الشيء الذي يسمح للولايات المتحدة الأمريكية بالترف الاستراتيجي المتمثل في قدرتها على وضع خطط للحروب المستقبلية على نطاق واسع وفقا لرغباتها هو جمعها بين القوة العسكرية المتفوقة وطموحها السياسي, فإذا وجدت أن أحد الصراعات لم يتطابق مع القالب أو المعيار الذي وضعته, فإن بإمكانها اختيار عدم التورط.

إن دراسة (الثورة في الشئون العسكرية) دراسة جديرة بأن تقرأ من قبل السياسيين وواضعي خطط الحرب لمعرفة كيف تفكر الولايات المتحدة في سياستها العسكرية وخططها الحربية, ولعل هذه الدراسة تعطينا قوة دفع إلى الأمام لمعرفة أماكن الخلل وسد الثغرات والعمل على تطوير الإمكانات الاقتصادية والعملية وكل مناحي الحياة.

 

حسن العويشي