مساحة ود رمضان بسطاويسي

مساحة ود

ولادة جديدة

كنت أتصور أن أعراض عدم وجود دافع, والنسيان وعدم التركيز في موضوع, ما هي إلا عمليات الوعي المجرد التي تنتج عن تصورات ورؤى الإنسان للعالم, وبالتالي هي قضايا معنوية حتى مررت بخبرة المرض مع جلطة في المخ, التي وفقني الله أن يتم إنقاذي منها, حيث شعرت بكل هذه الأعراض نتيجة عدم تدفق الدم لأنسجة وخلايا المخ المسئولة عن التفكير والتذكر والكلام, وحين بدأت العلاج وبدأ سريان الدم يتدفق للأجزاء المصابة, بدأت أستعيد قدراتي تدريجيًا, فكنت أشعر بولادة جديدة كل يوم في وعيي, وقدرتي على الكلام, وبدأت أشعر بالزمان لكن بإدراك جديد, فما كان يلح علي من مشكلات للتفكير, تراجعت وحل محلها تفتح الحواس على العالم والناس من حولي, وتمت إعادة بناء الخبرات في ضوء إحساس جديد بالحياة من حولي, وكان للزمن عامل حاسم في ذلك, وأصبحت كل ساعة وكل يوم يمثل تقدمًا عن ذي قبل في القدرة على تحريك الذراع واللسان والقدرة على التركيز في موضوعات بضع دقائق, وكان من غير الممكن قراءة الصحف, أو متابعة صورة في التلفاز أو الاستقرار في مكان ما, واستغرق هذا الأمر أكثر من شهرين حتى تمت استعادة عمليات الوعي المعقدة في البناء والتركيب والفهم واستجابة الجسم لها.

وهل هذا يعني أن كل الجوانب المعنوية لها جانب مادي, والعكس صحيح أيضًا أن كل العمليات المادية في أجسادنا تشكل جوانب كثيرة من شخصيتنا غير المنظورة أو المعنوية, كنت أدرك هذا نظريًا, لكن لم أجربه بشكل عملي.

وحين خرجت من الأزمة الصحية, لم أعد كما كنت, وإنما عدت بشكل آخر في إدراك الأمور وتنظيم النفس, ذلك أن خبرة المرض يبدو أنها تعبر عن خلل ما في طريقة حياتنا ضد الفطرة سواء فيما ننشغل به أو نصنعه, ويصحح المرض المسيرة نتيجة التوقف الإجباري عن التفكير والكلام والحركة, وخيرة التوقف في حد ذاتها, تجعلنا نراجع كثيرًا من الأمور في حياتنا حتى طريقة الأكل والحركة والتأمل في كل شيء في ضوء خبرة المرض التي تقترب من الموت تجعلنا نغربل أولوياتنا على نحو يجعل الجوهري له الأهمية القصوى, ويتم حذف كل ما ليس ضروريًا, وتصبح خطة عمل اليوم بناء على الطاقة المتاحة للعمل مرتبطة بما هو ضروري, ولا يمكن الاستغناء عنه للفرد أو الجماعة الصغيرة التي ينتمي إليها, وكأن هذه الخبرة بالمرض قامت بما كنت أعجز عن القيام به في الظروف العادية, التي تخلو من تهديد المرض من إعادة تنظيم الذات والحياة, واختبار ممكنات الفرد في إنجاز حياته, إننا في ظروفنا العادية نعيش في أمل تحقيق مجردات غير ممكنة التحقيق من الناحية المادية والزمانية, ولكن مع هذه الخبرة, نفكر فيما هو ممكن ومتاح ويمكن تطويره.

شكرت الله أن أنقذت, وأن أتاح لي هذه التجربة الثمينة التي قدمت حلولاً وأحيت تفاصيل وخبرات قديمة كنت أعجز عن الوصول إليها.

 

رمضان بسطاويسي