فيتنام الطريق إلى هالونج رأس التنين العائم محمد المخزنجي تصوير: سليمان حيدر

فيتنام الطريق إلى هالونج رأس التنين العائم

أغوتنا الرءوس الخضراء الألف، المطلة من صفاء زرقة خليج التنين العائم، فغيرنا خط سيرنا من الجنوب إلى الشمال لنكون أول عرب معاصرين يبحرون في فتنة هذا الخليج. وكان الطريق إلى هناك يكتنز ملامح هذا البلد البسيط الساحر، الذي خبأت جماله أدخنة الحروب، وسوء الحظ التاريخي، وعزلة المكان والزمان وسوء تدبير البشر.

"السيد فان كيم نيجوان" - المؤسسة الفيتنامية للتعاون مع الإعلام الأجنبي.

بعد التحية،..

كتبت الفاكس في بانكوك وأرسلته من هناك إلى هانوي وأنا أحس بالإثارة والتشوف. فبعد تنقيب نصف يوم في مكتبة "كتب آسيا" في العاصمة التايلاندية، وقعت على بعض صور ساحرة لهذا الخليج، وإشارات عديدة إليه ضمن مجموعة من الكتب عن فيتنام أضفتها إلى الكتاب الوحيد الذي وجدته في الكويت ولم يكشف عن فرادة هذا الموقع، الذي لم نكتب عنه، ولم يكتب عنه غيرنا، على الأغلب.

الطريف أن الفاكس لم يصل أبدا إلى هدفه، بينما ركبنا طائرة الخطوط الجوية الفيتنامية من بانكوك إلى هانوي ونحن مطمئنون إلى حدوث الريادة، ولولا أن الزمان تغير، وحل شعار "الأبواب المفتوحة" في متن السياسة الفيتنامية، لما كنا استطعنا التغيير.

وكانت ملامح (بعض التغيير) بادية داخل الطائرة الفيتنامية التي انطلقت بنا في اتجاه الشمال الشرقي، ولمدة ساعتين، نحو هانوي.

الطائرة، على غير المتوقع، لم تكن سوفييتية الصنع.. بل كانت أوربية من نوع "الإيرباص"، وإن كانت صغيرة وعتيقة الطراز، ففي مواجهة الحظر التجاري الأمريكي على فيتنام- والذي انفك أخيرا- كانت سلطات هانوي وهي تحاول الخروج من العزلة، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لا تجد أمامها سوى أوربا، وجيرانها من "النمور الآسيوية".. بالطبع.

مضيفات الطائرة كن يعكسن سمات الجمال الفيتنامي وخصوصية الزي، فهن- كأترابهن اللائي رأيتهن كثيرا فيما بعد- رقيقات العود إلى درجة الإحساس بالهشاشة والخفة، وملامحهن دقيقة دون إغراق في المغولية. ولونهن أفتح من لون جيرانهن في الجنوب.. أقرب إلى الصينيات، مع عيون أقل انحرافا وقوام أنحف. والنحافة سمة فيتنامية غالبة على الرجال والنساء على السواء، بل إن ملوك فيتنام القدامى الذين رأيت صورا لهم- في المتحف التاريخي فيما بعد- كانوا نحافا أيضا. أما الزي فقد سألت عن اسمه إحدى المضيفات وهي تقدم لي قدحا من الشاي الفيتنامي الساخن وهو شاي من الأعشاب يعطي الماء لونا بلوريا أصفر خفيفا وله طبيعة قابضة بقوة ويقدم دون سكر ويسمونه "ميوك شا".

تضرجت وجنتا المضيفة بحمرة الخجل وهي تشير إلى اسم الزي الوردي اللون الذي ترتديه "آو-داي"، وهو ثوب طويل محبوك، بياقة عالية، ومفتوح من جانبيه، وتحته بنطال واسع الأرجل، ورحت أراجع ما ذكرته الكتب عن هذا "الآو-داي"، فقرأت وصفا كتبته النيوزلندية "هيلين وست" تحت عنوان فتنة "الآو- داي"، قالت إنه "يغطي كل شيء لكنه لا يخفي شيئا". لكنني لم أر في الأعواد الرقيقة الخفيفة ما يمكن إخفاؤه. وهو ما اتفق معي فيه كاتب غربي آخر هو "كلاير إيليس" صاحب كتاب "فيتنام الصدمة الحضارية" وهو يقصد الصدمة التي يمكن أن يصاب بها الغرباء الذين يزورون فيتنام لأول مرة دون تمهيد معرفي.

العجيب أن "الآو-داي" هذا يصلح مثالا لمصداقية قول قرأته عن الفيتناميين الذين "يكاد لا يوجد شعب تنعكس عليه آثار الجغرافيا والتاريخ مثلهم". ولا بد من إطلالة على هذه الجغرافيا وهذا التاريخ لنرى آثار انعكاسهما، حتى على الأزياء الفيتنامية! ففيتنام التي تشبه حرف (S) مساحتها أكثر من 327 ألف كيلومتر مربع تواجه في الشرق بحر الصين الجنوبي المفضي إلى المحيط الباسيفيكي بساحل طوله 3730 كيلومترا، وتظاهرها- من أعلى إلى أسفل- الصين ولاوس وكمبوديا وخليج تايلاند. وتمثل الصين ثقلا جغرافيا وتاريخيا فوق رأس هذه ال (S)، برغم أن سلسلة الجبال والوديان التي ترسم حدود فيتنام مع جيرانها تمتد لتكون فاصلا طوبوغرافيا بينها وبين الصين، فإن سلسلة الجبال (التي يبلغ أعلاها وهو جبل "فان سي بان"- الذي رأيناه فيما بعد- 3160 مترا) والوديان المقعرة السحيقة، لم تستطع أن تحول دون الاختراق الصيني الطبيعي، فالنهر الأحمر (والذي سمي أحمر تبعا للون مياهه المثقلة بالغرين) ينبع من مرتفعات إقليم "يونان" الصيني ويخترق شمال فيتنام ليجري جنوبا وشرقا نحو مصبه في البحر مكونا في طريقه "دلتا النهر الأحمر" التي يعيش فيها قرابة خمس السكان. وليس هذا هو الاختراق الصيني الطبيعي الوحيد لفيتنام، فثمة اختراق آخر مهم يمثله نهر الميكونج والذي يسميه الفيتناميون "كيو لونج كيانج" أي نهر (التنينات) التسعة، وهو أحد أطول أنهار آسيا ويبلغ طوله 4180 كيلومترا. وهو صيني المنبع أيضا، إذ يأتي من جبال التبت مخترقا حدود الصين الجنوبية مع بورما، ومن بورما إلى لاوس، فجنوب تايلاند الشرقي ومنها يدخل كمبوديا التي يعبرها إلى جنوب فيتنام مكونا دلتا الميكونج الشهيرة (أعرض دلتا في جنوب فيتنام وتبلغ مساحتها 75 ألف كيلومتر مربع) قبل أن ينتهي إلى البحر.. بحر الصين الجنوبي الذي يسميه الفيتناميون غيظا من الصين: "البحر الشرقي". هذا الاختراق الصيني الجغرافي لفيتنام لم يكن الاختراق الوحيد، فثمة اختراقات أخرى طويلة، وعميقة، شكلت موجات من الغزو امتدت تسعة عشر قرنا.

وخلال تلك القرون التسعة عشر من الحضور الصيني، والغياب المنذر بالحضور، لم تكن مياه الأنهار، ولا فرق الغزاة، هي الوحيدة التي تأتي من الشمال إلى الجنوب، من الصين إلى فيتنام. بل كانت الثقافة الدينية أيضا تأتي فوق الموج وفي أعقاب الجنود. آثار صينية واضحة في الثقافة الدينية والدنيوية مازالت ماثلة في هذه الأرض وإن (فتنمها) الفيتناميون. فالعقائد الثلاث: البوذية والكونفشيوسية والطاوية أتت من الصين متباعدة ليدمجها الفيتناميون في عقيدة واحدة شاملة. الشيء نفسه ينطبق على تقاليد في الحياة، والفن، والطعام، والشراب، والألبسة. ومنها ذلك "الآو-داي" الوردي الذي ترتديه مضيفات "القونج فيتنام" أي الخطوط الجوية الفيتنامية. وهو الزي القومي الحالي للمرأة الفيتنامية، وإن لم يكن الوحيد. وهو مأخوذ عن زي الحريم في البلاط الإمبراطوري الصيني. وكانت ألوانه قبل إطلاق سراحها بين الناس وقفا على طبقات بعينها، ومناسبات بعينها. فالأصفر كان وقفا على الأباطرة الذين كان لهم وحدهم أن يزينوا ثيابهم بتطريز صور التنين ذي البراثن الخمسة. والأبيض لتشييع الجنازات. والأزرق للرسميين وحدهم في المناسبات العامة. وحتى منتصف القرن الثامن عشر كانت النساء الفيتناميات لا يرتدين غير جلابيب ضافية. ثم جاء أحد حكام أسرة "نجوين" وأمر بتغيير زي النساء إلى نسق القفطان والبنطال الصيني. وتبعه حاكم آخر فحرمعلى النساء ارتداء البنطال. ثم جاء العام 1930 بفنان من مجموعة الإصلاحيين الليبراليين، فأعد تصاميم شتى لترتديها المرأة الفيتنامية، وأطلق حرية الألوان والنقوش، وكان من بين تلك التصاميم والألوان "الآو-داي". لكن بعد نهاية الحرب مع الولايات المتحدة عام 1975 ارتفعت الرايات الحمراء ذات النجمة الذهبية، وفي فيتنام الموحدة من الجنوب إلى الشمال انتشر الزي الشعبي "البروليتاري".. قميص وبنطال، للرجال وللنساء على السواء.

لكن مع العام 1987 م وبشائر الانفتاح الذي كانت تواكب به هانوي "مكاشفة" موسكو جورباتشوف، عادت كثير من الممنوعات إلى الظهور، وكان أن عاد "الآو - داي".

وتركت "الآو - داي" الوردي وشأنه، يسري خفيفا في ممر الطائرة التي كان ظلها الضئيل يقطع في لحظة مجرى نهر الميكونج وهو يدخل إلى "لاوس" ثم يتدحرج الظل على سلسلة الجبال التي تشير إلى دخولنا في المجال الجوي الفيتنامي، وتأتي دلتا النهر الأحمر بخضرة حقول الأرز الشاسعة. ثم تظهر جبال شمال هانوي الخفيضة ونظل نراها حتى تحط الطائرة على مدرج مطار العاصمة الفيتنامية. وأتذكر مما قرأت أن هذه الجبال كانت "معلما" أرضيا يسترشد به طيارو القاذفات الأمريكية لإلقاء هداياهم القاتلة على شمال هانوي في الستينيات وأوائل السبعينيات. ومازالت هناك بعض الحفر التي صنعتها القنابل الأمريكية الثقيلة التي ألقت بها الطائرات، حفر تبين كعيون مترقرقة من الجو، أما على الأرض فقد امتلأت بالمياه وحولها الفيتناميون إلى أحواض لتربية الأسماك. تتناثر داكنة عبر خضرة الحقول.

نصف قرن إلى الوراء

مطار "نوى باي" هو المطار الدولي للعاصمة الفيتنامية، لكنه يعطي الإحساس بأنه مطار طائرات شراعية في بلدة من بلدات الأربعينيات في فيلم تاريخي، مبنى استقبال صغير، وبرج مراقبة متواضع، والحقول تحيط بالمدارج حيث ترعى بهدوء بعض الأبقار، ويتهادى على حافة ترعة سرب من البط، وعلى الطريق الترابية يمضي بعض راكبي الدراجات في سلام معتمرين تلك القبعات المخروطية من القش، كأن لا طائرات تحت أعينهم تصعد وتهبط. والطائرات نفسها، قليلة، ومعظمها قديم وصغير، وتأوي في حظائر أشبه بمظلات أسواق الخضر.

مررنا بيسر إلى الداخل بمساعدة مندوب لشركة جديدة تسمى شركة مساعدة وسائل الإعلام الأجنبية"، وهي من ملامح "الانفتاح" لكنه انفتاح عجيب أسميه "رأسمالية على الطريقة الشيوعية"، فهذه الشركة تفعل ما كانت تفعله نظم استضافة الصحفيين في النظم الشيوعية، وهي استضافة ومراقبة بالطبع! الجديد في الأمر أنهم استضافونا على حسابنا، وبالدولار، وبأعلى سعر! ولقد طلبت أن يتركونا وشأننا لنتصرف كالسياح (لأن هذا أكثر حرية وأقل تكلفة)، لكن "لا، أنتم صحفيون ولستم سياحا". وبرغم ذلك فإن هذه الاستضافة الرأسمالية على الطريقة الشيوعية، مع تناقضها، قدمت لنا مساعدات في التصوير والانتقال والحركة من المؤكد أنها كانت ستستحيل دونها، ويكفي هذا الخروج السلس من المطار بصحبة المرافق  اللطيف الذكي "كيو" خريج كلية الاقتصاد والسياسة والمؤهل في الإدارة والإعلام من طوكيو، وهو يجيد الإنجليزية ويحب النكتة وحساء الدجاج بمكرونة الأرز المسمى "فا" والذي دعانا إليه في مطعم ريفي على الطريق وكان لذيذا على غير توقع.

خرجنا من المطار بزهو، إذ كان هناك بعض الأوربيين والأمريكيين ينتظرون حتى يسمح لهم بالدخول في يأس، والمرجح أن بعضهم سيوضع في أول طائرة تعيده من حيث أتى لأنه لم يأت بتأشيرة دخول، مثلنا تماما، لكن تأشيرة الدخول كانت تنتظرنا في المطار بفضل ترتيبات السيد "هين" مستشار فيتنام التجاري في الكويت. ولقد مكثت صورة تلك المرأة الأمريكية العجوز التي تنتظر تأشيرة الدخول ماثلة في خاطري بينما كنا نعبر باب الخروج من المطار. وكنت أفكر في أنها لا بد أم أحد الجنود الأمريكيين الذين مازالوا مفقودين في فيتنام برغم مرور عقدين على انتهاء الحرب، إنهم يدعون "مفقودي العمليات" وعددهم يصل إلى 2265 مفقودا، يقال إن منهم 400 قضوا عند سقوط طائراتهم المغيرة على الساحل الفيتنامي وتحللت أجسادهم بفعل المناخ المداري الحار والرطب. وهؤلاء يقابلهم 300 ألف فيتنامي مفقودون في العمليات أيضا ولا أحد يعرف مصيرهم. مأساة ما زالت تجر أذيالها في الحاضر، برغم التقارب الفيتنامي / الأمريكي الأخير وافتتاح السفارة الأمريكية في هانوي (وإن كانت السفارة وقت زيارتنا قد هددت بقطع التيار عنها لأنها تأخرت عن دفع فاتورة الكهرباء بسبب أزمة رواتب الحكومة الفيدرالية! فما زال في الجو غيم.. بل غيوم كثيرة!)

هل هذه حقا فيتنام؟ هل أنا حقا في فيتنام؟ سؤال ظل يدور ويفور داخلي وأنا أتأمل العالم من حولي. كل شئ فقير وقديم، والناس لفرط نحافتهم ودقة ملامحهم تظنهم تلاميذ وتلميذات في مدرسة ثانوية على الأكثر. والعالم هادئ ومتطامن. مجموعة بشر صغار خلف (درابزين) ينتظرون ذويهم القادمين من السفر، وأحدهم يمسك بطاقة زهور بسيطة. ثم تأخذنا السيارة في الطريق بين المطار وهانوي. قرابة خمسين كيلومترا على طريق لم يكتمل رصفه. حقول خضراء وادعة، وأخرى مغمورة بالماء، وثالثة ينكفئ فيها الفلاحون بقبعات القش المخروطية على رءوسهم يغرسون شتلات الأرز. المحاريث الخشبية والزحافات تجرها الجواميس. وطفلة تمتطي ظهر جاموسة سوداء. وقروي يدلي خيط سنارته في حوض تربية أسماك هو في الأصل حفرة تركتها قنبلة ألقتها قاذفة أمريكية في زمن الحرب البعيد. أما الطريق الذي كانت وصلات الأسفلت فيه تتوقف كثيرا لتمتد مدقات التراب، فقد كان طريقا قرويا يذكر بطرقات الريف منذ ثلاثين أو أربعين عاما. أولاد يلعبون الكرة في الشارع. وصبية تقود سرب بط إلى البيت. وراكبو الدراجات لا يكفون عن المجئ والذهاب. بعضهم وبعضهن يظهرون براعة في حمل كمية هائلة من السلال أو أوعية البلاستيك المربوطة بمهارة على الدراجة حتى يكاد سائقها يختفي وسط ما يحمل. كل شئ يبدو قابلا للحمل على الدراجة. حزمات البامبو، و(سباطات) الموز في شبكة كبيرة وسلة (بناموسية) للطفل، وبضع دجاجات في سلة أخرى على المقعد الخلفي. وعائلة كاملة من أب وأم وطفلين كلهم على دراجة واحدة. وكلما اقتربنا من هانوي يزداد ظهور الدراجات النارية (الاسكوتر) وإن ظلت الغلبة للدراجات. وانتظر أن تكبر البيوت وتظهر عمارات العاصمة العالية. لكن دون جدوى. فبيوت هانوي المكدسة المتربة هي نفسها بيوت جنبات الطريق الريفي. بيوت صغيرة مستطيلة ذات أسقف مائلة من قرميد قديم بشرفات خشبية قديمة ونوافذ بسيطة وفي كل بيت دكان، والدكان يفضي إلى داخل البيت. ثم غصنا في تلافيف شوارع هانوي القديمة حول بحيرة "هو هوان كيم" أي بحيرة السيف الذي عاود الظهور والتي يتوسطها معبدبوذي صغير وتحوطها المماشي التي تظلها الأشجار وتسكنها أسطورة وحكاية عن السلحفاة المقدسة التي قدمت للملك سيفا مسحورا واستردته بعد أن دحر الغزاة، فما من مكان رأيناه في فيتنام إلا وراءه أسطورة وله حكاية. لقد قرأت يوما أن حب رواية الحكايات مبعثه الر غبة في مقاومة الموت. وحكايات فيتنام وأساطيرها هي نوع من مقاومة العزلة.

مدينة التنين الصاعد

خلال أيام مكوثنا في هانوي رأيت خمس بحيرات، وعددت على الخريطة اثنتين وعشرين بحيرة. وفي فندق صغير بشارع "فولي ثاي" شرق بحيرة "هوان كيم" سكنا. وبرغم أن رواية مارجريت دورا "العاشق" والفيلم المأخوذ عنها وكذلك رواية جراهام جرين "الأمريكي الهادئ" كل هذه كانت تدور في سايجون التي صار اسمها "مدينة هوشي منه" بعد انتصار جبهة تحرير فيتنام (الفيت كونج) وتوحيد الجنوب والشمال. برغم ذلك فإنني كنت أحس بأنني أعيش أجواء الروايتين والفيلم وزمنها أيضا. فهانوي على حالها منذ عقود كما يبدو، تقبع على الضفة اليمنى للنهر الأحمر "سونج هونج". وترجع الحكاية الشعبية بتاريخ بنائها إلى العام 1010 م حيث قدم الملك "داي لا" إلى المكان فرأى تنينا ذهبيا هائلا يطل من أكبر البحيرات "هو - تاي" ويشرئب برأسه عاليا في اتجاه المكان الذي صار هانوي وإن كان أسماها في بادئ الأمر "شانج لونج" أي مدينة "التنين الصاعد". والفيتناميون ينطقونها مقطعة: (ها) وتعني النهر و(نوي) وتعني الضفة الداخلية.

بهانوي عشنا أياما وديعة مليئة، بل مزدحمة بالصور، صور البوابات الأربع العتيقة ذات الطابع الصيني، والمعابد البوذية الكبيرة والصغيرة، والشارع المليئة بالبشر والدراجات وراكبي (الاسكوتر)، والبشر الصغار الذين يرتدون قبعات القش المخروطية أو تلك (الكاكية) المدورة كقبعة الفيت كونج، والبائعين الجوالين الذين يحملون بضاعتهم على عربات صغيرة تمضي في ضوضاء أغاني يذيعها مسجل كبير عتيق، والقرويين والقرويات الذين يبيعون الخضر والفواكه والدجاج والبط حاملين على أكتافهم تلك القصبة الشهيرة التي تتدلى من طرفيها كفتان توازن إحداهما الأخرى. لقد أوقفت بائعة يوسفي في شارع الحرير"، كنت أريد شراء بعض اليوسفي، لكنني كنت أريد أكثر أن أعرف ثقل الحمل الذي تمضي به على كتفها المتهالك. إنه حمل ثقيل عجبت لكيانها الضئيل كيف يحتمله، وعجبت أكثر لأنها تمضي به متوازنا وإن كانت القصبة تتقوس من فرط ثقل الكفتين حتى تبدو على وشك أن تنكسر. لكنها لا تنكسر فهي من "البامبو" الفيتنامي الشهير الذي يصنعون منه دعامات الأسقف، وأسرة النوم، والكراسي، وأنابيب التنفس تحت الماء عندما كانوا يصنعون الكمائن للفرنسيين ثم للأمريكيين وهم غاطسون في الماء. كما أنه وسيلة تهوية خنادق المقاومة الشهيرة تحت الأرض. وهو أداة تحريك "العرائس العائمة" التي أبهجتنا في ليلة قضيناها بمسرحها الكبير على ضفاف بحيرة "هوان كيم".

وعلى ضفاف هذه البحيرة تمشينا كأننا في أمسيات بلدة صغيرة قديمة، مصابيح الشوارع قليلة حتى تبدو وكأنها مصابيح زيت عتيقة تنوس في سكينة الليل. وثمة عشاق يتناجون على المقاعد الخشبية تحت الأشجار وقد ركنوا دراجاتهم المتواضعة إلى جوارهم لتعيدهم إلى شوارعهم الدقيقة وبيوتهم الصغيرة بعد سكوت كلمات الحب.

حول بحيرة السيف "السيف الذي عاود الظهور" والذي تحكي عنه الأسطورة أنه كان هدية من الآلهة حملتها السلحفاة المقدسة على ظهرها خارجة من أعماق البحيرة لتسعف به الملك حتى يصد أعداء مدينة التنين الصاعد" حول هذه البحيرة كان لاعبو الدومينو الفيتنامي أو السيجة الفيتنامية يصنعون دوائر وهم منهمكون في اللعب وقد جلسوا القرفصاء. وبائعات قصب السكر والذرة المشوي يجلسن على كراسي خشبية صغيرة يعرضن بضاعتهن للساهرين. وفتيات يحملن بطاقة ملاجئ الأيتام يبعن صورا وكتيبات سياحية وتاريخية فقيرة الطباعة. تفقدت معروضات إحداهن فلم يرق لي أي منها وأعطيتها ورقة نقدية ضئيلة على سبيل الهبة ففزعت في وجهي: لا أريد نقودا دون مقابل. اشتر مني.. واضطررت أن أشتري نسخة رديئة الطباعة من رواية الأمريكي الهادئ" برغم امتلاكي طبعة بنجوين الأصلية. وعندما دخلت في يوم تال إلى إحدى المكتبات اكتشفت أن البنت التي رفضت التسول ضحكت علي إذ باعتني الكتاب بخمسة أضعاف ثمنه!.

يطلع النهار دافئا ورطبا في هانوي بينما نحن في يناير، ونستيقظ مبكرا لنشاهد جماعات مصطفة تؤدي تمارين "الناي شي" على ضفة البحيرة، وتدب الحركة في الشوارع أبكر من أي مدينة أخرى رأيتها، ولأننا صممنا اليوم ليستوعب جولة في المدينة فإننا نركب اثنتين من الدراجات الثلاثية العجلات "التريسكل"، وهي شبيهة تلك التي في الهند باسم "ريكشا" وفي تايلاند باسم "توك توك" وفي الصين باسم "ريكشو". وهي في فيتنام تسمى "تسيكلو"، بثلاث عجلات، واحدة في الخلف واثنتان في الأمام ويقوم عليهما مقعد لجلوس الزبون أو الزبائن، فيمكن أن ترى أسرة فيتنامية كاملة في هذا المقعد، بينما سائق الدراجة (يبدل) بقدميه خلف المقعد. والتسيكلو الفيتنامي في رأيي ألطف من الهندي والتايلاندي والصيني، فهو الوحيد الذي يجعل الراكب جالسا في الأمام والمجال مفتوح أمامه لرؤية الشارع، وهو إحساس بديع وطازج.

وصلنا إلى بحيرة "هوتاي" في أقصى شمال المدينة واسمها يعني "البحيرة الغربية"، وهي أكبر بحيرات هانوي، تبلغ مساحتها 583 هكتارا وتقع في حوض قديم من أحواض النهر الأحمر وبمحاذاته. وعلى ضفاف البحيرة قلعة من الخشب والبامبو يرجع تاريخها إلى زمن الاحتلال الصيني في عام 545، وعلى شبه جزيرة ممتدة في البحيرة ثمة معبدبوذي "باجودا" يسمى معبد"حامي البلد" وهو عائد إلى القرن السابع عشر وهو نموذج للمزج بين المقدس والملكي عند الفيتناميين. فكثيرا ما وجدت معابد هي في الأصل أضرحة للملوك. وليس المزج وقفا على المقدس والملكي، بل هو قائم بين الإنسان والحيوان والطبيعة، وماثل في الواقع والأسطورة التي تعامل كواقع. فعلى سبيل المثال ثمة أسطورتان تفسران كيف تكونت هذه البحيرة الغربية. أولاهما تقول: إن البحيرة كانت جحرا هائلا لثعلب شرير ذي سبعة ذيول كثيرا ما كان يخرج من جحره ليروع الجوار، فذهب التنين الملك وسحبه من جحره وأصر النهر الأحمر أن يغمر الجحر بالماء حتى لا يعود إليه الثعلب ومن ذلك تكونت البحيرة، والأسطورة الثانية تقول: إن مكان البحيرة كان مرقدا لجاموسة ذهبية هائلة وكان هناك راهب لديه جرس برونزي وعندما قرع الجرس حسبته الجاموسة الذهبية صوت أمها فخرجت لتملأ مياه النهر مرقدها فتكون البحيرة! ودائما هناك في هانوي بين كل بحيرة وبحيرة بحيرة ثالثة أصغر. فلصق البحيرة الغربية ثمة بحيرة صغيرة تسمى بحيرة الحرير الأبيض "تروك باش" لأنه على ضفتها كان هناك مبنى مخصص للحريم كانت الوصيفات فيه تعكفن على نسج الحرير الأبيض لثياب الأميرات.

بين البحيرتين مضينا وإذ بنا في شارع "دونج هونج فونج"، وإذ بشكل البيوت يتغير، وفجأة ظهرت الأبنية الكولونيالية الطراز والحدائق والشوارع المشجرة فأخرجت الخريطة لأدرك أنني على مرمى حجر من حدث مثير لم أكن أتصور أبدا أن يتحقق في حياتي.

لقاء حقيقي مع هوشي منه!

انفسح الشارع فجأة وأفضى إلى ميدان كبير هو ميدان "باردينه"، وعلى ربوة خضراء رأيت الكتلة المعمارية المكسوة بالرخام الرمادي وقرأت بالأحرف اللاتينية (إذ إن اللغة الفيتنامية تكتب باللاتينية منذ زمن الاحتلال الفرنسي) HD-CHI-MINH، وصحت في وجه مرافقنا "كيو" وأنا أشير إلى المكان: "سندخل، سندخل" وإذ به يؤمئ موافقا ببساطة. وذهب وتحدث مع مركز الحراسة الذي لا يسمح للسيارات ولا للأفراد بعبور المكان دون إذن. وبعد مفاوضات "كيو" سمحوا لي ولسليمان حيدر بزيارة ضريح هوشي منه على ألا نأخذ (الكاميرات) معنا وأن نلتزم بالنظام المتبع عندما يكتمل الطابور. وبالمصادفة كنت على رأس الطابور! ثم جاء ضابط وتقدمنا بخطوة منتظمة عبر الميدان واستدار إلى مدخل الضريح بين صفين من الحرس ومضى بنا على بساط أحمر أخذ يمتد ويمتد. صعدنا درجا، ودرنا يمينا ثم صعدنا درجا آخر، وانعطفنا ندخل بابا وإذ بقاعة معتمة وضوء ساطع وحيد ينصب على وجه رجل نائم وجسد مسجى. إنه هوشي منه.

يا الله. كم هو وديع في رقدته هذه. وأبيض أكثر مما تصورت. وشعره البلاتيني مع ملامح وجهه المغمض الدقيقة المسالمة، ويداه المبسوطتان المتطامنتان إحداهما على الأخرى فوق بطنه، وبذلته الرمادية البسيطة، كأنه قديس نائم في غمرة الضوء.

إن جثمان هوشي منه موضوع في صندوق من البلور الشفاف مفرغ الهواء، محمول على قاعدة تتوسط بئرا مربعة يقف عند كل ركن من أركانه حارس شاكي السلاح.

والبئر محاطة بدرابزين من الرخام يدور حوله الزوار دورة واحدة يطلون فيها على الجثمان الواقع في مستوى النظر ثم يمضون خارجين، بلا صوت، بلا صوت. ولما كنت على رأس الطابور فقد تباطأت بأقصى ما أستطيع لأرى وأمعن النظر وأتذكر دقائق المشهد الذي لا يزال، وسيظل طويلا، يسطع في ذاكرتي.

"باك هو" العم هو.. هكذا يسمونه في فيتنام أيضا. إنه أحد نجوم صباي. بل إحدى أساطير عمر الصبا. ولكم كنت مفتونا بإنسانية هذا الرجل وأحفظ من أقواله ما كان يردده على أسماع الأمريكيين "إنه لشئ مؤسف، إنكم تأتون لقتلنا، فنضطر إلى قتلكم"، و"لا شئ أغلى على الإنسان وأثمن من الحرية". كان رومانتيكيا ثوريا يناسب وهج ذلك العمر الحبيب البعيد. (حدوتة) إنسان صغير استطاع أن يجترح المستحيل / الحلم، ويؤكد أن طغيان القوة يمكن أن ترده إرادة الضعيف وعزة نفسه. العم هو - ياه - لكم كنت معجبا برحلته العجيبة في الحياة، وتنقله في أركان الدنيا، من (جرسون) على ظهر سفينة فرنسية إلى (جنايني) في باريس، فحمال ثلج في لندن، وعامل تصوير في نيويورك. أجاد الفرنسية والإنجليزية والألمانية والصينية، والدفاع عن حرية بلده وحرية شبه جزيرة الهند الصينية كلها. عاد إلى فيتنام بعد ثلاثين عاما من الغربة ليبدأ عام 1941 م - وهو في الحادية والخمسين - السير في اتجاه تحرير بلده المقسم آنذاك بين احتلال شرخ ياباني وآخر كولونيالي فرنسي. ومع ضغوط جبهة تحرير فيتنام التي شكلها، آثر اليابانيون أن يمضوا دون هزيمة في أغسطس 1945، بينما مكث الفرنسيون ليواجهوا حرب عصابات استمرت ثمانية أعوام لتنتهي بهزيمة / فضيحة للفرنسيين في معركة ديان بيان فو عام 1945 بعدها صار "العم هو" رئيسا لفيتنام الشمالية التي دخلت في حرب زحف لتوحيد الجنوب واجهت فيها كل جبروت الولايات المتحدة الداعمة للحكومة الجنوبية، لكنه مات في سبتمبر 1969 فلم يشهد وقائع الساعة السابعة وثلاث وخمسين دقيقة من صباح يوم 30 أبريل 1975 عندما حلقت هليكوبتر أمريكية لتلتقط آخر جندي أمريكي من فوق سطح السفارة الأمريكية في سايجون منهية بذلك وجود الولايات المتحدة في شبه جزيرة الهند الصينية. لم يشهد "العم هو" هذه اللحظة لكن سايجون تغير اسمها وصارت بعد ذلك "مدينة هوشي منه" عاصمة الجنوب في فيتنام الموحدة.

لقد رأيت هوشي منه، ورأيت بيته الخشبي على ضفاف بحيرة قريبة وراء القصر العائد إلى الحاكم الفرنسي والذي رفض أن يسكنه هوشي منه إذ قال "إنه كبير وأنا رجل وحيد". وظلت صورة الجثمان المسجى والوجه الوادع لاصقة بذهني وأنا أطوف بأرجاء المكان. برغم أن تحنيطه منحني فرصة للإطلال عليه فإنني أحسست أنه يتعذب من هذا البقاء وهذا العرض المستمر، ولقد عرفت من ردود الاستعلامات على أسئلتي أن الضريح بدئ بناؤه في سبتمبر 1973 (من جرانيت ورخام وأخشاب جمعت من كل أنحاء فيتنام) وانتهى في أغسطس 1975، في هذه الأثناء كان الجثمان محفوظا في غرفة مثلجة داخل البناء حتى تم عرضه. وهو يغيب شهرين في السنة يشحن خلالهما إلى موسكو (ليعالج) ويعود. شقاء. رأيت ذلك شقاء، وكان هوشي منه نفسه ضد ذلك، وأوصى بدفنه بعد موته كسائر الفيتناميين. لكن (رفاقه) حنطوه - برغم إرادته - حتى تملأ الجماهير عيونها منه خاصة هؤلاء الجنوبيين الذين قدر لهم ألا يروه في الحياة!! وكم من الفظاظات ترتكب باسمك أيتها الجماهير، وبالمناسبة فإن الميت الفيتنامي يدفن مرتين، الأولى في قبر عادي حتى يتحلل جسده ولا تبقى غير  العظام وبعد 3 - 5 سنوات يفتح القبر وتؤخذ العظام وتنضد في صندوق من السيراميك تهيؤا للانعتاق، أو الانبعاث في كائن حي آخر، تبعا لحسن أو سوء عمل الميت. فالفيتناميون - بوذيين وكونفشيوس وطاويين - يؤمنون بدورة التناسخ. ومن المناظر المألوفة أن ترى كثيرين من الناس يغطون أنوفهم وأفواههم في الشارع، وفوق الدراجات، وفي الحقول، بقناع من القماش. والغاية ليست وقاية من الأتربة الكثيرة وأدخنة العادم، فلا عوادم في الحقول، بل إنها احتراز أن يدخل واحد من الكائنات الحية الدقيقة فم الإنسان فيبتلعه دون أن يدري بينما هذا الكائن هو موضع حلول أخ أو قريب مات.

إنهم متدينون وأسطوريون برغم لافتات الشيوعية والأعلام الحمراء والنجمة الخماسية المشدودة وكأنها إحدى نجوم موسكو السوفييتية الآفلة. ولا ينبغي أن ننسى أن شرارة الحرب مع الجنوب المدعوم بالأمريكيين بدأت عندما انتحر الراهب البوذي "وثينش كوانج دوك" البالغ من العمر 66 عاماً صباح 11 يونيو 63 في سايجون بإحراق نفسه علناً حتى الموت احتجاجا  على اضطهاد البوذيين على يد النظام الحاكم الفيتنامي الجنوبي الموالي للأمريكيين آنذاك "نجو دينه ريم". وبرغم شيوعية النصف قرن في فيتنام فإنه يكاد لا يوجد شارع ولا زقاق في فيتنام إلا وترى فيه "باجودا" أي معبدبوذي، أو مزار كونفشيوسي، مهما صغر حجم هذه المعابد أو هذه المزارات.

حتى العلم، له تراث ديني عميق، حتى أننا زرنا، بعد ضريح هوشي منه مجمعا معماريا عتيقا ذا نسق صيني يسمى "فان ميو" ويعني: "معبدالعلم"، وقد بني هذا المعبدعام 1076 وكرس "لفضل كونفشيوس" وملحقة به أبنية متعاقبة تسمى "كويوك توجيام" وهي تعتبر أول جامعة فيتنامية، وواضح أنها سبقت الكثير من جامعات الدنيا، أوكسفورد مثلا! وفي هذه المدينة العلمية / الروحية، نقرأ على الباب لافتة قديمة تأمر الداخل أن "يتأدب ويترجل عن حصانه"، وعبر "بوابة النجاح العظيم" نجد باحة ذات أروقة وفي الأروقة تحت الأشجار تنتصب 117 لوحة من الجرانيت محمولة على ظهور سلاحف جرانيتية أيضا، وعرفت أن كل لوحة تحمل اسم عالم من النابهين الذين حصلوا على درجة الدكتوراة قبل أن تولد هذه الدرجة بمفهومها الغربي بقرون، وعلى اللوحة بعد الاسم حفروا مسردا بالأعمال العلمية التي أنجزها صاحب الدرجة. وفي عمق "الجامعة" كان هناك معبدكونفشيوسي، ورأيت مرافقنا - ككل الفيتناميين في المكان - يذهب ويشعل عودا من البخور يضعه بين يدي تمثال لكونفشيوس وينحني مرات متتابعة وهو يردد أدعية، سألته عنها بعد أن فرغ من طقوسه فترجمها لي وهي تقول: "إلى من حفظ روح الأمة وصان موهوبيها".

كل شئ يختلط بالمقدس في فيتنام، العلم والعمل والموت والميلاد والزواج، وكل شيء يتداخل مع كل شيء في أخوة الحياة: البشر، والشجر، والحيوان، والطير. وكل ذلك يرتكن على زخم أسطوري ويقين روحي متجدد، لهذا فإن أي محاولة للتغريب بزعم التحديث هي فاشلة سلفا ابتداء من حرب الأمريكيين ضد هانوي وحتى الماركسية اللينينية. لقد قال أحد الأمريكيين عن الحرب الفيتنامية "لقد كسبنا كل المعارك لكننا لم ننتصر". نعم، وكيف كان ينتصر اليانكي والمارينز المدججون بالقاذفات الثقيلة والكاشف الأحمر القاتل للبشر والشجر وقنابل الليزر التي كان أول استخدام لها عام 1972 لتحطيم جسم "هام رونج" أو "فك التنين" الذي عبرنا عليه نهر "ما" جنوبي هانوي عندما ذهبنا لزيارة العاصمة الإمبراطورية القديمة. كيف ينتصر هؤلاء المتحركون بالمسطرة على هؤلاء المتحركين بالأسطورة. مواجهة محسومة لصالح من يعتقد أن روحه ستخرج لتنتقل إلى أخ آخر: إنسان أو حيوان أو طير، وما الموت إلا ولادة جديدة. بينما الآخر يعتقد ببؤس أنه ميت بموته.

تلك الماركسية اللينينية أيضا ، ما هي إلا رطانة خارج أيقاع الحياة الفيتنامية. فغرب شارع " تران نهان تونج " عثرت على حديقة تسمى حديقة لينين ، وهي شاسعة ووارفة تحيط ببحيرة داخلية ، وعند مدخلها وجدت تمثالا للينين وكأنه في أحد الميادين أو الحدائق السوفيتية المندثرة ، واقف وقفته الخطابية تلك ويده اليسرى في جيبه بينما يده اليمنى تمسك بصدر معطفه. صورة نشاز وسط سيل الدراجات والتسيكلو وحاملات القصبات ذات الكفتين والمعتمرين بقبعات القش المخروطية ولا بسي أقنعة القماش على الأفواه. صورة نشاز ، صورة لينين تلك في قلب هانوي ، ولقد سمعت في شأنها أهزوجة ساخرة مرحة يرددها الفيتناميون ، وهي على هيئة متتالية من الأسئلة يوجهها عابر فيتنامي للتمثال : " السيد لينين " ألست أنت من روسيا ؟ ولماذا أنت واقف هنا في هذه الحديقة ؟ ولماذا يدك اليمنى على جيبك الأمامي ؟ ويدك اليسرى على جيبك الخفي ؟ ". ويضحك الفيتناميون ، ويظل التمثال صامتا ! ونغادر هانوي ضاحكين.. باتجاه الشمال الشرقي ، إلى خليج هالونج .

إلى الأعالي.. رأس التنين

نهار كامل على طريق وعر في سيارة روسية ، بين البلدات ، والقرى ، وحقول الأرز ، والبحيرات ، والتلال ، على الجسور العديدة فوق أنهر لا تنقطع عن الظهور ، ومن ذرا الجبال المغطاة بالغابات المدارية إلى ذرا جبال أخرى. نهار كامل مليء بالصعود ، والهبو ط ، والتوقف ، والمسير ، والضحك ، والجوع ، والعطش ، والشبع ، والارتواء ، والتعب ، وبعض الخوف ، وكثير من الطمأنينة. " كأننا" كأننا نمضي على ظهرتنين ".

برقت في خاطري الصورة وأنا أتخيل فيتنام تنينا هائلا يتمدد على حافة بحر الصين الجنوبي المرفود من المحيط الباسيفيكي. ونحن على ظهر هذا التنين نمضي بتلك السيارة الأجشة ، نرتفع فوق ثآليل ظهر التنين ونهوي في قيعانها. صورة خطرة لي وأنا أتأمل معنى الاسم الذي يحمله الخليج الذي نسعى إليه : " هالونج " أي " التنين القابع.

لقد وصلنا إلى المدرسة التي تحمل اسم الخليج " هالونج " بينما خيم الليل ، فبتنا تحت خيمته في أحد الفنادق الصغيرة مهدودين. وفي النهار أفطرنا وجبة من الموز المقلي ومكرونة الأرز في حساء الدجاج بالشطة ، وحملنا معنا بعضا من الفاكهة وكيسا من شرائح الموز الرقيقة المجففة المملحة ، وهي ( فيشار ) الفيتناميين ، ولا بأس بها. ابتعنا بعض زجاجات  الماء ، وخريطة بحرية واتجهنا إلى الشاطئ لنستأجر زورقا بيحر بنا في الخليج.

بعيني المبهورتين ورأسي المشدوه رحت أتفاوض مع أصحاب الزوارق والمراكب ، سألوا إن كنا نريد أن نتعمق في الخليج ، فقلت : لو إلى حدود المحيط. لقد كان الخليج أمامي ، مذهل السحر بينما تطل من هدأة مياهه وصفائها تلك الرءوس الجبلية الخضراء.. كأنني أطل على منظر في أسطورة تناديني إلى قلبها. لقد كونت فكرة عن الطابع الأسطوري في الثقافة  الفولكلورية والروحية لدى الفيتناميين . لكنني لم أكن أتصور أن للبيئة أيضا أسطورتها.

أخبرني البحارة أن الإيغال في الخليج يتطلب مركبا قويا ولن تنفعنا في ذلك زوارق " السحبان " الضئيلة أو زوارق " الجنك " ذات الأشرعة. فاتفقنا على مركب خشبي كبير بمرحك ميكانيكي. وهو يطلقوه على هذا النوع من المراكب " بوم " تماما كما في الخليج العربي. وأنزل البحارة سقالة إلى الشاطئ لنصعد عليها بينما كان هناك واحد عند أعلى السقالة وآخر عند أسفلها ، يحملان على كتفيهما عودا من البامبو صار ( داربزينا ) تساندنا عليه ونحن نصعد إلى ظهر المركب العالي. وانطلقا في السحر الخالص ، والرهبة والشجن.

لقد أخذ الخليج اسمه من أسطورة تحكي عن أنثى تنين مقدسة مهيبة. كانت تظهر من الحين والحين قادمة من بين السحب لتطلق صغارها كيما يمرحوا في جزر الخليج العديدة الخضراء. وفي زمن الجفاف كانت تسعف الأرض بماء مسحور وعند العواصف كانت تهبط لتمنع الريح من إغراق زوارق الصيادين الفقراء. وكانت تعيد من يسقط منهم في الماء سالما إلى الشاطئ. وعندما اختفت مع صغارها بين السحب ظهر إمبراطور شرير سام الناس في المكان العذاب. ولما صرخوا طالبين العون ظهرت التنين المهيبة غاضبة من بين السحب وراحت تصب أنفاسا نارية على الظالم وأتباعه حتى أحرقتهم. وسمي الخليج باسمها. وتحولت ألسنة النار التي أطلقتها إلى ألسنة صخرية تشرئب من الماء.

سذاجة حلوة، ومبنى حكائي يدل على إحساس عميق بمعاناة الغبن الطويلة وإيمان عميق بأن لكل غبن نهاية. لكن الحقيقة خارج الأسطورة هي أن هذه الجزر الخضراء المشرئبة فوق الزرقة هي قمم لجبال مختبئة تحت الماء الذي غمرها منذ بدء الخليقة. ومن بعد انهمرت عليها مياه الأمطار فنحتت منها أشكالا وحفرت فيها مغارات وكهوفا وأنفاقا مازالت تجري داخلها  مياه جوفية عذبة.

تخيلوا معي ما كان يخايل بصري، بينما مركبنا يشق طريقه في صفاء الزرقة العميقة ويجتاز رأسا خضراء تظهر من خلفها رءوس ورءوس. ألف رأس صخري تكسوه الخضرة كانت تتناثر على صفحة الماء المترامي في مساحة ألف وخمسمائة كيلومتر مربع تشكل مساحة الخليج. صخرة تأخذ شكل ديكين يتقاتلان. وصخرة تأخذ شكل صياد عجوز في لحظة تأمل. وصخرة ترسم هيئة قلعة. وأخرى توحي بصورة عماليق ما قبل التاريخ. ولا تنتهي الأشكال الهائلة على صفحة الماء هادئ الرقرقات.

راح الشاطئ يبتعد ، وكان آخر ما رأيناه في ذهابنا هو الجزء المسمى بالفيتنامية "باي شاي" أي "الضفة المحروقة، لأن المكان كان قد تعرض لحريق أحال خضرته إلى رماد قبل أن تنبت من جديد بينما كان يسميها الفرنسيون الذين احتلوا المكان ضمن احتلالهم للشمال الفيتنامي: "فاتشاي". وهو شاطئ يمتد في ظل جبل عريض يكسوه بساط من الخضرة الكثيفة وتتناثر مدارجه "فيلات" بيضاء صارت فنادق بديعة.

لم يعد هناك غير الماء ورءوس الجبال الطافية المتعاقبة. ودخلنا بالمركب في ظل إحداها بعد أن أوقف البحارة المحرك. ساد صمت كأنه خارج الزمن وهبطنا إلى شاطئ الرأس الصخري المسمى رأس الشظايا "داو جو" لندخل في مغارته التي تأخذ فوهتها صورة نجمة بحر. وفي جوف المغارة اتسعت قاعة خرافية تصعد من أرضها وتتدلى من سقفها حليمات هائلة من الرواسب الكلسية ومن هنا نبعت التسمية. وعبرنا نفقا إلى الجانب الآخر المفضي إلى خور فيروزي المياه وكانت الجدران الصخرية ترشح بمياه تذوقنا عذوبتها المدهشة. وفي طريق العودة تبدت الزوائد الصخرية وهي تكون معرضا لنحت غريب أبدعته يد القرون. أشكال لفارس يرفع سيفا، وفيل غاضب، وحصان جامح يعدو، ورجل تبعثر أسماله الريح. وكان ذلك كله في بطن الجزيرة الصخرية التي ترتفع 189 مترا فوق سقف الكهف.. فوق رءوسنا.

ومن رأس جبلي إلى رأس جبلي. ومن مغارة إلى أخرى. مكثنا نبحر ولم يكن الخليج مهجوراً، فثمة بشر يبحرون فيه، ويقيمون أيضاً، صيادون فقراء كانوا يسرعون إلى مركبنا بزوارقهم الصغيرة ليعرضوا عليها صيدهم بأسعار زهيدة. حفنات من الاستاكوزا، والقريدس، والمحار، والأصداف، والسمك.

وكانت هناك (دكاكين) متنقلة تبيع كل ما يلزم السائح. زوارق تبيع الأفلام، وبطاريات آلات التصوير ، والأدلة المطبوعة، والصور والقبعات، والخبز.

أما عما يكسر القلب في هذا المجال الفطري البكر، فهو الزوارق - البيوت التي يسكنها فقراء الصيادين في هذا الخليج، زورق يضم أسرة كاملة، الأب والأم والأطفال ، والموقد، والأغطية، وعشة الدجاج أيضاًوزورق ينساب وليس فيه إلا مجموعة أطفال لا يزيد عمر أكبرهم على سبع سنين، كأنهم في البيت وقد تركهم أبواهم وذهبا للعمل. وبنت صغيرة تجذف وحدها في زورق نحيف وكأن والدها أرسلها لتشتري له شيئاً من السوق القريب. وزورقان ربطا معا ينتشر على ظهريهما أفراد أسرة كبيرة العدد.. الأم تغسل والأب والابن الأكبر يصنعان خزانة خشبية والأطفال معا يرعى كبيرهم صغيرهم.. أسرة كبيرة، وبيت كبير.

سكان الزوارق كانوا لمسة الأسى الحاضرة في الخليج هالونج، ولمسة أسى أكبر كانت غائبة عنه لكن ذاكرة التاريخ تحفظها.. إنهم لاجئو القوارب الفارون من فيتنام بحثاً عن رزق أوفر أو حرية أكثر. من هذا الخليج مروا.. ومضوا في المجهول يلتمسون شاطئا ترسو عليه قواربهم التي كانت في أحيان كثيرة لا تزيد على مجرد لوح من الخشب أو باب قديم.

مئات الآلاف وصلوا إلى هونج كونج، من الشمال وإلى تايلاند من الجنوب. لكن معظمهم شاء الهرب إلى حلم فوقع في مأساة، ففي تايلاند عند رجوعنا علمنا عن قمع احتجاج للاجئي القوارب الفيتناميين الذين وضعتهم السلطات التايلاندية في معسكرات هي إلى السجون أقرب. وكانت الصور التي نقلتها شاشات التلفزيون شديدة القسوة، وشديدة البؤس. ولقد كان اللاجىء من قبل تتاح له فرصة العودة ليبدأ من جديد في وطنه ويقدم له عوناً قدره خمسمائة دولار، بمساعدة المجموعة الأوربية. وكان هناك من يعاود الهروب بعد أخذ العون و يرجع ليأخذ مرة ثانية وثالثة. حتى توقف العون. ولم يتوقف هروب بشر القوارب.

لقد تبدلت صورة الخليج كثيرا مع فيض الخواطر وانحسارها. وتبدلت الصورة أيضا مع فيضان ضوء النهار وانحساره.. ففي الصباح كان الضباب الفضي ينحسر رويدا رويدا كأنه ستارة مسرح كوني تنفتح على المشهد الجليل. وفي الظهيرة كانت خضرة الرءوس الصخرية تتوهج ألقا مع اشتعال بريق الشمس في الماء. وفي الغروب كان الشفق يظاهر مئات الأجرام الصخرية التي تبدو كما أراد تصويرها سليمان حيدر - رفيق رحلتي - في لقطات السلويت - سوداء بين أفق وماء يشتعلان بالحمرة.

ثم غابت الشمس، وصار لون الأفق ولون الماء بنفسجيا، فمضينا نقفل راجعين إلى الشاطئ الفيتنامي، قبل أن تتكاثف الظلمة، ويطل الكائن المهول من الماء.. فثمة حكاية ثابتة تتردد في المكان، عن وحش بحري غامض يسكن مياه الخليج، ويطل برأسه من الماء بين الحين والحين. ولا أحد يعرف حدود حجمه، ولا مدى خطورته.

 

محمد المخزنجي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




سوق القرية.. يكاد لا يفترق عن سوق المدينة





على رأس قارب نحيف في خليج التنين العائم





إطلاله على مياه الخليج من قلب مغارة الفقيرة العذراء





عائلة كبيرة، وبيت من قاربين، والحياة في مياه هالونج





هانوي.. مدينة بسيطة حتى في وسطها التجاري





سايجون.. بقايا عمارة كولونيالية  لكنها استثناء من كل الصور





التسيكلو.. دراجة بشري.. متعة للراكبين





في هذا الصرح الرخامي يرقد جثمان هوشي منه





مقنعات، حتي لا يأكل الحي الحي، فالبوذية باقية





سرب الصغار في رحلة وسط المدينة





سلتان وقصبة.. حمل ثقيل وكتف  صبور





فيتنام الطريق إلى هالونج رأس التنين العائم