قلب الشجرة خيري شلبي

   شوح ابى فى وجه أمى بذراعين معروقين كفرعى سنط عنهما كم الجلباب الواسع. ثم أمسك طوق جلبابه بيديه وهذه علامة أنه على وشك أن يشق الهدوم من فرط الحنق والغيظ- وهي حركة يفعلها دائما كلما استشيط غضبه ليقمع بها غضبه، ثم صاح بصوت دافىء حريف:

- " سبحان الله في طبعك! أنت يا امرأة منقوعة في ماء النكد؟! يصعب عليك أن تفرحي ولو ساعة واحدة يا العمر؟! ".

لحظتها كانت أمي متربعة على الأرض في حوش الدار، بالثوب الجديد نفسه، الذي كانت ترتديه في فرح أختي ونيسة منذ بضعة أيام، مريحة خدها على راحة يدها، مرسلة بصرها إلى الشجرة الواقفة أمامها قرب باب " الزريبة ". الدموع تنهمر من عينيها بغزارة دافقة كرخات المطر، وقد أنتشر على وجهها فزع ورعب فبدت كأنها تتوقع خطرا داهما كهول يوم القيامة ما يلبث حتى يكتسح الكون كله.

كنت واقفا بينهما وقد جمدني الخوف من منظر أمي الذي لم أعرف له سببا. من فرط الرعب ركزت البصر على أبي لعلني أتكشف شيئا حدث بينهما قبل الآن أدى إلى هذه الحالة التي وصلت أمي إليها وأصداء الفرح لم تختف بعد من دارنا. رأيت مشروع البسمة الذي يبزغ دائما على شفتي أبى كحركة مكملة لحركة شق الهدوم الوهمية، فخفق قلبي بشدة.

- " ماذا بك يا امرأة؟! ".

هكذا صاح أبي بلهجة ودود. لكن أمي من شدة الانفعال والانخراط في البكاء العميق لم تستطع النطق، بل يمعن وجهها المدور في الاحتقان حتى صار مثل كرة من اللهب الأحمر تتساقط منه قطرات ملتهبة، فصرخ أي بلهجة آمرة:

- " ماذا يا امرأة؟! انطقى ".

انفجرت أنا باكيا وقد استشعرت دبيب مأساة غامضة مجهولة سينزاح عنها الستار بعد برهة. لحظتئذ تمكنت أمي من رفع ذراعها والإشارة بإصبعها إلى الأمام. فنظر أبي ونظرت حيث أشارت، فلم نجد شيئا يلفت النظر، فرددنا البصر إليها في توسل. فصارت تركز حركة إصبعها نحو الشجرة وتبذل جهداً كبيراً في محاولة تحريك شفتيها المزمومتين المرتعشتين:

- "ال.. ش.. ش.. شجرة !! ".

اكتملت الكلمة بطلوع الروح. لكن أبي التقطها من أول حرف، فشوح في وجهها مولولا كالنسوان:

- " الشجرة أيضا؟! ليس عندك شغلة ولا مشغلة غير الشجرة؟! وأيمان المسلمين أنت امرأة مخلولة في عقلك! تعال يابني! دعها تفرغ ما في دماغها كله! أنا عارف أصل هذه العبارة!! ".

سحبني من ذراعي لنجلس تحت ظل الشجرة نفسها بحذاء السور، جلسة أبي المفضلة، حتى أن الجوال مفروش وعدة الشاي والقلة والجوزة والقوالح الناشفة متناثرة حولها باستمرار، مع مسند من الخيش المحشو بقش الأرز. تناول أبي موقد النار، صار- كنوع من التنكيل بحزن أمي غير المبرر في نظره- يفتش عن بقايا الجمرات ليغذيها بالقوالح، قائلا:

- " اغسل براد الشاي ياولد! ".

تذكرت في الحال. أن دخلة أختي ونيسة لم تمض عليها جمعة كاملة، وبقايا كعك الفرح في سيالتي، وفوق رأسي طاقية جديدة من الطواقي والمناديل التي وزعتها أختي ونيسة على الذين صبحوا عليها في الصباحية كل واحد بمبلغ من المال... فلابد أن أمي حزينة على فراق أختي ونيسة مثلما حزنت على فراق أخواتي تفيدة ومريم وحميدة، إذ ما يكاد فرح الواحدة منهن ينتهي حتى تشعر أمي أن الدار قد خلت منها فتنزوي في ركنها هذا وتنخرط في بكاء صامت لمدة دقائق قليلة، إلا أنه ليس كهذا البكاء الذي تبكيه الآن بحرقة. كان بكاؤها فيما مضى جميلا، إذ تبكي فيما الجبين مضيء والوجه مبتسم، وقد ينتهي البكاء بزغرودة مفاجئة أو ربما تستأنف الغناء بالحنان كما كانت تفعل وهى تعد عشاء الفرح، تنقى الأرز الذى ستطبخه للفرح، تغسل القمح الذي ستخبز من دقيقه* كعك الفرح، تفرج الجيران على أثواب القماش قبل تسليمه للخياطة. أبداً لم تكن مرتعبة هكذا وكأنما تسترحم عزرائيل الذي جاء يبتغي أبناءها!!..

- " هات القلة ياولد وفتح عينيك معي ".

وبعد أن طاب الشاي وصبه في الكوب وشرع يرتشف لم يكمل الرشفة إذ أعاد الكوب الصغير وصب الشاي في كوب ثان وتركه برهة تردد خلالها منقلا البصر بين الكوب وبين أمي في ركنها المبتعد. ملامح وجهه تسعى جاهدة إلى محاولة الانبساط ليقول بلهجة طبيعية: الشاي يا امرأة. إلا أنه اكتفى بإزاحة الكوب نحوها ناظراً إلى نظرة ذات معنى. حملت الكوب ذهبت به إلى حيث وضعته أمامها، وانتهزت الفرصة فتمعنت في وجهها باحثا عن بهجة البكاء القديم فلم أجد سوى الرعب مجسداً في عينيها لحد الذهول. كان بصرها مركزا على جذع الشجرة لدرجة أنني أيقنت أنها لم ترني بل ولم تسمعني حين قلت لها وأنا على شفا البكاء: الشاي يا أمي. لكنني خفت من أبي فحبست الدمع واستدرت عائدا إليه بسرعة، لأجده قد وضع جمرة مشتعلة فوق حجر الجوزة وراح يجذب الأنفاس في توتر كظيم. جلست متكورا بجواره، فرمقني بنظرة عابسة أتبعها بصيحة:

- " اعتدل في قعدتك! ربع رجليك وكن رجلا محترما !!".

اعتدلت في الحال كما قال. صب لي قدرا صغيرا من الشاي في كوب ثالث مبتور الأذن، لا ضنا بالشاي بل خوفا من أن كثرته تحرق دمي الأخضر. أزاح الكوب نحوي، لكنني تركته أمامي لأطيل عمر الفرح به. جعل أبي يسحب أنفاس الدخان في بطء وروية متصنعا عدم المبالاة، مع أنني صرت عاجزا عن ملاحقة نظراته القلقة التي راح يوجهها إلى أمي في صمت وترقب. وبعد بضعة أنفاس. راح يتكلم كما لو كنت أنا العمدة الذي سينطق بالحكم في هذه المسألة المعقدة:

- " هذه المرأة تشيل الشجرة على دماغها! هي التي أشارت علينا بزرعها! وهي التي أشارت بقطع فرعها! وهي التي رجعت تندم على الفرع المقطوع! ترى هل الشجرة الآن مريضة ويتعين علينا أن نذهب بها إلى المستشفى؟ أنا والله مستعد أن أجىء لها بالحكيم لحد هنا حتى لا تفعل هذه المرأة في روحها ما تفعله الآن!! ".

واستأنف شد الأنفاس في سأم، مع أن نار الحجر قد انطفأت والتبغ احترق. وكانت الشجرة التي نجلس تحت ظلها الآن قد صارت أمامي مباشرة كأنني بعيد عنها آراها كلها فرعا فرعا ورقة ورقة: كان ذلك منذ حوالي سبع سنوات مضت حينماكنت في حوالي السادسة من عمري، وقد التم جمع كبير حولها يلغطون في صياح متداخل، ثمة من يقترح ومن يوافق ومن يعترض ومن يستحسر: شجرة جميز بارك الله فيها في سنوات قليلة فجاءت ضخمة جارفة الأطراف عالية الهامة مكتنزة الجذع بالعضلات البارزة وكتل اللحم مكسوة بجلد من اللحاء الخشن المنظر رغم نعومته ممتدة الجذور "على مساحة عريضة تبدو جذورها كالعروق النافرة مما جعل أبي يكثر من النظر إليها بإعجاب ثم كأنه يذب عنها عين حسود مجهول يقول ساخر(: " أقطع ذراعي إن ما كانت هذه الأرض أصلها جبانة! "، فتصيح أمي مرتعبة: " صل على النبي! ". ولم أكن أعرف ما العلاقة بين أرض الجبانة وشجرة باسقة.. كانت أمي واقفة وسط الجمع كمقاول الأنفار ترسم بذراعيها في الهواء خطوطا وحدوداً تتكلم بثقة آمرة: لابد من قطع هذا الفرع! على عيني والله يا جدعان! قطعه كقطع ذراعي ولكن للضرورة أحكام ابني سيدخل على عروسه بعد شهر! نور عيني أول فرحتي يدخل في قاعة الفرن وعندي الأرض واسعة؟! حتى هذا لا يرضي ربنا! على كل حال لن نخسر الشجرة! سنخسر فرعا واحدا من فروعها الكثيرة في مقابل أن نكسب قاعة برحة يدخل فيها الولد! بقطع هذا الفرع تأخذ القاعة راحتها فلا تضيعوا وقتكم! اقطع ياجدع أنت وهو واسمع كلامي أنا!!.. لحظتذاك وقف الرجل بالمنشار ناظراً في وجه أبي كأنه يطلب رأيه فيما سمع. فنكس أبي وجهه صامتا بما يعني القبول مع الحزن على ضياع فرع مهم قد يميت الشجرة. سأله حامل المنشار: أقطع يا أبو عواد؟ فلم يرد. فأشار حامل المنشار إلى معاونه الذي شمر عن ذراعيه وتفل في كفيه وفركهما ثم أمسك بطرف المنشار المستطيل فيما أمسك الرجل الآخر بطرفه الآخر. ثبتا أسنان المنشار على ضلع القرع التخين جدا الذي يكاد يكون شجرة كاملة بغابة من أفرع تمتد منه. ارتفع زيق المنشار وهو يحفر لنفسه مجرى في لحم الفرع، بصوت أجش موجع، ثم ارتفع صوت أنين الفرع إلى حد الصراخ الملتاع، فيما المنشار لا يرحمه، رائحا جائيا ببطء ثابت مكين، ثم راح يرسل عواصف الغبار من فتات لحمه المهشم بأسنان ذلك المنشار الغشوم الذي ازدادت حركته سرعة وقد آب صوت صراخ الفرع إلى أنين مكتوم يكاد يفتت الأكباد. وكانت صيحات الرجال الحذرة قد غطت على صوته حينما تجمعوا رافعين أذرعهم بعصي وعروق من الخشب تتلقى ميل الفرع لإحكام السيطرة عليه خشية أن يسقط بثقله فوق الجميع فيطحنهم. كانت النداوة الخضراء تلمع على منشورين عريضين على شكل القلب المشقوق بالطول إلى نصين أحدهما في الجذع والآخر في الفرع المنبت المائل. كاد الفرع يصيبهم في مقاتل لأنهم كانوا مشغوفين برؤية الشجرة بعد انفصال الفرع عنها. وحتى بعد أن جرجروا الفرع بعيدا خارج حوش الدار سرعان ما ارتدوا عائدين فالتفوا حول الشجرة يتفحصونها من جميع النواحي. كانت بالفعل كالثكلى، تقف منكسرة حزينة زعراء مكشوفة العورة، صار منظرها شائها جدا، وبدت بقية فروعها كأنها تجمعت وانزوت وازدادت ميلا وتهالكا فوق سور الحوش، كأنها تلقي نظرة الوداع الأخيرة على فلذة كبد الأم التي غلبت على أمرها. لم يستطع أحد من الرجال إخفاء ما ألم من كدر وحزن على شجرة كانت جميلة فأصبحت كتعاء شوهاء، الكل بات يرفض شكلها الحالي ويستنكره، أما نحن أهل الدار فإن شكلها القديم ظل ماثلا على الدوام لا نتعامل إلا معه..

منذ ذلك اليوم البعيد لم تكف أمي عن النظر في الشجرة كلما مرت بها، تطيل التحديق فيها بكثير من الشعور بالذنب، خاصة أن القاعة التي تزوج فيها أخي عواد حين تم بناؤها بدا كأن الشجرة قد خاصمتها نهائيا فمالت عنها بلى بعيد وحرمتها من شبح الظل بشكل لفت أنظار كل من عاشرها..

- " بُص يا أبو عواد بص فوق دماغك ياشيخ! ".

انتزعنا الصوت الباكي من جب الصمت فانتفضنا مذعورين. كانت أمي قد تمكنت من النطق، فصارت تشير بلى الشجرة صائحة صيحتها هذه المفزعة، حتى أن أبي توقع ثعبانا سيسقط عليه. وفيما يشبه المعجزة تمكنت أمي من نفض جسدها واقفة دفعة واحدة. اقتربت منا وهي تشير إلى المنشور العريض الشبيه بشكل القلب، الذي كان ما يزال نديا مخضوضرا كأنه منشور منذ دقائق فحسب. ربتت أمي بكفها على ظهر أبي:

- " نحن قطعنا هذا الفرع منذ متى يا أبوعواد؟! ".

- " فات أكثر من سبع سنين يا امرأة! ".

وبهدوء شديد وضعت يدها تحت ذقنه موجهة عينيه إلى الجرح المتخلف عن قطع الفرع:

- " شف يا أبوعواد! سبع سنوات وأنا أعود مكان هذا الجرح أطل عليه! ما أراه كل يوم يكبر في اليوم الذي يليه! اليوم زاد وفاض شف يا أبوعواد! شف دموع الشجرة! الشجرة مفطورة من البكاء سبع سنوات وهي تسيح من كل عين حنان!! ".

في البداية نظر لها أبي نظرته لمجنون تنذر حالته بالخطر، لكنه سرعان ما حول بصره إلى مكان الجرح في الشجرة على سبيل الهزل. لشدة ذهولنا كانت هذه المساحة المخضوضرة الشبيه شكلها بشكل القلب تنز بقطرات الماء تنساب خيوطها بغزارة فتسيل على عضلات جذع الشجرة بشكل واضح، وقد خلفت خيوط الماء أثرا ميزت به مجاريها عن بقية الجذع..

زحفت يد أبي المعروقة كالأخطبوط نحو مكان الجرح في الشجرة وهو يرتعش وينتفض. مسح قطرات الماء عنه فابتل كفه ونبتت في الحال قطرات غيرها. صار أبي يمسح بكفيه فتشر المياه كشلالات صغيرة صنعت وشيشا على الأرض. صار يرتعش ويردد بصوت واجف مبهور الأنفاس:

- " الله أكبر! لا حول ولا قوة إلا بالله! سبحانك يارب!! ".

لحظتئذ تهاوت أمي على مكان الجرح في الشجرة كما ترتمي الثكلى على قبر ابنها. بصوت مبحوح مذبوح من فرط البكاء راحت تصدر نغمات رفيعة حادة موجعة:

- " حقك على يا أختى! أنا غلطانة فى حقك يارب اقطعني! إعملى معروف قطعت قلبى سقت عليك سيدنا محمد والحسن والحسين أن تسامحيني على غلطتي !!".

وحينما انحنى أبي ليربت على ظهرها كان الدمع يغرق وجهه ويديه وشاش أمي وظهرها المنحني فوق جذع الشجرة، والشمس في كبد السماء تفرد فوقنا " ملاءة في لون اللهب.