جمال العربية

جمال العربية

عندما هتف مجنون ليلى
(أنيري مكانَ البدرِ)

لم يخضع شعر للمراجعة والشك والإنكار والاتهام, كما حدث لشعر مجنون ليلى: قيس بن الملوّح. لم لا وهناك العشرات من الشعراء العشاق, كل منهم يحمل اسم قيس, والعشرات من المعشوقات كل منهن تحمل اسم ليلى. فكان طبيعيًا أن تتداخل الأشعار, وأن يصعب التمييز بين شعر قيس الحقيقي وشعر غيره. وتبلغ الشكوك مداها حين يقول البعض إن قيسًا نفسه لا وجود له, وإن كثيرًا من الشعر الذي نُسب إليه - في حال ثبوت حقيقة وجوده - ينسب إلى غيره من الشعراء, الذين تشابه شعره مع شعرهم في رقته وسلاسته وحرارة عاطفته.

فإذا عدنا إلى ديوان مجنون ليلى - الذي قام بجمعه وتحقيقه وشرحه الأستاذ عبدالستار أحمد فراج - وجدناه يقول في المقدمة الضافية, التي كتبها للديوان نقلاً عن (الأغاني): روى الأصمعي: سألت أعرابيًا من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامري, فقال: عن أيهم تسألني? فقد كان فينا جماعة رُموا بالجنون, فعن أيهم تسأل? فقلت: عن الذي كان يشبب بليلى. فقال: كلهم كان يشبب بليلى. ثم يقول محقق الديوان: (لكن قيس بن الملوح طغى على الجميع, فأُسند إليه كل شعر قيل في ليلى. قال الأصمعي: الذي ألقي على المجنون من الشعر, وأضيف إليه أكثر مما قاله).

وقال الجاحظ: ما ترك الناس شعرًا مجهول القائل, قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون, ولا شعرًا هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح). وقال ابن المعتز: العامة الحمقى قد لهجت بأن تنسب كل شعر في المجون إلى أبي نواس, وكذلك تصنع في أمر مجنون بني عامر, كل شعر فيه ذكر ليلى تنسبه إلى المجنون.

ويختتم محقق الديوان هذه السطور بقوله: (ومجنون ليلى صار رمزًا للعشاق, فكل غزل مجهول, وبخاصة إذا جرى فيه ذكر ليلى أو العامرية أو أم مالك أو أم عمرو, وكان مصيره أن يدخل في دائرة المجنون).

لكن مثل هذه الأقوال - صحّت أو لم تصحّ - لا تنفي الحقيقة الواضحة المؤكدة, وهي حضور مجنون ليلى وشعره في الذاكرة العربية, وامتداد نسيج هذا الشعر في نسيج عدد غير قليل من الشعراء, من بعده, ونفاذ تأثير هذا الشعر - بفضل لغته وجمالياته الخاصة - التي تستقطر أصفى وأجمل ما في القصيدة العربية القديمة من كيمياء شعرية أو ماء شعري - بلغة القدماء - وانتقال هذا الشعر بكل ما صاحبه من أحداث ومواقف وحكايات إلى ديوان الشعر الفارسي, في روح صوفية, ولغة رمزية, وأفق مغاير تمامًا لما كان عليه في ديوان الشعر العربي. فأصبحت ليلى في جمالها الصوفي - كما أُضفي على قيس - فتوصّل بجمالها إلى الله. وقيس بما يحمله من آراء فلسفية في كتابات شعراء الفرس, أسطورة خلقها فلاسفة التصوّف الإسلامي, ليتخذوا منه - كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال رائد دراسات الأدب المقارن - في الجامعات المصرية والعربية - قالبًا لآرائهم في الجمال والحب الإلهيين. وهو أمر شغل نفسه بدراسته وتوثيقه في كتابه البديع (الحياة العاطفية بين العُذْرية والصوفية). ذلك أن التعبير الفني الصوفي عن قيس وليلى سما بفهمهم للجمال والحب إلى ما فوق رغبات الحسّ ودواعي المتعة, ونفذوا به إلى أبعد آماد معانيه التجريدية. فالجمال في الطبيعة والمخلوقات دليل وهادٍ إلى جمال الله تعالى الذي يؤكدون جميعًا أنه مُنزّه عن التشبيه والمثال. وكانت هذه المعاني دافعًا إلى ترجمة قصة ليلى والمجنون التي نظمها الشاعر الفارسي الشهير عبدالرحمن الجامي, وهي الترجمة, التي قام بها الدكتور محمد غنيمي هلال إلى العربية.

لكن هذا كله حديث يطول, نتركه للمهتمين بالدراسات المقارنة بين الأدبين العربي والفارسي. ونعود إلى مجنون ليلى قيس بن الملوح وهو يخاطب ليلى ويناجيها بقوله:

أنيري مكان البدر إن أفَل البدْرُ وقومي مقام الشمسِ ما استأخر الفجْرُ
ففيكِ من الشمس المنيرة ضوؤها وليس لها منكِ التبسّم والثّغْرُ
بلى, لكِ نور الشمسِ والبدْرِ كلُّه ولا حملتْ عينيكِ شمسٌ ولا بدْرُ
لكِ الشّرْفةُ اللألاءُ والبدْرُ طالعٌ وليس لها منْكِ الترائبُ والنَّحْرُ
ومن أيْن للشمسِ المنيرةِ بالضحى بمكحولة العينَيْنِ في طرْفها فَتْرُ
وأنّى لها من دلِّ ليلى إذا انثنتْ بعينيْ مهاة الرّمل قد مسّها الذُّعْرُ
تبسْمُ ليلى عن ثنايا كأنها أقاحِ بِجرْعاءِ المِراضيْنِ أو دُرُّ
مُنعّمةٌ, لو باشر الذرُّ جِلْدَها لأثَّرَ منها في مدارجِها الذرُّ
إذا أقبلت تمشي تُقاربُ خَطْوَها إلى الأقرب الأدنى تقسَّمها البَهْرُ
مريضةٌ أثناء التعطّفِ, إنّها تخافُ على الأردافِ يثْلُمها الخصْرُ
فما أمُّ خِشْفٍ بالعقيقيْنِ ترعوى إلى رشأٍ طفلٍ مفاصلُه خُدْرُ
بمٌخضلّةٍ جاد الربيعُ زُهاءَها رهائمَ وسميٍّ سحائبهُ غُزْرُ
وقفْنا على أطلال ليلى عشيّةً بأجرع حَزْوَى وهي طامسةٌ دُثْرُ
يُجادُ بها مُزْنانِ: أسحمُ باكرٌ وآخرُ معهادُ الرّواحِ له زَجْرُ
وأوْفى على روْض الخُزامى نسيمُها وأنوارُها واخضوْضَر الورق النّضْرُ
رواحًا, وقد حنّت أوائلَ ليلها روائحُ للإظلامِ ألوانُها كُدْرُ
تُقلّبُ عينيّ خازلٍ بين مُرْعوٍ وآثار آياتٍ وقد راحت العُفْرُ
بأحسنَ من (ليلى) مُعيدةَ نظرةٍ إليّ التفاتًا حين ولّت بها السَّفْرُ
مُحاذيةً عيني بدمعٍ, كأنما تحلّبُ من أشفارها دُررٌ غُزْرُ
فلم أرَ إلا مُقلةً لم أَكدّ بها أَشيمُ رسوم الدار ما فعل الذّكْرُ
رفعْن بها خُوص العيونِ وُجوهُها مُلفّعةٌ تُرْبًا, وأعْيُنها خُزْرُ
ومازلت محمود التصبّر في الذي ينوبُ, ولكنْ في الهوى ليس لي صبْرُ


ويقول مجنون ليلى, وهي أبيات تداخلت مع أبيات منسوبة إلى أبي صخر الهُذلي, وأصبح التمييز بينهما شديد الصعوبة, للتشابه الشديد بين شعر الشاعرين لغةً وصورًا ومعجمًا شعريًا وأسلوبَ تناول:

أيا هجْرَ ليلى قد بلغْتَ بيَ المدى وزِدْتَ على ما لم يكن بلَغ الهجرُ
عجِبْتُ لسْعي الدهر بيني وبينها فلما انقضى ما بيْنَنا سكن الدّهرُ
فيا حُبّها زدني جوّى كلَّ ليلةٍ ويا سلوة الأيام موعدُكِ الحشْرُ
أبى القلبُ إلاّ حُبّها عامريةً لها كُنيةٌ عمرو وليس لها عمرو
تكاد يدي تندى إذا ما لمسْتها وينبتُ في أطرافِها الورق الخُضْرُ
ووجه له ديباجةٌ قُرشيّةٌ به تُكشفُ البلوى ويُستنزلُ القَطْرُ
ويهتزّ من تحت الثيابِ قَوامُها كما اهتزّ غُصْنُ البان والفَنَنُ النَّضْرُ
وإنى لتعْروني لذكراكِ هزّةٌ كما انتفض العصفور بلّله القطْرُ
عسى إن حُججنا واعتمرْنا وحُرّمتْ زيارةُ ليلى أن يكون لنا الأجْرُ
فما هو إلا أن أراها فُجاءةً فأُبْهتَ, لا عُرْفٌ لديّ ولا نُكْرُ
فلو أنّ ما بي بالحصى فَلَق الحصى وبالصخرة الصمّاءِ لانْصدع الصخرُ


ثم يقول مجنون ليلى قيس بن الملوّح:

فيا حُبّ ليلى قد بلغت بي المدى وزدْتَ على ما ليس يبلغُهُ الهجْرُ
ويا حُبّها زدني جوًى كلَّ ليلةٍ ويا سلوة الأيام موعدكِ الحشْرُ
فليست عشيّاتُ الحمى برواجعٍ لنا أبدًا ما أُبرمَ السّلمُ النّضْرُ
ولا عائدًا ذاك الزمانُ الذي مضى تباركْتَ, ما تقدرْ يقعْ, ولك الشكرُ
هجرْتُكِ حتى قُلتِ لا يعرفُ القِلى وزُرْتكِ, حتى قُلتِ ليس له صبرُ
صدقْتِ, أنا الحبُّ المصابُ الذي به تباريحُ حُبٍّ خامر القلْبَ أو سحْرُ!


ومن الشعر الذي اختلطت نسبته بين مجنون ليلى وابن الدّمينة, قصيدة ذاعت شهرتها بفضل ما أتيح لها من نفاذٍ إلى مجالات الغناء, فردّدتُها الألسنة وأصغت لها الأسماع, وقد نسبها محقق ديوان مجنون ليلى إلى قيس, بالرغم من إشارته إلى أن البعض ينسبها إلى عبدالله بن الدمينة, تقول أبياتها:

خليليَّ مُرّا بي على الأَبْرقِ الفرْدِ وعهدي بليلى, حبّذا ذاك من عهدِ
ألا يا صَبا نجدٍ متى هِجْتِ من نجْدِ فقد زادني مَسْراكِ وجدًا على وجدي
أإن هتفت ورقاءُ في رونق الضحى على فَننٍ غضٍّ النباتِ من الرّنْدِ
بكيتُ كما يبكي الوليد ولم أَزلْ جليدًا, وأبديْتُ الذي لم أكنْ أُبْدي
وأصبحتُ قد قضّيْتُ كلَّ لُبانةٍ تهاميةٍ, واشتاق قلبي إلى نجدِ
إذا وَعدتْ زاد الهوى لانتظارها وإن بَخِلتْ بالوعد متُّ على الوعدِ
وإن قرُبتْ دارًا بكيْتُ, وإن نَأتْ كلِفْتُ, فلا للقرب أسلو ولا البُعْدِ
وفي كلّ حبٍّ لا محالةَ فرحةٌ وحبُّكِّ ما فيه سوى مُحْكَمِ الجُهْدِ
أحنُّ إلى نجدٍ, فياليْتَ أنّني سُقيتُ على سُلوانِه من هوى نجْدِ
ألا حبّذا نجدٌ وطيبُ تُرابِه وأرواحُه إن كان نجدٌ على العُهْدِ
وقد زعموا أنّ المُحبَّ إذا دنا يُملُّ وأنّ النَّأيَ يشفي من الوجْدِ
بكلٍّ تداويْنا, فلم يُشْفَ ما بنا على أنّ قُرْبَ الدار خيرٌ من البُعْدِ
على أنّ قُرب الدار ليس بنافعٍ إذا كان مَنْ تَهواهُ ليس بذي وُدِّ


ويثبت الديوان لقيسٍ مقطوعة أخرى يقول فيها:

تعلّق رُوحي روحها قبل خَلْقنا ومن بعد أن كُنّا نِطافًا وفي المهْدِ
فعاش كما عشْنا, فأصبح ناميًا وليس - وإن متْنا - بمُنقصف العهدِ
ولكنه باقٍ على كلِّ حالةٍ وسائرُنا في ظُلمةِ القبْر واللّحْدِ
وما وجِدت وجدي بها أم واحدٍ ولا وجد النَّهْديُّ وجدي على هندِ
ولا وجدِ العُذريُّ عُروةُ إذ قضى كوجدي, ولا من كان قبلي ولا بعدي
على أنَّ من قد مات صادفَ راحةً وما لفؤادي من رواحٍ ولا رُشْدِ
يكاد فضيضُ الماءِ يخدشُ جِلْدَها إذا اغتسلتْ بالماء من رقّة الجِلّدِ
وإني لمشتاقٌ إلى ريحِ جَيْبِها كما اشتاق إدريسٌ إلى جنّة الخُلْدِ


وأخيرًا, نستمع إلى قيس وهو يقول:

أقول لأصحابي: هي الشمسُ ضوؤها قريبٌ, ولكنّ في تناولها بُعْدُ
لقد عارضتْني الريحُ منها بنفحةٍ على كبدي من طيب أرواحها بَرْدُ
فما زلتُ مغشيًّا عليّ, وقد مَضتْ أناةٌ, وما عندي جوابٌ ولا ردُّ
أُقلّبُ بالأيدي وأهلي بعوْلةٍ يُفدّونني, لو يستطيعون أن يفْدُوا
ولم يبْق إلا الجِلْدُ والعظْمُ عاريًا ولا عظْمَ لي, إن دام ما بي ولا جِلْدُ
عِديني, بنفسي أنت, وعدًا فرُبّما جلا كُرْبةَ المكروبِ عن قلبِه الوعْدُ
وقد يُبْتلى قومٌ, ولا كَبليّتي ولا مثل جَدّي في الشقاء بكم جَدُّ
غزتْني جنودُ الحبِّ من كلّ جانِب إذا حان من قومٍ قُفولٌ أتى جُنْدُ!


وقد بقى صوت قيس - على تعاقب العصور والأزمان - يحمل أصداء هتفاته ونداءاته العاطفية, ويُجدّد فينا صفاء الحب المتسامي, ويقين الإيمان بالشرف والنُّبْل, في عالمٍ تسيطر عليه البغْضاء, ويسوده القبح والجهامة.

 

فاروق شوشة