من دفتر الذكريات: كلمات خرساء لكنهّا مجنحة

"الحياة مجموعة من الخبرات المتنوعة، وليس بالضرورة أن تتشابه وتتكرر، إنما كثير من الخبرات منفردة تضيف معنى جديدا للحياة، وتعطيها لذة التراكم ، وقد اختارت " العربي " مجموعة من المتميزين العرب ليروي كل بطريقته الخاصة بعضا من ذكرياته التى أصبحت دروسا في الحياة.

           "في خريف عام 1967 أمضيت بضعة أيام في استنبول، منتظرا القطار الذي سيقلني إلى فرنسا كنت أحمل في أعماقي جرحا نازفا ، وقدرة فاترة على الدهشة.

          وذات مساء أردت أن أشاهد فيلما تركيا، اخترت دار سينما تعرض فيلما عنوانه " ملك الانتقام " هكذا ترجم العنوان صديق كان يرافقني، ويعرف شيئا من اللغة التركية. حجزنا تذكرتين لحفلة المساء، ثم دخلنا، وكان التعب يهدنا إلى أقرب مقهى، اخترنا طاولة قرب الواجهة الزجاجية، وجلسنا. كان المقهى يحفل بالضجيج ونثار الكلام، وعطن التبغ الممزوج بروائح القهوة والشاي. هنا أيضا، وكما في كل الأمكنة العامة، كانت تتصدر الجدار الرئيسي صورة لأحد الجنرالات، كان زجاج الصورة نظيفا، والإطار لامعا، وعينا الجنرال تجوسان في فوضى المكان بقسوة وترفع.

          عندما جلست شعرت باسترخاء يدب في أوصالي، تمنيت أن أغفو قليلا، لكن صديقي كان يستطرد في فكاهاته عن العلاقة التاريخية بيننا وبين الأتراك " لقد أرادوا أن يخلصوا لغتهم من تأثيرات العربية، فشكلوا لذلك مجلسا سموه " جمعيات إصلاحات لغات ". تناولت رشفة من فنجان القهوة وسرحت نظرة كسولة في أرجاء المقهى. لفت انتباهي رجل يجلس على طاولة قريبة، ويحاول بسلسلة من الإشارات اليدوية والوجهية أن يعبر عما يدور في ذهنه، قلت في نفسي "ولعلني لم أسمعه " ولكن الرجل الذي يجالسه بدأ بدوره يجيب بالإشارات، ففكرت: " لا شك أن أحدهما أخرس، وأن الإشارات هي الطريقة الوحيدة للتفاهم ". لكن يالدهشتي حين أخذت اكتشف أن كل الذين يتحلقون حول  هذه الطاولة، وحول الطاولات الأخرى المجاورة - أربع أو خمس طاولات - إنما كانوا يتبادلون الحديث بالإشارات راغبين عن الكلام، أهم خرس أم أنهم يتخارسون؟ لا أدري، ولن يكون بوسعي أبدا أن أدري وتسمرت نظراتي عليهم، كانوا ينوفون عن الخمسة عشر رجلا، وقد انزووا في ركن واحد مؤلفين مجتمعا منفصلا عن المجتمع الآخر، رغم أن أحدا لا يفترض أن الأخرس يختلف عن الآخرين، إلا أن حقيقة أنهم جميعا مثلنا نحن الناطقين بدت لى مدهشة، وزادت دهشتي تلك البراعة التي كانوا يتواصلون بها. كانت إشاراتهم سلسة وموجزة. وكان واضحا أنهم لا يجدون صعوبة في التفاهم، وأن بلاغة حركاتهم وإيماءاتهم تعقد بينهم الأواصر بيسر وحنان.

          استغرقتني مراقبة أحاديثهم الأنيقة والصامتة، وكانت الضجة التي تتصاعد في الطرف الثاني من المقهى فظة ومزعجة. إنهم لا يسمعونها وتلك نعمة حقيقية، كانت الإشارات تتوالى في فقرات متساوية يتناوبها الرجال بما يشبه الدور، لم يكن أي منهم يقاطع الآخر، ولم يكن أي منهم يفوته نصيب من الحديث.

          زال تعبي وتيقظت حواسي، كان المكان يتحول إلى مجاز يزدحم بالرموز والدلالات، مدن ممزقة الأشرعة، والمراسي ثقيلة بالزمن والصدأ، وثمة جموع خرساء تجيش في جنباتها، وتمارس طقوسها الإشارية بحثا عن نجاة غير مؤكدة، هل قطعت الألسنة أم أخفيت؟. لا أحد يجرؤ على التوغل في البحث، وتصورت احتفالات مهيبة، الشمس تقرمد المدن، والإشارات تتشابك وتتضاعف مالئة الفضاء، أيد وأصابع وتشكيلات، الكلمات خرساء لكنها مجنحة، والإشارات مقهورة لكنها طافحة بالنبل والجمال. كانت المدن تكشف أسرارها وتعلن عارها.

          وكان يمكن أن أتابع استغراقي، وتداعيات الرؤى في خيالي، لكن موعد الفيلم قد أزف.

          وخرجنا من المقهى تحف بنا لغة الخرسان من جهة، وعينا الجنرال اللتان تجوسان في المكان من جهة ثانية، لاحظت أن العينين تتابعان الخارج حتى يلفظه الباب.

          أما الفيلم التركي فقد كان صورة ممتازة عن سينما التخلف. مبالغات ميلودرامية ينتصر في ختامها الخير على الشر، والفصح على عي اللسان






سعد الله ونوس