توفيق الحكيم مؤلفاً للأغاني فؤاد دوارة

  لو لم يكن توفيق الحكيم واحداً من أكبر كتاب المسرح العربي، لكان من المؤكد أن يكون واحداً من أبرز مؤلفي الأغاني. ففي سيرته مؤشرات عديدة تدلل على صلته الوثيقة بالمغنين والملحنين، وفي مسرحياته محاولات عديدة لتأليف الأغاني بصورة تؤكد ميله الطبيعي للاشتغال بهذه الحرفة.

في طفولته المبكرة تعرف على" الأسطى حميدة الإسكندرانية " العالمة المشهورة، وكانت تكثر من التردد على أسرته، وتنزل ضيفة عليها لفترات غير قصيرة، تسلي جدته بحكاياتها الطريفة وألحانها الجميلة وعزفها على العود. فأحبها توفيق الحكيم وحفظ كثيراً من أغانيها، وكان بعضها لمشاهير الغناء وقتذاك كمحمد عثمان وعبده الحامولي، بل لقد شرعت تدربه على العزف على العود، حتى نجح في عزف نغم متسق، لولا أن ضبطته والدته مرة محتضناً العود، فأطلقت صرخة مدوية وصاحت:

- " لو عرف أبوك يدبحك! ".

وأرغمته على أن يقسم بسيدي البسطامي- وكان قسمها المعظم- على ألا يلمس العود بعد ذلك..

ويضيف الحكيم في سيرته الذاتية:

"وبررت بالقسم.. على أن ذلك لم يمنعني من حفظ الألحان والأغاني، حتى الصعب من الأدوار القديمة التي كانت تؤديها الأسطى ذاتها بمشقة كأدوار عبده الحامولي.. ".

(سجن العمر، ص 97، 98)

إن قارئ رواية " عودة الروح " التي سجل فيها " الحكيم " جوانب عديدة من سيرته العاطفية ليلمس قوة تأثير شخصية تلك العالمة في طفولته، فلا يعجب بعد ذلك حين يراه يهديها ثاني كتاب أصدره وهو " أهل الفن " بهذه العبارة:

" إلى الأسطى حميدة الإسكندرانية أول من علمني الفن " (دار الهلال، 1934) وتزداد أهمية هذا الإهداء حينما نعلم أنه لم يهد أول كتبه وهو " أهل الكهف "لأحد.

وتحدثنا " عودة الروح " أيضاً بأن إتقانه لتلك الأغاني القديمة كان وسيلته للتقرب لجارته " سنية " حبه الأول حين قالت لها عمته " زنوبة ": "- ومحسن كمان ياختى.. متعرفيش إنه بيغني؟ .. دا عليه صوت ياسنية هانم.. أنا ما حكيتلكيش إنه وهو صغير كان اسم الله عليه بيغني مع الأسطى شخلع (وهو الاسم الفني الذي أطلقه على الأسطى حميدة الإسكندرانية) العالمة في التخت " (ص 86).

وهكذا حدد موعدا يزور فيه " محسن " بيت " سنية" لكي يغني لها دور عبده الحامولي الصعب " قدك أمير الأغصان " على أن تصاحبه بالعزف على البيان..

أوبرا فرعونية

وخلال ثورة سنة 1919 برز حب توفيق الحكيم للأغاني في شكل أناشيد ثورية ألفها ولحنها بنفسه فشاعت على ألسنة الثوار. يقول عن تلك المرحلة:

".. يدهشني أني لم أتجه يومئذ إلى الخطابة أو كتابة المنشورات، مثل باقي زملائي ومعارفي، فقد كان اتجاهي هو إلى تأليف الأناشيد الوطنية الحماسية. وأحيانا كنت ألحنها بنفسي مسترشدا في التلحين بأنغام تلك الموسيقى الجنائزية التي كانت تعزفها فرقة حسب الله "الأصلي " أمام نعوش ضحايا المظاهرات.. ".

(سجن العمر ص 159)

وفي المرحلة نفسها ألف " الحكيم " أولى مسرحياته، التي لا نعرف عنها سوى عنوانها، وهو " الضيف الثقيل " وفكرة عامة عن موضوعها المعادي للاستعمار، ذلك الذي رمز له بالضيف الثقيل.

أما مسرحيته الثانية، فقد عثرنا على مخطوطتها، ويتجلى فيها عشقه للموسيقى والغناء، فهي أوبرا شعرية بعنوان " أمينوسا " اقتبسها " الحكيم " عن مسرحية " كارموزين " للشاعر الفرنسي ألفريد دي موسيه ويقول عنها في سيرته الذاتية:

".. نظمت بعضها ثم انصرفت عنها، فأخذها مني زميل لي في الحقوق (محمد السعيد خضير وكيل مجلس الدولة بالمعاش) لإتمام نظمها. ولم أدر ما فعل بها.. إلى أن أخبرني يوما أنه سلمها للعكاكشة " (يقصد إخوان عكاشة الذين أنشأ لهم الاقتصادي الكبير محمد طلعت حرب " شركة ترقية التمثيل العربي " ومسرح الأزبكية) وكان في شأنها أخذ ورد مع سيد درويش الذي قيل إنه طالب بأجر ضخم لتلحينها. فسلموها إلى كامل الخلعي.. فكان في شأنها أيضا أخذ ورد... ولكن المسرحية على كل حال لم تظهر.. ".

(سجن العمر، ص 228، 229)

وقد نقل " الحكيم " أحداث المسرحية الفرنسية من جزيرة صقلية إلى مصر الفرعونية، وجعل بطلتها أمينوسا تشغف حبا بفرعون بعد أن شاهدته في استعراض كبير، ولا تجد من تبوح له بهواها سوى " منحتور" شاعر فرعون:

أمينوسا: (بألم وتنهدات عميقة):
الذي أهواه.. الذي أهواه
الذي أهواه نجم في السماء
وأنا ذرة لا تُرى في الهواء
هل لي رجاء أنال المحال
أين النجوم لحب الرمال؟! "

" كلبوش " وقبقاب!

إذا كانت محاولة توفيق الحكيم الأولى للتأليف للمسرح الغنائي لم تظهر إلى الوجود، فإن له محاولتين أخريين قدمتهما " شركة ترقية التمثيل " (إخوان عكاشة) في عامي 1924 و 1926، وهما " خاتم سليمان " و " علي بابا " فحققتا نجاحاً جماهيرياً كبيراً، وبخاصة الأخيرة التي ظلت تعرض لفترة طويلة، وتناقلتها عديد من الفرق الشعبية والجوالة.

اشترك " الحكيم " في اقتباس مسرحية " خاتم سليمان " مع الكاتب المسرحي القديم مصطفى ممتاز ونقلاها من الجو الأوربي إلى جو شرقي شبيه بجو "ألف ليلة وليلة "، وبالرغم من أننا لم نستطع الاهتداء إلى الأصل الفرنسي الذي اقتبساها عنه، فمن الواضح أنه مقتبس بدوره عن مسرحية شيكسبير " العبرة بالخواتيم " (All's well that ends well) ويقول " الحكيم " إنه تقاسم مع زميله مصطفى ممتاز " وضع منظمات الألحان " (سجن العمر، ص 41) ومن ثم لا يمكن التعرف على الأغنيات التي نظمها من تلك التي ألفها زميله. ولكننا نعرف أن الذي لحنها جميعا هو الموسيقي كامل الخلعي، فقد رسم له توفيق الحكيم لوحة بارعة الجمال والواقعية من خلال معايشته له في أثناء تلحينه لأغاني تلك المسرحية. منها قوله عنه:

" أما أنا فقد عرفته عام 1923 إذ كلفته فرقة عكاشة أن يلحن رواية لي.. فكان من الضروري أن ألقاه من حين إلى حين.. وأن أصغي إليه وقد وضع على رأسه " كلبوشا " من صوف، وارتدى معطفاً قصيراً مرقعاً فوق سروال من " عبك " ينتهي بقبقاب في قدمه من خشب.. وفي صدره العود يضرب عليه بأنغام رائعة لا يفسدها إلا صوته الأجش الذي يقطعه سعال التبغ الرخيص. يخرج من حنجرته كأنه خارج من " ماسورة" خربة في ماكينة طحين!.. ولكن العجيب أني كنت أطرب لذلك الصوت، وأرى كأنه يخرج من بلبل ذهبي الفم فضي الحنجرة.. حتى إذا انتهى من بعض الألحان، طرح العود وهب واقفاً، ليذهب معي إلى " التياترو " لتحفيظ الجوقة.. ".

(فن الأدب، ص 51، 52)

في ذلك الزمان كان " الحكيم " حريصاً على معايشة أهل الفن ومتابعة عروضهم، بل وتدريباتهم، مما كان له أعمق الأثر في ثقافته الفنية والمسرحية، وهو ما كان يفعله في باريس، على عكس ما دأب عليه، منذ عاد إلى مصر، وبدأ تجاربه الفنية في المسرح الفكري وغيره من الأشكال المسرحية الجادة، إذ قلما حضر عرضا لإحدى مسرحياته، بل تدريباتها! لم يكن يحرص على مجالسة كامل الخلعي وحده، أو من يرتبط معهم بأعمال فنية فقط، بل كان يفعل ذلك مع السيد درويش، ومع الممثل والمخرج عمر وصفي وغيرهما ممن حدثنا عنهم بتفصيل ممتع مع ذكرياته، ومن هؤلاء الملحن الكبير داود حسني الذي كتب عنه:

" لم يكن يمضي علي يوم وأنا في مصر قبل سفري إلا وأذهب إلى جوقة عكاشة، أجالس الممثلين والملحنين. أذكر ذات يوم أني جلست أتحدث مع الملحن المشهور " داود حسني " في مسرحيته " الأوبرا " شمشون ودليلة. كانت أول أوبرا كاملة عربية... كان داود حسني يصغي إلى حديثي وهو يترنم بلحن دور جديد للمطربة " نعيمة المصرية ". وإذا هو يلتفت نحوي فجأة ويقول:

" فكر لنا في كلمتين من كلامك لنعيمة المصرية! ".. وظل يغريني بكتابة بعض الأغاني للتخت. ولم أتقبل الفكرة بتحمس، وإن كنت بدأت وأنا في جلستي معه أنظم مطلع أغنية لمجرد إرضائه على نسق أغاني تلك الأيام ومطلعها على ما أذكر:

" حلو القوام ينسى قوام، والحب عنده مالوش دوام".

فقال لي وهو يهز رأسه: " حلو!.. كمل!.. ".

ولكني لم أكمل ولم أستمر... ".

(" سجن العمر "ص 234، 235)

حكيم عيون

وانفرد توفيق الحكيم بكتابة آخر مسرحياته الغنائية، وهي " علي بابا " التي قدمتها فرقة عكاشة في سنة 1926، لم يقتبسها من " ألف ليلة " وحدها، بل- كما أثبتت الباحثة " سزول ياسين "- من أوبرا فرنسية من تأليف ألبرت فانلو وويليام بوسناك، ويقول عنها: "عهد بتلحينها إلى " زكريا أحمد " كما عهد بنظم أغانيها كما رغبت إلى " بديع خيري ".. وذلك بعد أن أتممتها وأرسلتها إليهم من الخارج، ولعلي لم أرسل النظم الذي بدأته لبعدي عن الملحن... ".

(" سجن العمر " ص 131)

غير أن وجود نصوص الأغاني التي ألفها توفيق الحكيم كاملة في نسخة الأوبريت التي أهدى مخطوطتها للمركز القومي للمسرح في الستينيات تجعلنا نرجح أنه أرسلها للفرقة مع نص المسرحية، فلم ترض عن مستوى الأغاني، أو لعل الملحن الشهير هو الذي لم يرض عنها، فكلفت الفرقة بديع خيري بإعادة كتابتها من جديد، وهو صاحب الباع الطويل في هذا المجال.

وقد أتاح لي وجود نسخ أخرى للأوبريت بالمركز القومي للمسرح بها أغاني بديع خيرى عقد مقارنة بينها وبين الأغاني التي نظمها " الحكيم "، ولم تلحن، في دراسة نشرتها بمجلة " المجلة " سنة 1964، وكان من الطبيعي أن ترجح كفة بديع خيري، من حيث سلاستها وموسيقيتها وتعبيراتها الشعبية ودقة تعبيرها عن مختلف المواقف.

ولم أتصور أن هذه النتيجة يمكن أن تثير غضب "الحكيم " أو اعتراضه، إلى أن فاجأني ذات يوم بإحدى غضباته القليلة وهو يشكوني بشيء من الحدة للناقد أحمد عباس صالح وكنا في مبنى " الأهرام " القديم، فإذا به يعتقد أني ظلمته لأن أغانيه أفضل من أغاني بديع خيري!

أكدت لي تلك الغضبة أن هذا الجانب المتواري من موهبة توفيق الحكيم، وأعني به تأليف الأغاني وحب الغناء، مازال متغلغلا في نفسه، يطل برأسه بين الحين والآخر في رواياته ومسرحياته، كأغنية " كتاب الموتي" التي صدّر بها " عودة الروح "، ومواويل الشيخ عصفور في " يوميات نائب في الأرياف " وأشعار " الخيام " و " هايني " التي طرز بها " عصفور من الشرق "، والأغاني التي نظمها أو استشهد بها في مسرحيات " الزمار " (1937)، " صلاة الملائكة " (1941)، " أغنية الموت " (1950)، " صاحبة الجلالة " (1954) " ياطالع الشجرة " (1962)، " كل شيء في محله " (1967)، " الحمار يؤلف " (1970).. بحيث يمكن اعتبار هذه الأغاني المتناثرة أحد مقومات مسرحه، بالإضافة إلى شاعرية حوارها وغنائيته وبصفة خاصة في مسرحيات مثل "شهرزاد " و " صلاة الملائكة " و " بيجماليون " و " رصاصة في القلب" مما سهل على حسين السيد تحويل حوار بعض المواقف في هذه المسرحية إلى ديالوجات ناجحة أبدع محمد عبد الوهاب في تلحينها مثل " حكيم عيون " و " حاقولك إيه عن أحوالي بعد اللي شوفتيه بعنيكي ".