رجاء النقاش صاحب الكلمات المضيئة (ملف العدد)

رجاء النقاش صاحب الكلمات المضيئة (ملف العدد)

كان إنسانًا وناقدًا وروحًا محبة، حول كلماته إلى أشعة من نور، تكشف عن كل ما في ثنايا النص من نقاط إيجابية، يفسر ويشرح ويتعاطف فيقدم نصًا أدبيًا موازيًا. كان النقاش واحدًا من أكثر الكتّاب إيمانًا بالروح القومية الواحدة التي تجمع أبناء الوطن العربي، وأن الثقافة هي النبع الطبيعي لهذا الفكر القومي. ولم يكن في هذا متعصبًا ولا منغلقًا، ولكنه كان مستنيرًا وعقلانيًا ومناصرًا لكل ما هو تقدمي وطليعي في ثقافتنا العربية. رحم الله رجاء النقاش.. غادرنا بجسده، ولكن الرحيق يبقى.

في حب رجاء النقاش
يوسف الشاروني

لن أشير في هذه الكلمات إلى الرحلة الأدبية الثرية لرجاء النقاش وما أضافه إلى حياتنا الثقافية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لكن في هذه المناسبة الوداعية سأشير إلى بعض نقاط تماست فيها مسيراتنا بحكم عشق هواية واحدة جمعت بيننا.

ففي بداية حياته الأدبية حين وفد على القاهرة في الخمسينيات من القرن الماضي - شأنه شأن الكثيرين من أدباء مصر المعاصرين - نشر مقالا يهاجم فيه يوسف السباعي الذي كان وقتئذ ممثل رجال الثورة في المجال الأدبي، وكان قد أنشأ مع إحسان عبدالقدوس - رئيس تحرير مجلة روز اليوسف ونجل صاحبة الدار الصحفية - نادي القصة عام 1956 وأذكر أن يوسف السباعي غضب مما كتبه رجاء واستفسر مني عن مدى معرفتي به. وكان يوسف السباعي يشغل وقتئذ سكرتير عام المجلس الأعلى للفنون والآداب «أضيف فيما بعد العلوم الاجتماعية، كما أصبح المجلس الأعلى للثقافة أخيرا»، لكن زميلي في سكرتارية المجلس الشاعر فوزي العنتيل كان أكثر معرفة برجاء النقاش مني، فأنا قاهري وهما من الأقاليم، فاستطعنا - فوزي العنتيل وأنا - أن ندبر لقاء بين رجاء النقاش ويوسف السباعي لنخفف ماسببته كلمات رجاء من توتر أو جفوة. تلك كانت بداية علاقتي برجاء.

ومما نشره عن كتاباتي - على سبيل المثال - تلك الكلمات الجميلة التي حيا فيها نثري الغنائي «المساء الأخير» الصادر عام 1963 وذلك في صحيفة الأخبار بتاريخ 14 أكتوبر من العام نفسه، جاء فيه: إن هذه المجموعة استطاعت أن تقدم إلينا هذا اللون الصعب من الفن، فهي نثر لكنها تخلق فينا نفس الأثر الذي يخلقه الشعر الجميل النقي. إن المجموعة مليئة بالتأملات الخصبة في العواطف الإنسانية وفي الطبيعة، كما أنها تقوم على أساس اختيار الألفاظ في دقة وحساسية. إن الكاتب ينتقي الألفاظ كما ينتقي الورود، وهو يترك في نفوسنا ذلك الأثر الذي يتركه المنظر الجميل البسيط.

واختتم مقاله بهذه الكلمات: إنها مجموعة تحملنا على جناح الشعر، رغم أنها خارجة على قوانين الشعر، ولا شيء يبرر الخروج على القاعدة في الفن إلا الفن نفسه.

فلما تولى رئاسة تحرير كتاب الهلال - وربما مجلة الهلال - في الستينيات، قرأ لي دراسة عن كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي (توفى 456هـ) وهو من أطرف المؤلفات العربية في موضوع الحب لا يزيد حجمه عن مائة صفحة، لهذا يتميز بالتركيز - بالنسبة لمؤلفات مشابهة في الموضوع نفسه - يستشهد فيه بأشعاره هو - رغم تواضع مستواها - وبتجاربه الشخصية كأن يذكر أنه أحب في صباه جارية شقراء الشعر فما استحسن من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو كانت أجمل من في الدنيا، وأنها ماتت وكانت سنه آنذاك دون العشرين وهي دونه في السن «فوالله ما سلوت حتى الآن، وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها». وعلى أثر نشر هذا المقال في إحدى الدوريات التي لاأذكرها الآن اتصل بي رجاء وطلب مني أن أكتب كتابا عن دراسة ظاهرة الحب في تراثنا العربي، ليس شعر الغزل ولا الحب الصوفي، بل دراسة هذه الظاهرة علىنحو ماجاء في كتاب «طوق الحمامة» الذي يبدأ رسالته بهذه الكلمات، «الحب - أعزك الله - أوله هزل وآخره جد، وهو لا يوصف بل لا بد من معاناته حتىتعرفه، والدين لا ينكره، والشريعة لا تمنعه إذ القلوب بيد الله عز وجل» وبعد أن يقدم ظاهرة الحب في أطوارها المختلفة يختمها بآفاتها وهي أحد أمرين: إما الموت أو بعد لا يُرجى له عودة أو بسبب آفة تزمن. مختتما رسالته بالحديث عن فضل التعفف. وهكذا تم نشر كتابي «دراسات في الحب» في شهر أغسطس 1966 في سلسلة «كتاب الهلال» بعد أن كان محمود العالم قد تولى رئاسة التحرير. لكن الكتاب كان في الأصل من ثلاثة أجزاء: الحب في التراث العربي، الصداقة في التراث العربي، الحب في الدراسات المعاصرة. لكن حجم كتاب الهلال الشهري لم يتسع إلا للجزأين الأولين، لذلك فإنه بعد عشر سنوات رحب الأستاذ عادل الغضبان المسئول الثقافي وقتئذ بدار المعارف بنشر الكتاب كاملًا، ولم يعتذر كما يعتذر بعض الناشرين - الذين يتوهمون في أنفسهم «النصاحة» - إن للكتاب طبعة سابقة، فنشر الكتاب كاملًا بأجزائه الثلاثة. وكانت النتيجة نشر الكتاب - حتى الآن - في ثلاث طبعات بدار المعارف بالإضافة إلى طبعته الأولى في دار الهلال.

الوقفة الثانية مع رجاء النقاش حين كان يرأس تحرير مجلة الدوحة القطرية في الثمانينيات من القرن الماضي. فقد أرسل يطلب مني المشاركة في تحريرها. وفي العدد 62 (فبراير 1981) نشرت قصة بعنوان «الثأر»، وفي نوفمبر من السنة نفسها نشر الدكتور نسيب المنشاوي - في الدوحة أيضًا - مقالا يتهمني فيه بأنني سرقت القصة من قصة «الجمرة الأولى» للأديب السوري نصر الدين البحرة. وقد اتصل بي الأستاذ رجاء النقاش طالبا الرد على هذا الاتهام لينشره في العدد التالي - ديسمبر 1981 - وقد نشره فعلا في الصفحة الأخيرة من العدد وتحت عنواني الذي اخترته للرد «اعترافات لص» وجاء في تقديم الأستاذ رجاء «جاءنا هذا الرد من الأستاذ يوسف الشاروني الذي آثر أن يكتب رده على شكل حوار ساخر» وقد كتبته فعلا علىشكل حوار بين صوتين أحدهما يتهم الآخر والثاني يسخر من الاتهام. وملخص القصة أن صبيين في الريف كانا يصطادان العصافير، غير أن أحدهما أخطأ ذات مرة هدفه وأصاب عين صديقه، فأقسم والد المصاب أن يقتل المخطئ. وتدخل وسطاء الخير واقترحوا حلا يرضي الجميع: ما دام الرجل قد اقسم فلينفذ قسمه، لكن على شرط أن يمر بالسكين بحده غير المسنون، أي يمثل عملية الذبح دون ممارسته. لكن الوالد الممرور عدل السكين ومرره بكل عنف على رقبة الصبي المكشوفة المستسلمة لتنفجر دماؤه بشدة حتى أصاب رشاشها الواقفين. وفي لحظة خارج الزمن انطلقت الرصاصات من أسرة أبودومة تتهاوى متسابقة مرشوقة في جسد سالم الدرمللي»، «ثلاثون رصاصة كما جاء في تقرير الطبيب الشرعي، اخترقت جسده من رأسه إلى أسفل بطنه حتى أصبح كالغربال. تلك كانت البداية». واختتمت الرد بأن أحد مصادر قصصي هو مايرويه الآخرون، وانني استوحيت هذه القصة مما حكاه لي زميل في العمل من أبناء الصعيد كان هو شاهد عيان لها، وهو زميل غير قارئ لنصر الدين البحرة ولا ليوسف الشاروني» وقد ضحك عندما قرأ صحيفة الاتهام المنشورة في الدوحة، ولعلك معي في أن هذه الضحكة أبلغ رد». أما آخر ما كتبته وكنت أتمنى أن يقرأه فهو عرض لكتابه «في حب نجيب محفوظ» في عدد نوفمبر 2007 من مجلة الثقافة الجديدة التي يرأس تحريرها أخي سامي خشبة. وهو الكاتب الذي قدمه رجاء بهذه الكلمات، ولعله كان يعبر عن نفسه أيضا: كان أمامه - أي نجيب محفوظ - أن يكون صاحب جاه ومنصب لكنه آثر أن يكون صاحب قلب وقلم، ثروته النشر ودفء المشاعر الكريمة. ثم يحدد الملامح العامة لشخصية محفوظ، وأنه خرج من مشواره بفاتورة يلخصها رجاء في مرض السكر، وضعف السمع، و49 عملا أدبيا وقصصيا، والرضى عن النفس، والتواضع الجميل، ومحبي إبداعه. وأضيف أنا: وجائزة نوبل والطعنة في رقبته. وفي انتظار أن يبادر أحد أدبائنا الشباب الاحتشاد ليقدم لنا دراسة لمشوار رجاء النقاش عنوانها «في حب رجاء النقاش».