نقد الواقع الافتراضي غياب الجسد والمكان والالتزام الأخلاقي

نقد الواقع الافتراضي غياب الجسد والمكان والالتزام الأخلاقي

أدى ظهور الكمبيوتر (الحاسوب) كأداة تكنولوجية في الحياة اليومية وما تبعه من ثورة معلوماتية ووسائط متعددة للاتصال إلى خلق واقع جديد، ليس هوالواقع ذاته الذي نعيشه، ولكنه يستمد مفرداته منه، ولهذا لا يمكن الاستغناء بهذا العالم الجديد(عالم الإنترنت) عن الواقع الذي نعيش فيه.

يعبر العالم مرحلة من مراحل تطور التكنولوجيا، التي كانت في الأصل تسد الحاجات الملحة وحل مشكلات إنتاج الغذاء وتوفير المسكن والعلاج وتوفير الوقت والجهد في إنتاج الأدوات التي نستخدمها في إنتاج حياتنا، وأصبحت التكنولوجيا تلبي حاجات هامشية، وساهمت هذه الحاجات الجديدة في خلق واقع افتراضي بديل عن الواقع الحقيقي الذي نحياه، وأصبح الأطفال والكبار يجلسون ساعات طويلة أمام شاشة الحاسوب سواء للعمل أوالبحث عن المعلومات الضرورية لحياتهم أولعملهم أو اللعب التكنولوجي، وبالتالي أصح الحاسوب بديلا عن العقل الإنساني الذي يستحيل أن تقوم بدوره آلة من الآلات، مهما كانت درجة الذكاء الاصطناعي بها، لأن ما يقدمه الحاسوب وبرامجه هو معلومات خام تحتاج إلى العقل البشري القادر على تصنيف المعلومات وإعادة إنتاجها وفق تجربة حية فتتحول إلى معرفة وليست معلومات متناثرة. ولذلك هناك فرق بين المعلومات والمعرفة، وكما هناك فرق بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري، كالفرق بين الآلة والمخ.

لكن كيف تحول الحاسوب والإنترنت من بيئة نافعة وأداة للتواصل وخلق بيئة للعمل الناجح إلى بيئة قد تكون مدمرة للكيان الإنساني؟ ما الذي صنعه هذا الواقع الجديد في الإنسان؟

لقد ساهمت شبكة الإنترنت في انتشار ظاهرة الأسماء المستعارة، فالشخص عبر الشبكة يتخلى عن اسمه الحقيقي في الواقع الفعلي ويستخدم اسما مستعارا بل ويقدم عن نفسه صورة غير حقيقية، وهي الصورة التي يريد تقديمها عن نفسه بعيدا من أي التزام أخلاقي أوقيمي، مما جعل الكثيرين يفكرون في سن تشريعات جديدة للتعامل عبر الشبكة ولكن لم تفلح هذه التشريعات في حماية الأطفال والمجتمع من الاستخدام غير المسئول، لأن طبيعة الواقع الجديد عبر الإنترنت يصعب مراقبته والسيطرة عليه.

الذكاء الاصطناعي

وقد بدأت منذ السبعينات من القرن الماضي مناقشات عن الذكاء الاصطناعي والفرق بينه وبين الذكاء الإنساني، من منطلق أن هناك فروقاً كبيرة بين الإنسان ككائن ذي حضور مجسد يتفاعل مع أي موضوع يتناوله عبر مستويات متعددة وبين الوسائط الافتراضية، وقدمت هذه المناقشات نقدا حادا للمشروعات التي حاولت أن تقدم بديلا للعقل الإنساني، ذلك لأن العقل الإنساني يعتمد في بنيته على القدرات الفكرية والتجريدية في تناول الظواهر، مما يخلق تكاملا في الإدراك والفعل الإنساني ويجعل الإنسان قادرا على تقديم حلول مبتكرة مما اضطر الخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي إلى محاولة اعتماد تقنيات جديدة مستمدة من تعقيدات الذكاء البشري ومتطابقة معه في جملة من التفاصيل، وتنشأ الصعوبة من القدرة الشعورية والحضور الجسدي ودورهما في الذكاء الفاعل وتقوم تكنولوجيا الوسائط المتعددة للحاسوب على استبعادهما .

والواقع الافتراضي الجديد (أوالواقع الخائلي على حد تعبير رائد المعلوماتية العربية نبيل علي) الذي يقدم بيئة محاكية للبيئة الواقعية التي ندرسها ليست تكنولوجيا جديدة، بل هي تعريف لمرحلة جديدة من مسيرة التكنولوجيا وهي تكشف عن ماهية التكنولوجيا، فالتكنولوجيا تختلف عن العلم لأنها أداة عملية لأداء مهمة أو حل مشكلة بينما العلم كشف للقوانين التي تحكم الظواهر في صياغة يمكن اختبارها ويمكن تكذيبها أو تعديل الصياغة التي تقدم بها، والتكنولوجيا في عالم اليوم غيرت وظيفتها من تلبية حاجات الإنسان الملحة الفردية والجماعية إلى خلق واقع جديد يغذي حاجات هامشية تعيد صياغة الوجدان والوعي البشري. فمثلا التليفون المحمول كان اختراعه لتسهيل عمل فئات متعددة من المجتمع كالسياسيين والأطباء والمهندسين، ولكنه تحول وسيلة شخصية للتواصل الهاتفي، بدلا من التواصل الحي المباشر فبدلا من أن يقوم الابن بزيارة والدته يكتفي بالحديث الهاتفي معها. وكذلك اختراع الإنترنت كانت مهمته تسهيل عملية الارتباط بين الباحثين في المجالات العلمية، ولكن وظيفة الإنترنت تغيرت بشكل مستمر ومذهل واستولت على كثير من الوظائف مثل البريد والترفيه والتواصل وخلق صورة مضللة للذات، وأصبحت تستولي على كل شيء في حياتنا، ونتيجة لذلك عرضت الموجود البشري لخطر المحو، لأن الإنسان عبر الإنترنت يغيب الجسد فلا أهمية لتفاصيله ويغيب المكان كمحدد أساسي للوجود البشري، فمن يجلس أمام الحاسوب لا يهم من أي مكان ينطلق (من مصر أوالكويت أو فرنسا) لأنه يتنقل بين المواقع في وحدة مكانية تختفي بينها الفروق والتفاصيل، ولا يهمه أن تكون العمارة المجاورة مشتعلة أو تنهار. ولابد أن غياب المكان والجسد على المدى البعيد تقدم شخصا آخر غير الذي نعرفه من قبل، ولذلك فإن الإنسان المعاصر مهدد بهيمنة التكنولوجيا على كل أبعاد حياته.

وأهم بُعد تمحوه التكنولوجيا هو الجسد الإنساني على الرغم من أهمية الجسد في تكوين معنى أي شيء، وأي تجاهل للجسد البشري يؤدي بالضرورة إلى فقدان العنصر الأساسي في بلورة المضامين. ويتم هذا في التعامل مع الإنترنت، فحينما نبحث عن موضوع معين عبر شبكة الإنترنت، لا يكون للجسد أي دور في عملية البحث، بل تقوم بهذا الدور آلات البحث التي تخضع لمجموعة من القواعد والخطوات المبرمجة، وتفتقد المهارة التي تمكنها من الإحاطة بمختلف أبعاد الموضوع. ويمكن أن نلاحظ هذا في برامج الترجمة الآلية للنصوص الأدبية ، فالبرامج يمكن أن تقوم بدور في مراجعة الروابط الالكترونية ولا تخضع للمسئولية العلمية، وبذلك لا تساهم شبكة الإنترنت في تكوين موضوع حداثي ذي هوية متبلورة تسعى إلى تقديم رؤية عقلانية للوجود، بقدر ما تخلق مفهوما مابعد حداثي، مفتوحا على جميع الآفاق.

اتساع الهيمنة

وهذا يجعلنا نتساءل عن أهمية التعليم عن بعد وعن جدواه، لأنه كيف يمكن كسب المهارات، التي نرى استحالتها في حال خلوها من الحضور الجسدي والتحديات والمخاطر التي تفرض عنصر المسئولية والالتزام، كما يستحيل على المستخدمين تجاوز كونهم متلقين غير قادرين على المشاركة في عملية الفهم. لأن «الحضور من على بعد كحضور غير مجسد يلغي الواقع» ويؤدي إلى فقدان التواصل والتناسق - وهي سمة الحضور من بعد- في إلغاء الواقع وتقديم فهم غير منسجم مع حقيقة الأشخاص والأشياء.فالإنترنت لا يستطيع أن يبلغ السيطرة التامة، وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى «الحد الأوسع من الهيمنة» وهوالمعني الذي يشير إلى نزوع الجسد في بلوغ الهيمنة على العالم، إذ إننا نحاول في أثناء إلقائنا النظر على شيء ما، ومن دون قصدية، في الاستحواذ عليه إن جزئيا أوكليا.

«إن هذا الحد الأعلى من السعي للإحاطة والاستحواذ هو نشاط عائد للجسد، وهوينظم إدراكاتنا في الوجود وفق حركته وتجاربه عن أشياء معينة، لو توافرت إمكانية شعور حقيقي بالشيء عن بعد، فسوف تتحقق آنذاك إمكانية الهيمنة على كل شيء وهو احتمال مستبعد في المجال الذي يحول العالم علامات على الرغم من الإنجازات التي حققتها التكنولوجيا بوساطة الصورة ذات الأبعاد الثلاثة والمؤثرات الصوتية، وأجهزة التحكم من بعد.

وتنشأ حالة يمكن تسميتها بالعدمية في متاهة المعلوماتية أي غياب المسئولية في العصر الراهن» لأن المسئولية كعنصر ضروري لتكوين المعنى، وضرورة عنصر المجازفة في بلورة المسئولية والالتزام. إن المشرفين على شبكة الانترنت وضعوا مبدأ المتعة على حساب المحاور الرئيسية في الحياة، وهو دور يحفز على اليأس، والمخرج الذي يمكن أن نقترحه للخروج من دائرة اليأس يتلخص بـ: «استعداد وشجاعة المستخدم على نقل ما كسبه من شبكة الإنترنت إلى العالم الحقيقي غير الافتراضي».إن الإنترنت وسيلة تهدد عملية التعلم، وتسعى إلى الهيمنة علينا، وتسوقنا إلى عالم مجرد من المسئولية والالتزام، الأمر الذي يستدعي استخدامها بحذر شديد .

وعلى الرغم من هذه الجوانب السلبية لما يقدمه الواقع الافتراضي فهناك جوانب إيجابية كثيرة كانت هي الأصل والدافع وراء ابتكار الحاسوب وما تبعه من شبكة الإنترنت، لأنها تتيح للمستعمل أن يتفاعل مع نموذج يمثل محاكاة للبيئة التي يدرسها، ويستطيع المستخدمون التفاعل مع البيئة الافتراضية، سواء من خلال استخدام الأدوات مثل لوحة المفاتيح والسماعات، ويمكن أن تكون محاكاة البيئة مماثلة للعالم الحقيقي، مثلا، محاكاة للتدريب على القتال أو إجراء عملية جراحية، أو أن تختلف اختلافا كبيرا عن الواقع كما في الألعاب ويستخدم الواقع الافتراضي في الفنون بشكل كبير، ولاسيما في المسرح والسينما وفي مجال الدراسات المستقبلية التي تحاول دراسة الاحتمالات الممكنة لظاهرة ما في ظل شروط معينة، وفي برامج الأشعة الطبية التي تتطلب تقديم محاكاة للبيئة الطبيعية من أجل تحديد طبيعة المرض .

وقد تزايد الاهتمام بدراسة التأثير الاجتماعي للتكنولوجيات الجديدة، كما يمكن تبينه في الأدب الخيالي في إطار العلوم الاجتماعية والثقافة الشعبية . إن الواقع الافتراضي يؤدي إلى عدد من التغيرات المهمة في الحياة البشرية، لأن الواقع الافتراضي الذي سيدمج في الحياة اليومية والنشاط يعكس أبنية من القيم والثقافة مختلفة عما نعتنقه، ولهذا التفت القائمون على هذه التكنولوجيا إلى تطوير تقنيات للتأثير في سلوك الإنسان، والتواصل، والإدراك وتعديل الاستهلاك فنحن ننفق وقتا أكثر فأكثر في الفضاء الافتراضي، مما أدى إلى ظاهرة «الهجرة إلى الفضاء الافتراضي»، وأفرز بالتالي تغييرات كبيرة في الاقتصاد، والثقافة، ورؤية العالم.

وشاع تصميم بيئات افتراضية يمكن استخدامها لتوسيع حقوق الإنسان الأساسية في الفضاء الافتراضي، وتعزيز حرية الإنسان ورفاهيته، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي ونحن ننتقل من مرحلة التطور الاجتماعي السياسي المقبل إلى التطور التقني المعلوماتي مما جعل البعض يطلق عليها القنبلة المعلوماتية.

أمراء الواقع الافتراضي

ومن الآثار الواضحة للواقع الافتراضي نجد أن كثيرًا من كتب الخيال العلمي والأفلام التي تصور شخصيات قد «وقعت في مصيدة الواقع الافتراضي». ونجد هذا في رواية «العالم على الأسلاك» التي صدرت في عام 1973 وفي فيلم بعنوان «الطابق الثالث عشر» الذي عرض في عام 1999. وتعرضت لهذا الواقع بوصفه حقيقة جزئية، ويلجأ إليه الإنسان عوضا عن بؤس الواقع (بمعنى أن فقراء في العالم الحقيقي يمكن أن يكونوا أمراء في الواقع الافتراضي) وهناك بعض الأعمال السينمائية تتناول خطر الخلط بين الحقيقة والواقع الافتراضي خصوصًا حين يصعب التمييز بينهما، ولاسيما في الألعاب الإلكترونية وتأثيرها في الأطفال، لأن عالم الواقع الافتراضي هو عالم سحري متفاعل ويقدم إمكانات لا نهائية للضوء والامتداد والصوت والإحساس والرؤية واضطراب المشاعر، ولن يمضي وقت طويل قبل أن يصبح من العسير فصله عن الواقع الحقيقي في حياتنا اليومية.

وهناك الكثير من الناس الذين بدأوا يعتمدون على نظم وبرامج الواقع الافتراضي، وهناك ملايين الافتراضيين حاليا، وهناك ملايين من الناس يستبدلون بالحياة الواقعية أخرى افتراضية، إذ نجد «ألعابا تجري عبر الانترنت ويساهم فيها ملايين اللاعبين في آن واحد»، وهذه أصبحت تتحدى قاعات السينما. وهناك أيضا الكثير من الأفراد الذي يشاركون في منتديات الحوار وحجرات الدردشة عبر الانترنت، وهم ينتحلون شخصيات افتراضية. ويبدو كأن الواقع أصبح وبشكل جزئي إن لم يكن كليا، غير واقعي.

وبغض النظر عما حدث لنظم الواقع الافتراضي التي برزت في منتصف التسعينات وكان يستعان لتحقيقها بنظارات خاصة وبعصا تحكم joystick، «كان الوعد الأصلي للواقع الافتراضي هو إنشاء عالم شبحي، حيث يستطيع الوعي أن يتجول حرا من دون قيود الجسد، لكن ذلك أصبح من الناحية الاجتماعية عتيقا جدا». فالرسالة الكبرى لانبثاق البعد الافتراضي ـ كما يقول بول فيريليوـ هي تحوير تصورنا للمكان والزمان وعلاقتنا بهذين المقومين الأساسيين لنظرتنا للطبيعة والوجود.

زمن واقعي جديد

وهكذا نشهد تشكل زمن واقعي جديد منفصل عن الزمن التاريخي، هو زمن الحاضر الدائم الذي لا يتحدد في فضاء مكاني معطى، بل ينتج ويصوغ أرضيته المكانية ذاتها، في حين أن حركة التاريخ قامت دوما في لحظات محددة متتالية وفي مواقع مكانية عينية. فماذا سيكون الإنسان وقد فقد عناصر تجذره في الكون. أي الزمان بلحظاته الثلاث من ماض وحاضر ومستقبل، والمكان بمكوناته الثلاثة من رحيل وتنقل ووصول.

ويمكن أن نخلص إلى القول إن ما تفضي إليه الحضارة الافتراضية الراهنة هو نوع من إعادة البشرية إلى الانتماء القبلي القديم، ولو من منطلقات وخلفيات مغايرة، إنها تحول الإنسان إلى كائن انفرادي منفصل عن محيطه الاجتماعي، لا يشارك في ميثولوجيا صنع تاريخه، بل لا علاقة له بالقرارات الكبرى التي تصوغ واقعه وتحدد مستقبله. انه سيكون نمطا من «المواطن المعاق» المحمل بأجهزة التواصل التي تعوض إعاقته بغية التواصل مع واقع يتجاوزه ولا أثر له فيه.

من هذا المنظور، يلاحظ الفلاسفة أن الثقافة الافتراضية هي في واقع الأمر مسار تحول انطولوجي عميق (في مستوى الكينونة ذاتها).

فإذا كان القول الفلسفي تمحور منذ فجر الفكر اليوناني حول المرور من الافتراضي إلى الحيني، فان ما نلمسه راهنا هوالاتجاه المعاكس (أي المرور من الحيني إلى الافتراضي) ويعني هذا التحول أن مقاييس الفكر الحديث التي تشكلت منذ عصر الحداثة والتنوير على عقلنة الطبيعة، من حيث هي أبعاد ميكانيكية ثابتة قابلة للقياس والترويض وعقلنة المجتمع، من حيث هو فضاء تاريخي خاضع لمنطق التحول الغائي، قد تغيرت في اتجاه ثقافة من دون موجهات ولا مراكز أو غايات، مما يفسر الحديث المتزايد عن أزمة الدلالة والمعنى ومأزق المرجعية التي لم توفق في تعويضها الأحلام اليسارية الجديدة ولا الخطاب الليبرالي المتطرف.

لذلك بدأ علماء الاجتماع بقراءة الظاهرة وفقًا لأصولها الاجتماعية بأنه وصف لمظاهر وتجليات المجتمع ما بعد الحداثي في حقوله العلمية والفكرية والصناعية والاقتصادية. إذ يمكن أن نرى أن ما بعد الحداثة أتت بعد مرحلة انتقالية فصلت بين الحداثة وما بعدها، نطلق عليها اسم حداثة التخيلات، فهي حداثة أشياء عارضة وانتقالية، وما يحددها هو الترهل والنسيان والفوضى وفق برنامج مسبق وسريع الزوال، فالمرحلة مرحلة تخل ورفض لكل شيء بدءًا من الأيديولوجيات وانتهاء بالإنسان. إنها باختصار مرحلة انتصار المستجد والمستحدث، لكن بالمقابل لا يبدو هذا جديدًا يدعو إلى التفاؤل بقدر ما يمكن تشبيهها بأنها عبارة عن ركام من الانهيارات.

وعلى الرغم من توصيف كل هذه المظاهر وفق منشئها الغربي فإنه يمكن أن نرى أنها تركت آثارها في العالم الثالث الذي لم يتمكن من الدخول إلى عصر الحداثة فحسب، بل فقد هذا العالم حركات تحرره الوطنية مما أفقده قدرته الجاذبة، إذ كان هذا العالم الثالث على حد تعبيره بمنزلة عقيدة مولدة لتضامن الجماهير ولحماس الشباب ولآمال فيها الكثير من الجسارة التي خدمت قضية الحرية وربما استطاعت أن تخلق الثورة الحقيقية حتى داخل التخوم الأوروبية.

يبدو إذن أن المفكر لا يقرأ في ظاهرة ما بعد الحداثة إلا وفقًا لعلاقتها بمضمون الحداثة وإرثها التحريري والتنويري، الذي قضت عليه ما بعد الحداثة، وتهكمت من الذين ما زالوا يتحدثون باسم هذا التراث أو يدعي امتلاكه، لذلك يمكن وصف هذا الفكر بداية وفقًا لعلاقته مع الآخر في المجتمعات المغايرة له، هذه العلاقة التي تحدد مسألة الهويات وتطرحها بوصفها هاجس العصر الحديث بدءًا من هويات الأشخاص والجماعات حتى هويات الدول والقوميات، ويمكن أن ندرك أن ذلك لم يكن ليطرح بهذه الحدة لولا اللايقين الهوياتي الذي تطرحه ما بعد الحداثة، وتتحدث فيه باستمرار مقدسة النزعة الفردية ومرسخة مبدأ التحول بوصفه سمة العصر وروحه. وهذه النزعة الفردية تتعزز مع ثقافة البضاعة والأشياء، والدعاية كلية الحضور، والمشاهد التجارية التي تبدل بشكل من الأشكال هيئة المستهلك من أجل أن تجعل منه زبونًا ذا شهوة شراء دائمة التأجج، وهذه هي مظاهر المجتمع الاتصالي، بوسائطه الإعلامية التي تمنح الجبروت للسماع والصورة اللذين يحافظان على الانطباع بأننا قد بلغنا وتوصلنا إلى تنوع العالم وإلى رؤية التاريخ وهو يتكون ويتشكل. وبفضل هذه الوسائل الاتصالية التي تدخلنا إلى ما بعد الحداثة فيها، فإنها تخلق لنا توترًا شديدًا بين خيبة الأمل وكثير من التعقيد والمسائل غير المحلولة ومن الاعتقادات والأوهام الضائعة والحوادث المأساوية أو غير المتيقن في ما يتعلق بعاقبتها.

إنها تضعنا بين عدم الاستقرار الذي يبدو أبديًا وبين عودة الافتتان بالاستعانة بكل الوسائل من أجل تحقيق الممتنع. فزمانية ما بعد الحداثة إذن تدل على الدخول في عهد ثقافي جديد، بمقدار ما تدل على اضطراب العلاقات المقاومة مع المكان. فالأزمنة الاجتماعية، تنقسم وتتنوع حسب الأوضاع المتحركة التي تعمل فيها، وتتكون في حالة من اللاتحدد، إذ لا زمان من بينها يفرض هيمنته ويجلب استمرارًا نسبيًا، فما نعيشه هو زمن اللاستقرار، الأمر الذي يسهم في تقوية وبلورة وعي يتأسس على الفوري واللحظي رافضًا الأزمنة الماضية، وهازئًا بأزمنة المستقبل. أما بالنسبة إلى علاقة ما بعد الحداثة بالمكان، فيجب أن ينظر إليها من أوجه ثلاثة في ما يخص آثارها الأكثر دلالة: إزالة التوصيف وإزالة التحقيق وتحويره إلى وجود ضمني افتراضي، وخلق التبعثر، وبذلك يتحقق المجتمع ما بعد الحداثي باعتباره مجتمع كل مكان، فالفوري يحل محل الدوام أو المرجأ، وتغدو أماكن البشر بما تحتويه من محسوس، ومن حياة مشتركة مندمجة، تافهة ببلوغها واقع الصورة من خلال «شاشة التلفزيون

أو الكومبيوتر»، أما الاتصال اللفظي فإنه يصاب في عالم ما بعد الحداثة، بما بشبه فقر الدم من تشوه وتحوير، فالآلات تنقل الكلمات أوبالأحرى تتلفظ بها، ويضربها الاتصال التجاري في معظم الأحيان كي ينتج المفاعيل الإعلانية، ويمحوالنطق الصحيح أوالحق. إنها أزمة الكلام بفعل واقع مفارق من حيث الظاهر، واقع يراوح بين أن يكون أكثر مما ينبغي أو يكون دون الكفاية، وهذه الأزمة ستنتج لدينا إفقار الذاكرة وإعادة تكييف زماننا ومكاننا وفقًا لما تبتغي هي وترغب لا وفقًا لما نطلب نحن.

ولكن، كيف سيصبح موقع العقل في هذا العالم الجديد؟ خصوصا أن ما بعد الحداثة لا يكف عن الاستخفاف به والتهكم من وظائفه،إن العقل لن يجد نفسه داخل مجابهة بسيطة وواضحة، بل سيدخل معركة تبحث دون مواربة عن استبعاد الأسطورة واستئصال الأشياء الغامضة، وهو لذلك يفقد وحدته في الوقت نفسه الذي يفقد فيه ثقته، ولا يمنحه ملجأه المفضل (العلم) شاغلًا تامًا واستثنائيًا، إذ لم تعد توجد حصانة سياسية علمية، فالعلم أصبح هو ذاته أسطورة مكتومة، ومنطويًا على أشكال منطق هجينة، كما يمكن ملاحظة أن الفكر الأسطوري والفكر العقلي يتناميان على مستويين مختلفين، إلا أن الفكر الأسطوري يستمر في وجوده داخل الفكر العقلي ويحدد فيه، لذلك ستنشأ رغبات وانفعالات وغرائز من نوع جديد لا تقوم على ثنائية الجسد والروح بقدر ما تتبع للمتوسطات الأداتية والرموز والخيال الاتصالي.

أسرى الوهم

ولذلك سيفقد الموت ألقه وسطوته، إذ لن يعود ذلك التحدي المجهول، أو ذلك السقوط المطلق الذي يحدد نهاية الموجود البشري الأخيرة، أو ذلك المحرض الأعظم والأول لتخيلي استمدت منه المعتقدات والتقاليد قوتها، فالموت في مجتمع ما بعد الحداثة أشبه بحضور غائب محير، إذ إن هذا المجتمع ينكره، عن طريق تأكيده على القدرة المطردة القادرة على دفعه من أجل إلغاء الموت أو مواراته وإبعاده، عن طريق العزل السريري للأشخاص الأكثر قربًا منه، أو معالجات الجثة التي تتيح محاكاة هجعة الحياة، وهذا المحو التدريجي ينال تظاهرات الموت الاجتماعية والأوجه العامة لحلول الموت والمأتم، إذ يجب أن تقلص قدر المستطاع آثار الموت عن طريق إبعاده ونفيه المستمر وجعله باستمرار موتًا للآخرين.

ويبقى الجنس صلة الرجل والمرأة في المجتمع ما بعد الحداثي، إذ لا تقوم بينهما علاقة أخرى كالزواج أو ما شابهه، فالنزعة الجنسية تميل إلى تحقيق ما يمكن وصفه بـ «جنس من دون عمر، من دون عنف، من دون معايير»، وما كان يسمى خطيئة شهوة الجسد سيصبح الهدف من أجل التوصل إلى الشبقية، وتحضر هذه في كل الوسائل بدءًا من دعاية العلاقات الغرامية التي تزيح حدود الحياة الحميمة، وانتهاء بإنجاز خدمة الجنس التي ستصبح مطلب الجميع وصفة الوسائل الاتصالية القادمة التي ستنزع منا حقنا بالرد، ولن تتركنا سوى أسرى التخيل والتلقي الوهمي.

ويمكن القول إن أقرب سمة إلى وصف مجتمع ما بعد الحداثة على أنه مجتمع أقل إنسانية وأكثر بعدًا عنها، فإن ذلك ما دعاه في الخاتمة إلى التوصل إلى أن هذا المجتمع هو نهاية القيم، التي لن يكون لها أي صفة معيارية أو حتى اعتبارية، إنه مجتمع يؤسس لقيمه التي ينتجها ويتعامل معها وفقًا لظرفها القابل للتحول باستمرار، وبالتالي فإن هذه القيم أيضًا - إذا ما بقيت هذه التسمية منطبقة عليها - ستظل عرضة للتغيير والمحو.

 

رمضان بسطاويسي محمد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات